خطبة : (لا تقيد نفسك بين هم وحزن)

عبدالله البصري
1435/02/09 - 2013/12/12 17:56PM
لا تقيد نفسك بين هم وحزن 3 / 2 / 1435


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، نَقرَأُ قَولَ رَبِّنَا وَخَالِقِنَا ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ في كَبَدٍ " فَنَعلَمُ عِلمَ يَقِينٍ ، أَنَّ طَرِيقَ الإِنسَانِ في هَذِهِ الحَيَاةِ ، مَحفُوفٌ بما يَكرَهُ وَلا يُحِبُّ ، وَأَنَّ عَيشَهُ في دُنيَاهُ في مُغَالَبَةٍ وَمُكَابَدَةٍ ، وَلا بُدَّ لَهُ مِن شِدَّةٍ تُصِيبُهُ ، فَيَومًا يَغلِبُ وَيَومًا يُغلَبُ ، وَحِينًا يُسَرُّ وَحِينًا يَحزَنُ ، وَيَصِحُّ زَمَنًا وَيَمرَضُ زَمَنًا ، وَيَغتَنِي مَرَّةً وَيَفتَقِرُ أُخرَى ، بَل وَيقوَى إِيمَانُهُ في وَقتٍ وَتَكثُرُ طَاعَاتُهُ ، وَيُقبِلُ عَلَى رَبِّهِ وَتَزِيدُ قُرُبَاتُهُ ، ثم مَا يَلبَثُ أَن يَفتُرَ وَيَكسَلَ وَيَضعُفَ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ اجتِمَاعَ هَذِهِ الأُمُورِ عَلَيهِ وَتَقَلُّبَهُ في بُحُورِهَا ، وَتَذَكُّرَهُ مَرَارَةَ بَعضِهَا وَفَقدَهُ حَلاوَةَ أُخرَى ، وَخَوفَهُ مِن حُصُولِ مَكرُوهٍ وَفَوَاتِ مَحبُوبٍ ، لا بُدَّ أَن يُورِثَهُ هَمًّا وَحَزَنًا يَزِيدَانِ أَو يَنقُصَانِ ، وَيَغِيبَانِ أَو يَحضُرَانِ ، بَل لا يَكَادَانِ يُفَارِقَانِهِ حَتى يَأذَنَ اللهُ لِمَن رَحِمَهُ بِدُخُولِ الجَنَّةِ دَارِ السَّلامِ ، حَيثُ لا حَزَنَ هُنَالِكَ وَلا هَمَّ وَلا غَمَّ ، وَلا كَربَ وَلا ضِيقَ وَلا أَلَمَ ، بَل دَارُ مُقَامَةٍ في نَعِيمٍ يَكُونُ أَوَّلُ دُعَاءِ أَهلِهِ " الحَمدُ للهِ الَّذِي أَذهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِن فَضلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ "
وَمَعَ هَذَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَمَعَ أَنَّ الدُّنيَا دَارُ هُمٍّ وَحَزَنٍ وَبَلاءٍ ، وَمَرحَلَةُ شِدَّةٍ وَكَبَدٍ وَبَأسَاءَ ، إِلاَّ أَنَّ لِلمَرءِ نَفسِهِ دَورًا كَبِيرًا في التَّخفِيفِ مِن هَذَا أَو زِيَادَتِهِ ، وَلا شَكَّ أَنَّ مَنشَأَ ذَلِكَ وَأَسَاسَهُ ، يَرجِعُ إِلى إِيمَانِ العَبدِ قُوَّةً وَضَعفًا ، وَكَثرَةِ ذِكرِهِ لِرَبِّهِ أَو شِدَّةِ نِسيَانِهِ وَالغَفلَةِ عَنهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى "
فَبِقَدرِ إِيمَانِ المَرءِ تَكُونُ سَعَادَتُهُ ، وَبِقُوَّةِ يَقِينِهِ تَستَقِرُّ نَفسُهُ ، وَبِذكرِهِ رَبَّهُ يَطمَئِنُّ قَلبُهُ وَيَثبُتُ فُؤَادُهُ . رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كَانَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ ، وَالعَجزِ وَالكَسَلِ ، وَالجُبنِ وَالبُخلِ ، وَضَلَعِ الدَّينِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ "
