خطبة : ( قل لا للشائعات )

عبدالله البصري
1438/11/11 - 2017/08/03 16:53PM

قل لا للشائعات      12 / 11 / 1438

 

 

الخطبة الأولى :

 

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم - أَيُّهَا النَّاسُ - وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ ، وَاستِشعَارِ مَعِيَّتِهِ في كُلِّ مَكَانٍ ، فَإِنَّهُ - سُبحَانَهُ - " يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَيَعلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَم نَرَى اليَومَ وَنَسمَعُ مِن كِتَابَاتٍ وَمَقَالاتٍ ، وَكَم نُشَاهِدُ وَنَقرَأُ مِن قِصَصٍ وَأَخبَارٍ وَطَرَائِفَ ، تَعُجُّ بها صَفَحَاتُ الصُّحُفُ وَمَوَاقِعُ الشَّبَكَاتُ ، وَتَنقُلُهَا بَرَامِجُ التَّوَاصُلِ في الجَوَّالاتِ ، في حَالٍ مِن عَدَمِ التَّبَيُّنِ وَالتَّثَبُّتِ ، وَجَوٍّ مِنَ العَجَلَةِ وَالتَّسَرُّعِ . فَكَم مِن شَخصٍ أُدخِلَ القَبرَ وَهُوَ مَا زَالَ حَيًّا ! وَكَم مِن خَبَرٍ شَاعَ وَذَاعَ ، حَتَّى أَفَاضَ النَّاسُ فِيهِ وَتَدَاوَلُوهُ ، وَتَقَبَّلُوهُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لا مِريَةَ فِيهِ وَصِدقٌ لا شَكَّ فِيهِ ، وَكَم مِن بِشَارَةٍ طَارَ النَّاسُ بِهَا فَرَحًا ، أَو خَبَرٍ أَزعَجَ أَفئِدَةً وَرَوَّعَ قُلُوبًا ، وَكَم تَنَاقَلَ النَّاسُ مِن تَعلِيقَاتٍ وَتَحلِيلاتٍ ، وَتَرَاسَلُوا بِتَنَبَّؤُاتٍ واستِقرَاءَاتٍ ، وَانسَاقُوا وَرَاءَهَا دُونَ تمييزٍ ، وَجَعَلُوا يُرَدِّدُونَهَا دُونَ تَفكِيرٍ وَلا تَمحِيصٍ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَتِ الأُمُورُ وَبَدَت شَمسُ الحَقِيقَةِ ، وَإِذَا كُلُّ ذَلِكَ إِفكٌ مُفتَرًى وَكَذِبٌ مَحضٌ ، اختَرَعَهُ قَومٌ لا يُؤمِنُونَ ، وَنَقَلَهُ أَشخَاصٌ مُغَفَّلُونَ ، وَصَدَّقَهُ جَهَلَةٌ لا يَعقِلُونَ . وَإِنَّكَ لَتَجِدُ في بَعضِ النَّاسِ عَجَلَةً وَطَيشًا ، فَمَا يَكَادُ يَسمَعُ خَبَرًا جَدِيدًا ، أَو يَجِدُ نَبَأً غَرِيبًا ، حَتَّى يُبَادِرَ إِلى نَشرِهِ وَإِشهَارِهِ ، غَافِلاً عَن أَنَّهُ قَد يَكُونُ فَضِيحَةً شَنِيعَةً ، أَو نَشرًا لِقَالَةِ سُوءٍ مُرِيبَةٍ ، أَو كَذِبًا صُرَاحًا وَزُورًا ظَاهِرًا . فَحَقٌّ عَلَينَا – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – أَن نَتَثَبَّتَ وَنَتَبَيَّنَ في كُلِّ مَا نَقرَأُ أَو نَنقُلُ ، حَذَرًا مِنَ الإِضرَارِ بِالنَّاسِ في نُفُوسِهِم ، أَوِ الاعتِدَاءِ عَلَى أَعرَاضِهِم أو عُقُولِهِم ؛ فَإِنَّ لَهُم أَعرَاضًا يَجِبُ أَن تُحمَى ، وَكَرَامَةً لا بُدَّ أَن تُصَانَ ، وَعُقُولاً يَنبَغِي أَن تُقَدَّرَ وَتُحمَى مِنَ التَّلاعُبِ بها .

