خطبة : (لكل داء دواء فتداووا)

عبدالله البصري
1446/04/14 - 2024/10/17 15:15PM

لكل داء دواء فتداووا      15/ 4/ 1446

 

الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الدُّنيَا دَارُ ابتِلاءٍ وَامتِحَانٍ ، لا يَفتَأُ الإِنسَانُ فِيهَا يُكَابِدُ المَشَاقَّ حَتَّى يُوَدِّعَهَا ، عَلَى هَذَا جُبِلَت مُذْ كَانَت وَعَلَيهِ طُبِعَت ، لا تَدُومُ فِيهَا عَافِيَةٌ وَلا تَبقَى صِحَّةٌ ، وَلا يَستَمِرُّ سُرُورٌ وَلا يَطُولُ فَرَحٌ ، بَلِ المَرءُ فِيهَا يَتَقَلَّبُ مِن حَالٍ إِلى حَالٍ ، يُصَابُ وَيَسلَمُ ، وَيَصِحُّ وَيَسقَمُ ، وَيَقوَى وَيَضعُفُ ، وَيُسَرُّ وَيَحزَنُ ، وَيُبتَلَى وَيُعَافى ، قَالَ تَعَالى : " وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيهِ رَاجِعُونَ . أُولَـئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ " وَإِنَّ مِمَّا يُبتَلَى بِهِ العِبَادُ ، تِلكَ الأَمرَاضَ الَّتي تُصِيبُهُم فَتَتَأَلَّمُ مِنهَا أَجسَادُهُم ، وَتَضِيقُ بِهَا صُدُورُهُم وَنُفُوسُهُم ، بَل وَقَد تَنقَلِبُ حَيَاةُ أَحَدِهِم وَيَتَنَغَّصُ عَيشُهُ وَيَتَكَدَّرُ خَاطِرُهُ ، غَيرَ أَنَّ مِمَّا يَنبَغِي أَن يَكُونَ المُسلِمُ مِنهُ عَلَى ثِقَةٍ ، أَنَّ اللهَ تَعَالى وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ ، لا يُقَدِّرُ عَلَى عِبَادِهِ شَيئًا وَلا يَقضِي لَهُم قَضَاءً ، إِلاَّ وَفِيهِ مِنَ الخَيرِ وَالرَّحمَةِ وَاللُّطفِ بِهِم مَا لا يَعلَمُونَهُ وَلا تُدرِكُهُ عُقُولُهُم ، فَبِالمَرَضِ يُدرِكُ الإِنسَانُ ضَعفَهُ وَعَجزَهُ وَقِلَّةَ حِيلَتِهِ ، فَيَقوَى بِذَلِكَ صَبرُهُ ، وَيَنكَسِرُ غُرُورُهُ وَكِبرُهُ ، وَبِهِ يُرَاجِعُ نَفسَهُ وَيَرجِعُ إِلى رَبِّهِ ، فَيَعظُمُ بِذَلِكَ ثَوَابُهُ وَأَجرُهُ ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " عَجَبًا لأَمرِ المُؤمِنِ ، إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيرٌ ، وَلَيسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلمُؤمِنِ : إِنْ أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيرًا لَهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَا مِن مُسلِمٍ يُصِيبُهُ أذًى ، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ ، إِلاَّ حَطَّ اللهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ ورَقَهَا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَا يُصِيبُ المُسلِمَ مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزنٍ ، وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ ، حَتَّى الشَّوكَةُ يُشَاكُهَا ، إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِن خَطَايَاهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . بَلْ إِنَّ شِدَّةَ البَلاءِ عَلَى خِلافِ مَا يَظُنُّهُ بَعضُ النَّاسِ ، لَيسَت دَلِيلاً عَلَى كُرهِ اللهِ لِعَبدِهِ أَو نَقصِ قَدرِهِ عِندَهُ ، لَكِنَّهَا قَد تَكُونُ دَلِيلاً عَلَى أَنَّ لَهُ عِندَ رَبِّهِ مَكَانَةً كَبِيرَةً وَمَنزِلَةً عَالِيَةً ، وَلِهَذَا كَانَ نَبِيُّنَا وَهُوَ سَيِّدُ الخَلقِ وَأَحَبُّهُم إِلى اللهِ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً ، وَكَانَ المَرَضُ يَشتَدُّ عَلَيهِ أَكثَرَ مِن غَيرِهِ ، قَالَت عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا : مَا رَأَيتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيهِ الوَجَعُ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلم : " إِنَّ الرَّجُلَ لَتَكُونُ لَهُ عِندَ اللهِ المَنزِلَةُ فَمَا يَبلُغُهَا بِعَمَلٍ ، فَلا يَزَالُ اللهُ يَبتَلِيهِ بِمَا يَكرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ إِيَّاهَا " رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَمِن رَحمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ أَن جَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً وَلِكُلِّ مَرَضٍ شِفَاءً ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيثُ خَلَقَ الدَّاءَ خَلَقَ الدَّوَاءَ ، فَتَدَاوَوا " رَوَاهُ أَحمَدُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالى هُوَ خَالِقَ الأَمرَاضِ وَهُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الشِّفَاءُ ، فَإِنَّ أَخذَ الأَسبَابِ لِلوِقَايَةِ مِنَ الأَمرَاضِ وَدَفعِهَا ، أَو لِلتَّعَافي مِنهَا وَرَفعِهَا ، أَمرٌ تَدعُو إِلَيهِ العُقُولُ الصَّحِيحَةُ ، وَهُوَ لا يُنَافي التَّوَكُّلَ وَلا يُضَادُّهُ ، بَل قَد يَكُونُ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلى اللهِ ؛ لأَنَّ فِعلَ الأَسبَابِ مَأمُورٌ بِهِ ، مَعَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ ، وَعَدَمِ التَّسَخُّطِ وَالجَزَعِ . وَمِن رَحمَةِ اللهِ تَعَالى أَنَّ الأَدوِيَةَ مُتَنَوِّعَةٌ ، غَيرَ أَنَّ أَعظَمَهَا وَأَولى مَا يَجِبُ أَن يَتَمَسَّكَ بِهِ المُسلِمُ مِنهَا ، التَّوَجُّهُ إِلى اللهِ بِخَالِصِ الدُّعَاءِ ، مَعَ اليَقِينِ أَنَّهُ تَعَالى هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الشِّفَاءُ ، ثم التَّدَاوِي بِالرُّقَى الشَّرعِيَّةِ مَعَ الإِكثَارِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالاستِغفَارِ ، ثم أَكلُ مَا يَنفَعُ وَاجتِنَابُ مَا يَضُرُّ ، وَالاقتِصَادُ في المَطعَمِ وَالمَشرَبِ ، وَالتَّدَاوِي بِالطَّبِّ النَّبَوِيِّ ، ثم بِمَا سِوَاهُ مِمَّا ثَبَتَ بِالتَّجَرِبَةِ نَفعُهُ ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَن إِبرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلامُ : " وَإِذَا مَرِضتُ فَهُوَ يَشفِينِ " وَقَالَ عَن أَيُّوبَ عَلَيهِ السَّلامُ : " وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاستَجَبنَا لَهُ فَكَشَفنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَمَ : " اُعرُضُوا عَلَيَّ رُقَاكُم ، لا بَأسَ بِالرُّقَى مَا لم يَكُنْ فِيهِ شِركٌ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَفي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى في بَيتِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا جَارِيَةً في وَجهِهَا سَفْعَةٌ - أَيْ سَوَادٌ مَعَ شُحُوبٍ - قَالَ : " اِستَرقُوا لَهَا ؛ فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ " أَيْ أَصَابَتهَا العَينُ . وَفي المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذَا اشتَكَى مِنَّا إِنسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثم قَالَ : " أَذْهِبِ البَاسَ رَبَّ النَّاسِ ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن تَصَبَّحَ بِسَبعِ تَمَرَاتٍ مِن تَمرِ المَدِينَةِ لم يَضُرَّهُ سِحرٌ وَلا سُمٌّ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " في الحَبَّةِ السَّودَاءِ شِفَاءٌ مِن كُلِّ دَاءٍ ، إِلاَّ السَّامَ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَا مَلأَ ابنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِن بَطنِهِ ، حَسبُ ابنِ آدَمَ أُكْلاتٌ يُقِمنَ صُلبَهُ ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " إِنْ كَانَ في شَيءٍ مِن أَدوِيَتِكُم خَيرٌ ، فَفِي شَرطَة مِحجَمٍ ، أَو شَربَةٍ مِن عَسَلٍ ، أَو لَذْعَةٍ بِنَارٍ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَفي الصَّحِيحَينِ مِن حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ نَفَرًا مِن عُكْلٍ ثَمَانِيَةً ، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسلامِ ، فَاستَوخَمُوا الأَرضَ فَسَقِمَت أَجسَامُهُم ، فَشَكَوا ذَلِكَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُم : " أَفَلا تَخرُجُوَن مَعَ رَاعِيَنا فِي إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِن أَلبَانِهَا وَأَبوَالِهَا ؟ " قَالُوا : بَلَى ، فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِن أَلبَانِهَا وَأَبوَالِهَا فَصَحُّوا... الحَدِيثَ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " الحُمَّى مِن فَيحِ جَهَنَّمَ ، فَابرُدُوهَا بِالمَاءِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَبِالجُملَةِ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، فَإِنَّ الدَّوَاءَ مَوجُودٌ إِذَا أَذِنَ اللهُ لِعَبدِهِ بِالشِّفَاءِ ، فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلُوا وَعَلَيهِ فَاعتَمِدُوا ، وَتَدَاوَوا وَلا تَدَاوَوا بِحَرَامٍ .