وَقَد جَمَعَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بما عَلَّمَهُ رَبُّهُ في هَذِهِ الدَّعَوَاتِ ، جَمَعَ مَعَانيَ السَّعَادَةِ الدُّنيَوِيَّةِ الكَامِلَةِ ، حَيثُ تَعَوَّذَ مِن أَضدَادِهَا مِن مُنَغِّصَاتِ الحَيَاةِ وَمُكَدِّرَاتِ العَيشِ ، وَهِيَ : الهَمُّ ، حَيثُ يَضِيقُ الصَّدرُ بِسَبَبِ مَا يُتَوَقَّعُ مُستَقبَلاً ، وَالحَزَنُ ، وَهُوَ الضِّيقُ مِن كَثرَةِ تَفكِيرِ المَرءِ فِيمَا مَضَى وَتَأَسُّفِهِ عَلى مَا فَاتَ ، وَالعَجزُ ، وَهُوَ عَدَمُ قُدرَةِ الآلَةِ وَالجَوَارِحِ عَلَى القِيَامِ بما يَأمَلُهُ الإِنسَانُ وَيُرِيدُهُ وَيَطمَحُ إِلَيهِ ، وَالكَسَلُ ، وَهُوَ القُعُودُ عَنِ المَعَالي وَالرُّكُونُ إِلى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ ، وَعَدَمُ السَّعيِ أَو بَذلِ الجُهدِ لِتَحقِيقِ المَطَالِبِ وَالأَمَانِيِّ ، وَالجُبنُ ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّجَاعَةِ وَالإِقدَامِ ، وَالبُخلُ ، وَهُوَ الشُّحُّ بِالمَالِ وَالحِرصُ عَلَيهِ بِشِدَّةٍ ، وَعَدمُ الجُودِ بِهِ في زَكَاةٍ أو صَدَقَةٍ أَو إِيثَارٍ ، وَضَلَعُ الدَّينِ ، وَهُوَ ثِقَلُهُ وَشِدَّتُهُ ، وَتَكَاثُرُهُ حَتى يَعجِزَ صَاحِبُهُ عَن سَدَادِهِ ، وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ ، وَهُوَ قَهرُهُم وَتَسَلُّطُهُم ، وعَدَمُ القُدرَةِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِن أَذَاهُم ...
وَمَا مِن شَكٍّ أَنَّ عِلاجَ كُلِّ هَذِهِ المُسَبِّبَاتِ وَالقَضَاءَ عَلَيهَا ، يَبدَأُ بِقُوَّةِ إِيمَانِ العَبدِ بِرَبِّهِ وَخَالِقِهِ ، وَاليَقِينِ بما عِندَهُ وَصِدقِ التَّوَكُّلِ عَلَيهِ ، وَالثِّقَةِ فِيمَا وَعَدَ بِهِ وَالرِّضَا بما قَدَّرَهُ ، ثم التَّجَافي عَنِ الدُّنيا وَأَهلِهَا ، وَالزُّهدِ في زَخَارِفِهَا وَأَطمَاعِهَا ، وَأَن يَعلَمَ المَرءُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لم يَكُنْ لِيُخطِئَهُ ، وَأَنَّ مَا أَخطَأَهُ لم يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ، وَأَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجتَمَعُوا عَلَى أَن يَنفَعُوهُ بِشَيءٍ ، لم يَنفَعُوهُ إِلاَّ بِشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَهُ ، وَلَوِ اجتَمَعُوا عَلَى أَن يَضُرُّوهُ بِشَيءٍ ، لم يَضُرُّوهُ إِلاَّ بِشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيهِ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ العَاقِلَ يَعِيشُ يَومَهُ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، وَسَاعَتَهُ الحَاضِرَةَ الَّتي هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنهَا ، مُتَوَافِقًا مَعَ مُجتَمَعِهِ الَّذِي هُوَ جُزءٌ مِنهُ وَعُضوٌ في جَسَدِهِ ، مُوَازِنًا بَينَ مَصَالِحِهِ الشَّخصِيَّةِ الخَاصَّةِ ، وَمَصَالِحِ الآخَرِينَ العَامَّةِ ، غَيرَ طَامِعٍ فِيمَا لَيسَ لَهُ ، وَلا مُتَعَدِّيًا عَلَى مَا لِلآخَرِيَن ، وَلا حَابِسًا نَفسَهُ في مَوقِفٍ بِعَينِةِ أَو حَدَثٍ بِذَاتِهِ ، وَلا مُستَسلِمًا