إِنَّ الشَّائِعَاتِ دَاءٌ خَطِيرٌ ، انتَشَرَ في زَمَانِنَا لِخِفَّتِهِ وَسُهُولَتِهِ ، وَغَفلَتِنَا عَن عِظَمِ أَمرِهِ وَشَنَاعَتِهِ ، إِذْ قَالَ اللهُ – تَعَالى - في بَعضِ صُوَرِهِ المَشِينَةِ : " إِذْ تَلَقَّونَهُ بِأَلسِنَتِكُم وَتَقُولُونَ بِأَفوَاهِكُم مَا لَيسَ لَكُم بِهِ عِلمٌ وَتَحَسبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ " وَكَيفَ لا يَكُونَ أَمرُ الشَّائِعَاتِ خَطِيرًا وَضَرَرُهَا جَسِيمًا وَهِيَ مِن أَسلِحَةِ المُنَافِقِينَ ، الَّتي استَخدَمُوهَا مُنذُ بُزُوغِ شَمسِ الإِسلامِ ، وَمَا زَالُوا يَستَخدِمُونَها لِتَوهِينِ المُسلِمِينَ وَالإِرجَافِ بِهِم وَإِشَاعَةِ الفَوضَى في صُفُوفِهِم ؛ لإِضعَافِ رُوحِهِمُ المَعنَوِيَّةِ ، وَتَقوِيَةِ جَانِبِ أَعدَائِهِم ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافَ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

وَالشَّائِعَاتُ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - لا تَأتي إِلاَّ مِن نُفُوسٍ خَبِيثَةٍ وَأَفئِدَةٍ مَرِيضَةٍ ، مُطِيعَةٍ لِتَسوِيلِ الشَّيطَانِ وَوَسوَسَتِهِ ، أَو مِن أُخرَى غَيرِ وَاعِيَةٍ لِمَا حَولَهَا مِن أَحدَاثٍ ، وَلا مُدرِكَةٍ لأَثَرِ مَا تُشِيعُهُ مِن كَذِبٍ وَإِرجَافٍ ، وَالَّذِينَ يَنشُرُونَ الشَّائِعَاتِ وَيُرَوِّجُونَ لَهَا ، إِمَّا مُنَافِقُونَ مُرجِفُونَ ، أَو جَهَلَةٌ مَخدُوعُونَ ، وَاللهُ - تَعَالى - يَقُولُ مُقَبِّحًا فِعلَ هَؤُلاءِ وَمُحَذِّرًا مِنهُ : " وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً " وَالشَّائِعَاتَ كَذِبٌ وَبُهتَانٌ ، وَ" إِنَّمَا يَفتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ " وَهِيَ ظَنٌّ وَتَخمِينٌ ، وَ" الظَّنُّ أَكذَبُ الحَدِيثِ " وَيَكفِي في ضَعفِ الشَّائِعَةِ وَوَهنِهَا ، أَنَّهَا لا مَصدَرَ لَهَا وَلا مَنبِتَ ، فَهِيَ حُلمُ يَقَظَةٍ لاكَتهُ الأَفوَاهُ وَاستَهلَكَتهُ الأَلسُنُ ، وَإِن كَانَ لَهَا مِن مَصدَرٍ فَهُوَ التَّخمِينُ وَالظُّنُونُ ، أَوِ النَّقلُ عَن وَكَالَتَي " سَمِعنَا " وَ" يَقُولُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ تَأرِيخَ الشَّائِعَاتِ وَمَنشَأَهَا قَدِيمٌ ، وَلم يَسلَمْ مِنهَا أَحَدٌ حَتَّى الأَنبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ ، فَهَذَا نُوحٌ - عَلَيهِ السَّلامُ - أُشِيعَ عَنهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ أَن يَتَزَعَّمَ وَيَتَأَمَّرَ عَلَى قَومِهِ ، وَمُوسَى - عَلَيهِ السَّلامُ - رُمِيَ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ وَمُشَعوِذٌ ، وَمَريَمُ الطَّاهِرَةُ البَتُولُ ، اتُّهِمَت بِالزِّنَا وَقِيلَ عَنهَا أَسوَأَ قَولٍ : " قَالُوا يَا مَريَمُ لَقَد جِئتِ شَيئًا فَرِيًّا " بَل أُشِيعَ عَن صَفوَةِ الخَلقِ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - أَنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ ، بَل وَاتُّهِمَت زَوجَتُهُ الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ بِالفَاحِشَةِ ، وَكَلَّفَت تِلكَ الشَّائِعَةُ أَطهَرَ النُّفُوسِ آلامًا نَفسِيَّةً لا تُطَاقُ ، وَجَعَلتَهَا تَمُرُّ بِتَجرِبَةٍ مِن أَقسَى التَّجَارِبِ وَأَمَرِّهَا عَلَى الإِطلاقِ .

وَمَا زَالَتِ الشَّائِعَاتُ مُنذُ تِلكَ العُصُورِ الغَابِرَةِ وَالأَزمِنَةِ الخَالِيَةِ ، تُذَاعُ وَتُنشَرُ ، عَن أَولِيَاءِ اللهِ وَعَنِ الصَّالِحِينَ ، بَل وَعَن غَيرِهِم مِن سَائِرِ النَّاسِ ، بَل وَعَن أَشيَاءَ لا حَقِيقَةَ لَهَا وَلا وُجُودَ ، وَمَا زَالَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ سَخِيفًا خَفِيفًا ، أَطيَشَ مِنَ الفَرَاشِ وَأَخَفَّ مِنَ الخُفَّاشِ ، مَا يَسمَعُ خَبَرًا إِلاَّ أَذَاعَهُ ، وَلا يَمُرُّ بِهِ حَدِيثٌ إِلاَّ أَشَاعَهُ ، مِن غَيرِ تَرَوٍّ وَلا تَثَبُّتٍ ، غَيرَ آبِهٍ بِأَن يَكُونَ مَطِيَّةً لِلقِيلِ وَالقَالِ ، أَو قَنَاةً لِتَروِيجِ الأَخبَارِ الكَاذِبَةِ وَالمَقَالاتِ المَزعُومَةِ . وَأَمَّا في أَزمِنَةِ الفِتَنِ وَأَوقَاتِ المِحَنِ ، حَيثُ يَكثُرُ الخَوفُ وَيَشِيعُ القَلَقُ مِنَ المُستَقبَلِ عِندَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ، فَإِنَّ الشَّائِعَاتِ تُصبِحُ هِيَ مَرتَعَ الأَعدَاءِ لِتَفرِيقِ الصُّفُوفِ وَنَشرِ الخِلافَاتِ ، أَو إِثَارَةِ الرُّعبِ وَبَثِّ الهَلَعِ في النُّفُوسِ ، وَنَزعِ الثِّقَةَ بِالنُّفُوسِ والأُمَّةِ وَالقِيَادَةِ ، وَنَشرِ الضَّغَائِنَ وَتَصدِيعِ الكَيَانِ .

