خطبة: لقد سألتَ عن عظيم
وليد بن محمد العباد
خطبة :لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيم.
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، من يهده اللهُ فلا مضلَّ له ومن يضللْ فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه صلّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا أمّا بعدُ عبادَ الله عن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ البَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ في جَوْفِ اللَّيْلِ، قَالَ: ثُمَّ تَلَا ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ. هذا حديثٌ عظيمٌ في أصولِ الإسلامِ وقواعدِ الدّين، تلوحُ منه أنوارُ النبوّة، ونُصحُهُ عليه الصلاةُ والسلامُ للأمّة، وفيه سألَ معاذٌ رضي اللهُ عنه رسولَ اللهِ عن الأعمالِ الصالحة، التي تُدخلُ العبدَ الجنةَ وتُنَجّيه من النّار، وهذا من فقهِ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم، وجلالةِ قَدْرِهم وعلوِّ هممِهم وحرصِهم على الخير، فأعظَمَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ ذلك السؤال، وما أعظمَه من سؤال، وأخبرَه أنّه سألَ عن أمرٍ عظيمٍ وثقيل، وهو ذلك الدّينُ العظيم، والعملُ بفرائضِه والوقوفُ عندَ حدودِه، قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) فإنّه شاقٌّ على النّفوس، فقد حُفَّت الجنّةُ بالمكارهِ وحُفَّت النّارُ بالشهوات، ولذا فإنّه يحتاجُ إلى صبرٍ وإيمان، وجهادٍ للنّفسِ والشيطان، كما قالَ تعالى في الصلاة: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) والهدايةُ لذلك والثباتُ عليه، مَحْضُ توفيقٍ وتيسيرٍ من اللهِ واصطفاء، وذلك فضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشاء. ثمّ أخبَرَه بأهمِّ الأعمالِ وأساسِها وهو التوحيد، وأنْ لا يشركَ باللهِ شيئًا، وأنْ يأتيَ بأركانِ الإسلام، وهي الصلاةُ والزكاةُ والحجُّ والصيام، ثمّ حثّهُ على أبوابِ الخيرِ ومنها صيامُ التطوّع، الذي يقيهِ في الدّنيا من الوقوعِ في الشهواتِ والأوزار، ويكونُ له في الآخرةِ حجابٌ عن النّار، ومنها الصدقةُ وقيامُ الليل، ففيهما تكفيرُ الذّنوبِ والسيئات، ومضاعفةُ الحسناتِ ورفعةُ الدّرجات، ثمّ بيّنَ له أنّ رأسَ الدّينِ الإسلام، وهو الاستسلامُ للهِ بالتوحيد، والانقيادُ له بالطاعة، والبراءةُ من الشركِ وأهلِه، وأنّ عمودَ الدّينِ الصّلاة، فإذا سقطَ العمودُ سقطَ البناء، ولا دينَ لمن لا صلاةَ له، ثمّ بيّنَ له أنّه لا سبيلَ لرفعةِ الدّينِ إلا بالجهاد، ثمّ دَلّهُ على أصلِ تلك الخيراتِ وما يكمّلُها ويحافظُ عليها، ألا وهو حفظُ اللسان، والبعدُ عن الفُحشِ في القولِ وفضولِ الكلام، فتعجّبَ معاذٌ رضي اللهُ عنه وسألَ سؤالَ خوفٍ ووجلٍ واستبيان: وهل سنحاسبُ على كلِّ ما يَصدرُ عن ألسنتِنا من كلام؟ فزجرَه رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، ليَعْرِفَ ولتعرفَ الأمةُ خطرَ اللسان، وأخبرَه أنّ أكثرَ ما يُدْخِلُ الناسَ في نارِ جهنّم، هو ما يَصدُرُ عن ألسنتِهم من الكلامِ المحرّم، بل إنّ الرجلَ ليتكلمُ بالكلمةِ من غضبِ الله، لا يُلقي لها بالًا تهوي به في النّار سبعينَ خريفًا. فاتقوا اللهَ رحمكم الله، وتمسّكوا من دينِكم بالعروةِ الوثقى، وتزوّدوا من الأعمالِ الصالحةِ فإنّ خيرَ الزّادِ التقوى، أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرّجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانِه، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه وإخوانِه أبدًا إلى يومِ الدّين، أمّا بعد: عبادَ الله: اتقوا اللهَ حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقى، واحذروا المعاصي فإنّ أجسادَكم على النار لا تَقوى، واعلموا أنّ مَلَكَ الموتِ قد تخطّاكم إلى غيرِكم، وسيتخطّى غيرَكم إليكم فخذوا حذرَكم، الكيّسُ من دانَ نفسَه، وعملَ لمَا بعدَ الموت، والعاجزُ من أتبعَ نفسَه هواها وتمنّى على اللهِ الأمانيّ. إنّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ رسولِ الله، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمينَ فإنّ يدَ اللهِ مع الجماعة، ومن شذَّ عنهم شذَّ في النّار. اللهمّ إنّا نسألُك فعلَ الخيراتِ وتركَ المنكراتِ وحبَّ المساكين، وأنْ تغفرَ لنا وترحمَنا وإذا أردتَ بعبادِك فتنةً فاقبضْنا إليك غيرَ مفتونين، اللهمّ أعنّا على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتِك، اللهمّ طهّرْ قلوبَنا من النّفاق، وأعمالَنا من الرّياء، وألسنتَنا من الكذب، وأعينَنا من الخيانةِ إنّك تعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصّدور، اللهمّ آتِ نفوسَنا تقواها وزكّها أنت خيرُ من زكّاها أنت وليُّها ومولاها، يا حيُّ يا قيّومُ برحمتِك نستغيثُ أصلحْ لنا شأنَنا كلَّه ولا تكلْنا لأنفسِنا طرفةَ عين، ربّنا آتنا في الدّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النّار
اللهمّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمّرْ أعداءَ الدّين، وانصرْ عبادَك المجاهدين، وجنودَنا المرابطين، وأنجِ إخوانَنا المستضعفينَ في كلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمين، اللهمّ آمنّا في أوطانِنا ودورِنا وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا وهيّءْ لهم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ربَّ العالمين، اللهمّ أبرمْ لأمةِ الإسلامِ أمرًا رشدًا يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُذَلُّ فيه أهلُ معصيتِك ويؤمرُ فيه بالمعروفِ ويُنهى فيه عن المنكرِ يا سميعَ الدّعاء، اللهمّ ادفعْ عنّا الغلا والوبا والرّبا والزّنا والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطن، اللهمّ فرّجْ همَّ المهمومينَ ونفّسْ كرْبّ المكروبينَ واقضِ الدَّينَ عن المدينينَ واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهمّ اغفرْ لنا ولوالدِينا وأزواجِنا وذريّاتِنا ولجميعِ المسلمين، برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين. عبادَ الله، إنّ اللهَ وملائكتَه يصلّونَ على النبيّ، يا أيها الذينَ آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليمًا، ويقولُ عليه الصلاةُ والسلامُ: من صلّى عليَّ صلاةً واحدةً صلّى اللهُ عليه بها عشرًا. اللهمّ صلِّ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه أبدًا إلى يوم الدّين. وأقمِ الصلاةَ إنّ الصلاةَ تَنهى عن الفحشاءِ والمنكرِ، ولذكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
إعداد / وليد بن محمد العباد – غفر الله له ولوالديه وأهله وذريته والمسلمين. جامع السعيد بحي المصيف شمال الرياض – الجمعة 17/2/1443هـ