لإِخفَاقِهِ مَرَّةً أَو فَشلِهِ وَعَدَمِ حُصُولِ مَا يُرِيدُ ، فَالحَيَاةُ فُرَصٌ مُتَكَرِّرَةٌ ، وَالدُّعَاءُ حَبلٌ مَتِينٌ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَن خَشِيَ الغَرَقِ ، وَاللهُ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ اليَومَ ، أَنَّ تَحَقُّقَ السَّعَادَةِ وَحُصُولَ الرَّاحَةِ ، مَرهُونٌ بِتَحَقُّقِ اللَّذَّاتِ الدُّنيَوِيَّةِ العَاجِلَةِ ، وَنَيلِ الشَّهَوَاتِ المَحسُوسَةِ ، وَالوُصُولِ إِلى الرَّغَبَاتِ النَّفسِيَّةِ ، وَتِلكَ لَعَمرُ اللهِ سَعَادَةُ الأَطفَالِ وَلَذَّةُ الصِّغَارِ ، وَغَايَةُ مُختَلِّي العُقُولِ وَمُنتَهَى تَفكِيرِ المَجَانِينِ ، الَّذِينَ يُغرِقُونَ في طَلَبِ اللَّذَّاتِ العَاجِلَةِ وَالبَحثِ عَنهَا ، وَيَعِيشُونَ أَعمَارَهُم عَلَى تَمَنِّيهَا وَتَخَيُّلِهَا ، وَيَأسَفُونَ وَيَحزَنُونَ لِمَا يَرَونَ أَنفُسَهُم مَحرُومِينَ مِنهُ ، مِمَّا فِيهِ غَيرُهُم مِن مُتَعٍ مَحسُوسَةٍ وَشَهَوَاتٍ رَخِيصَةٍ ، وَيَغفُلُونَ عَمَّا يَعِيشُهُ الكِبَارُ وَيَتَلَذَّذُونَ بِتَحَقُّقِهِ عَلَى أَيدِيهِم ، مِن أَهدَافٍ نَبِيلَةٍ وَغَايَاتٍ جَلِيلَةٍ ، وَيَنسَونَ أَو يَتَنَاسَونَ أَو يَجهَلُونَ أَو يَتَجَاهَلُونَ ، أَنَّ الدُّنيَا بِمُتَعِهَا وَزَخَارِفِهَا ، لم تَكُنْ وَلَن تَكُونَ يَومًا مَصدَرًا لِلسَّعَادَةِ أَو جَالِبَةً لِلرَّاحَةِ ، وَإِلاَّ لَمَا حَجَبَهَا اللهُ ـ تَعَالى ـ عَن صَفوَةِ خَلقِهِ وَمَنَعَهَا خِيرَةَ عِبَادِهِ ، مِنَ الأَنبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالحَوَارِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ ، نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ عَيشَ الكَثِيرِينَ اليَومَ في حَيِّزِ أَهدَافٍ دُنيَوِيَّةٍ دَنِيئَةٍ ، وَتَغَلغُلَهَا في قُلُوبِهِم وَاستِيلاءَهَا عَلَى أَفئِدَتِهِم ، وَغَفلَتَهُم عَنِ الغَايَةِ الكُبرَى مِن خَلقِهِم وَالهَدَفِ الأَسمَى مِن إِيجَادِهِم ، بَل وَعَيشَ فِئَامٍ مِنهُم لأَنفُسِهِم وَانكِفَاءَهُم عَلَى مَصَالِحِهِم الشَّخصِيَّةِ البَحتَةِ ، آخِذِينَ غَيرَ مُعطِينَ ، حَرِيصِينَ عَلَى حُقُوقِهِم مُتَهَاوِنِينَ في وَاجِبَاتِهِم ، إِنَّ ذَلِكَ لَمِن أَسبَابِ عَيشِهِم في هُمُومٍ وَغُمُومٍ وَأَحزَانٍ ، وَشُعُورِهِم بِالضِّيقِ وَالكَربِ وَالشِّدَّةِ ، وَإِلاَّ فَلَو تَفَكَّرُوا وَتَدَبَّرُوا ، وَتَأَمَّلُوا قَلِيلاً وَتَعَقَّلُوا ، لَعَلِمُوا أَنَّهُم إِنَّمَا خُلِقُوا لِعِبَادَةِ رَبِّهِم وَتَزكِيَةِ نُفُوسِهِم ، وَأَنَّ في قَلبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُم فَاقَةً دَائِمَةً وحَاجَةً مُلِحَّةً ، لا يُمكِنُ أَن يَسُدَّهَا إِلاَّ قُوَّةُ العَقِيدَةِ وَالإِيمَانِ بِاللهِ ، وَكَمَالِ التَّعَبُّدِ لَهُ ذُلاًّ بَينَ يَدَيهِ وَخُضُوعًا لِمَا يُرِيدُهُ ، وَإِلاَّ فَسَيَبقَى البَعِيدُ يَشعُرُ بِنَقصٍ شَدِيدٍ وَفَرَاغٍ كَبِيرٍ ، لا تُكمِلُهُ وَلا تَسُدُّه الدُّنيَا بما فِيهَا " وَمَن لم يَجعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ " وَإِنَّ مِن قُوَّةِ الإِيمَانِ وَاليَقِينِ بِاللهِ وَالثِّقَةِ بِمَوعُودِهِ ، أَن يَعلَمَ المَرءُ أَنَّهُ لا يُمكِنُ أَن يَرتَاحَ أَو يَسعَدَ أَو يُسَرَّ وَيَهنَأَ لَهُ بَالٌ ، وَهُوَ عَبدٌ لِنَفسِهِ أَسِيرٌ لِهَوَاهَا ، مُتَّبِعٌ لما تَشتَهِي مُطِيعٌ لها فِيمَا تُملِي عَلَيهِ ، لا يَعِيشُ إِلاَّ لها ، وَلا يَبحَثُ إِلاَّ عَن رَاحَتِهَا ، وَلا يُفَتِّشُ إِلاَّ عَنهَا لِيُبرِزَهَا ، بَعِيدًا عَن مَحَبَّةِ الخَيرِ لِغَيرِهِ ، أَو في مَعزِلٍ عَن إِسعَادِ مَن سِوَاهُ ، وَلَو أَنَّهُ استَقرَأَ سِيَرَ الغَابِرِينَ وَاستَنطَقَ حَيَاةَ النَّاجِحِينَ ، لَوَجَدَ أَنَّ أَصحَابَ الإِنجَازَاتِ العَامَّةِ ، وَالَّذِينَ حَقَّقُوا لأَنفُسِهِم وَلِمُجتَمَعَاتِهِم قَدرًا كَبِيرًا مِن التَّقَدُّمِ ، وَخَدَمُوا غَيرَهُم وَأَعطَوا وَبَذَلُوا وَآثَرُوا عَلَى أَنفُسِهِم وَصَبَرُوا ، هُم غَالِبًا مِن أَسعَدِ النَّاسِ وَأكثَرِهِم رَاحَةً وَأَعظَمِهِم سُرُورًا ، وَأَقَلِّهِم هَمًّا وَأَبعَدِهِم غَمًّا ، وَعَلَى العَكسِ مِن أُولَئِكَ ، فَإِنَّ الَّذِينَ عَاشُوا لأَنفُسِهِم وَانكَفَؤُوا عَلَى ذَوَاتِهِم ، وَلم يُحَقِّقُوا لِمُجتَمَعَاتِهِم إِنجَازًا يُذكَرُ طُوَالَ أَعمَارِهِم ، وَظَلَّوا يَستَعطُونَ وَلا يُعطُونَ ، وَيَستَجدُونَ وَلا يُقَدِّمُونَ ، وَيَجمَعُونَ وَلا يَبذُلُونَ ، لم يَجِدُوا إِلاَّ فَرَاغًا في الأَروَاحِ وَخَوَاءً ، وَوَحشَةً في القُلُوبِ وَضِيقًا ، بَل وَوَحشَةً مِنَ النَّاسِ وَنُفُورًا " وَمَن لم يَجعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ " أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَابحَثُوا عَنِ السَّعَادَةِ في مَوَاطِنِهَا وَاطلُبُوهَا مِن مَظَانِّهَا " وَلا تَهِنُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ " وَلا تَجعَلُوا الدُّنيَا أَكبَرَ هَمِّكُم ، وَلا غَايَةَ قَصدِكُم وَلا مُنتَهَى إِرَادَتِكُم ؛ فَقَد قَالَ نَبِيُّكُم ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فِيمَا رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ : " مَن كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ ، جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ في قَلبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَملَهُ ، وَأَتَتهُ الدُّنيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَن كَانَتِ الدُّنيَا هَمَّهُ ، جَعَلَ اللهُ فَقرَهُ بَينَ عَينَيهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيهِ شَملَهُ ، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ " أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ . أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بما كَانُوا يَعمَلُونَ "