 

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ مِنَ الوَاجِبِ عَلَى الإِنسَانِ أَن يَحفَظَ نَفسَهُ وَبَدَنَهُ ، وَأَن يَحرِصَ عَلَى سَلامَةِ جَسَدِهِ وَجَوَارِحِهِ ، بِأَخذِ أَسبَابِ الوِقَايَةِ مِنَ الأَمرَاضِ ، وَتَركِ مَا يُسَبِّبُ العِلَلَ وَالأَدوَاءَ ، سَوَاءٌ بِتَنَاوُلِ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ المُفِيدِ ، أَو بِاجتِنَابِ مَا يَضُرُّ بِالبَدَنِ مِن طِعَامٍ أَو شَرَابٍ ، أَو بِأَخذَ العِلاجَاتِ الوِقَائِيَّةِ وَاللِّقَاحَاتِ المَأمُونَةِ ، وَهَذَا يَتَأَكَّدُ في المَوَاسِمِ الَّتي تَكثُرُ فِيهَا الأَمرَاضُ كَالشِّتَاءِ ، فَيَحسُنُ التَّحَصُّنُ بِالعِلاجَاتِ المُنَاسِبَةِ ، وَلَبسِ المَلابِسِ الوَاقِيَةِ ، وَالابتِعَادِ عَنِ المُصَابِينَ وَتَقلِيلِ الخُلطَةِ بِهِم ، مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ قَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ ، وَسُؤَالِهِ العَفوَ وَالعَافِيَةَ في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ .

المرفقات

1729167313_لكل داء دواء فتداووا.docx

1729167314_لكل داء دواء فتداووا.pdf

المشاهدات 1168 | التعليقات 0