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ رَبَّكُم حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا جُهدَكُم بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَتَحَلَّوا بِاليَقِينِ وَالرِّضَا ، وَالزَمُوا القَنَاعَةَ بما قَسَمَ رَبُّكُم وَقَضى ، فَقَد قَالَ نَبِيُّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " ذَاقَ طَعمَ الإِيمَانِ مَن رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسلامِ دِينًا وَبِمحَمَّدٍ رَسُولاً " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لَيسَ الغِنى عَن كَثرَةِ العَرَضِ ، وَلَكِنَّ الغِنى غِنى النَّفسِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
إِنَّ حُبَّ الدُّنيَا وَالرُّكُونَ إِلَيهَا قد يُحكِمُ قَبضَتَهُ عَلَى بَعضِ القُلُوبِ ، فَتَستَولِي عَلَيهَا الخَوَاطِرُ الفَاسِدَةُ ، وَتَغلِبُهَا الإِرَادَاتُ الضَّارَّةُ ، فَيَعِيشُ أَصحَابُهَا في حَيَاتِهِم بَينَ غَضَبٍ وَسُخطٍ وَكَثرَةِ شَكوَى ، وَانتِصَارٍ لِلنَّفسِ وَعَدَاوَةٍ لِلآخَرِينَ وَانتِقَامٍ مِنهُم .
أَلا فَعِيشُوا دُنيَاكُم كَمَا يَنبَغِي ، وَلا تُعطُوهَا أَكثَرَ مِن حَقِّهَا ، فَتَتَحَسَّرُوا عَلَى فَائِتٍ أَو تَحزَنُوا عَلَى مَفقُودٍ ، أَو تَهتَمُّوا وَتَخَافُوا مِن مُستَقبَلٍ بَعِيدٍ ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ مَا مَضَى فَاتَ وَالمُؤَمَّلَ غَيبٌ ، وَأَن لَيسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ سَاعَتُهُ الَّتي هُوَ فِيهَا ، فَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَسَلِّمُوا إِلَيهِ ، وَقَدِّمُوا الخَيرَ عِندَهُ تَجِدُوهُ ...
اللَّهُمَّ أَصلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصمَةُ أَمرِنَا ، وَأَصلِحْ لَنَا دُنيَانَا الَّتي فِيهَا مَعَاشُنَا ، وَأَصلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتي فِيهَا مَعَادُنَا ، وَاجعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا في كُلِّ خَيرٍ ، وَالمَوتَ رَاحَةً لَنَا مِن كُلِّ شَرٍّ .
المرفقات

لا تقيد نفسك بين هم وحزن.doc

لا تقيد نفسك بين هم وحزن.doc

لا تقيد نفسك بين هم وحزن.pdf

لا تقيد نفسك بين هم وحزن.pdf

المشاهدات 3121 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا ونفع بك


خطبة قيمة حفظك الله ونفع بك