وَيَتَسَاءَلُ المُؤمِنُ العَاقِلُ : كَيفَ نَقِي أَنفُسَنَا مِن خَطَرِ الشَّائِعَاتِ وَنَتَّقِي شَرَّهَا ؟؟ وَمَا وَاجِبُنَا تِجَاهَهَا وَمَاذَا نَفعَلُ حِيَالَهَا ؟؟ فَنَقُولُ - أَيُّهَا الإِخوَةُ - إِنَّ الوِقَايَةَ مِن تِلكَ الحُمَّى المَقِيتَةِ المُستَشرِيَةِ ، يَسِيرَةٌ عَلَى مَن يَسَّرَهَا اللهُ عَلَيهِ مِنَ المُؤمِنِينَ ، هَيِّنَةٌ عَلَى مَن وَفَّقَهُ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَهِيَ لا تَتَطَلَّبُ غَيرَ تَقوَى اللهِ وَمُرَاقَبَتِهِ ، وَالخَوفِ مِنهُ حَقَّ الخَوفِ وَتَذَكُّرِ مَعِيَّتِهِ ، وَأَنَّهُ " مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ إِلاَّ لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " وَأَنَّ " السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسؤُولاٌ " كَمَا أَنَّ مِمَّا يُضعِفُ أَمرَ الشَّائِعَاتِ الإِيمَانَ الصَّادِقَ ، وَقُوَّةَ العَقِيدَةَ ، وَالحَذَرَ مِن أَن يَكُونَ المَرءُ مِن المُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ - تَعَالى - فِيهِم : " فَإِذَا جَاءَ الخَوفُ رَأَيتَهُم يَنظُرُونَ إِلَيكَ تَدُورُ أَعيُنُهُم كَالَّذِي يُغشَى عَلَيهِ مِنَ المَوتِ " وَمِمَّا يَقِي مِن خَطَرِ الشَّائِعَاتِ ، الوَعيُ بِأَهدَافِ أَعدَاءِ الإِسلامِ ، وَأَنَّهُم يَكِيدُونَ لَهُ وَلأَهلِهِ كَيدًا عَظِيمًا ، وَيُحَاوِلُونَ القَضَاءَ عَلَيهِ أَو عَلَى الأَقَلِّ تَشكِيكَ النَّاسِ فِيهِ وَهَزَّ مَبَادِئِهِ العَالِيَةِ . وَمِن ذَلِكَ - أَيُّهَا الإِخوَةُ - أَن يَظُنَّ المُسلِمُ بِإِخوَانِهِ المُسلِمِينَ الظَّنَّ الحَسَنَ ، وَأَلاَّ يَجعَلَ لِلشَّيطَانِ عَلَيهِ سَبِيلاً ، قَالَ - سُبحَانَهُ - : " لَولا إِذْ سَمِعتُمُوهُ ظَنَّ المُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بِأَنفُسِهِم خَيرًا وَقَالُوا هَذَا إِفكٌ مَبِينٌ " ثُمَّ عَلَيهِ أَن يَطلُبَ مِن صَاحِبِ الإِشَاعَةِ الدَّلِيلَ وَالبُرهَانَ ، وَخُصُوصًا في مِثلِ هَذَا الزَّمَانِ ، وَفي ظِلِّ هَذِهِ التِّقنِيَاتِ الَّتي جَعَلَتِ العَالَمَ كَالقَريَةِ ، يَسمَعُ مَن بِأَقصَاهُ مَا يَجرِي في أَدنَاهُ ، وَيُتَدَاوَلُ الخَبرُ فِيهَا كَمَا يَتَدَاوَلُهُ القَومُ في مَجلِسِهِم .
ثُمَّ إِنَّ عَلَى المُسلِمِ أَلاَّ يُرَدِّدَ كُلَّ مَا سَمِعَ ، فَإِنَّ مَن هَذَا دَيدَنُهُ وَتِلكَ صِفَتُهُ ، فَهُوَ إِلى الكَذِبِ وَتَحَمُّلِ الوِزرِ ، أَقرَبُ مِنهُ إِلى الصِّدقِ وَاكتِسَابِ الأَجرِ ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " كَفَى بِالمَرءِ كَذِبًا أَن يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ " رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَفي رِوَايَةٍ عِندَ أَبي دَاوُدَ : " كَفَى بِالمَرءِ إِثمًا أَن يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا يَسمَعُ " وَاللهُ - تَعَالى - يَقُولُ : " لَولا جَاؤُوا عَلَيهِ بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لم يَأتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُونَ " وَعَلَى المُسلِمِ أَن يَتَنَاسَى الشَّائِعَاتِ وَلا يَذكُرَهَا لأَحَدٍ ، وَأَن يَرفَعَ نَفسَهُ عَن نَقلِهَا وَتَروِيجِهَا ، بَل وَلا يُفَكِّرَ فِيهَا وَلا يَهتَمَّ بها ، وَلا يَكُنْ حَالُهُ كَحَالِ أُولَئِكَ الصَّحفِيِّينَ ، الَّذِينَ هَمُّ أَحَدِهِم أَن يُحَقِّقَ سَبقًا صَحفِيًّا لِنَفسِهِ أَو لِصَحِيفَتِهِ ، حَتَّى وَلَو كَانَ ذَلِكَ عَلَى حِسَابِ عُقُولِ عِبَادِ اللهِ .
وَمَا أَجمَلَهُ بِالمُسلِمِ إِذَا سَمِعَ شَائِعَةً أَو أُرسِلَت إِلَيهِ ، أَن يَجعَلَ نُصبَ عَينَيهِ قَولَ الحَقِّ - سُبحَانَهُ - : " وَلَولا إِذْ سَمِعتُمُوهُ قُلتُم مَا يَكُونُ لَنَا أَن نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبحَانَكَ هَذَا بُهتَانٌ عَظِيمٌ " وَمِمَّا يَقِي مِنَ الشَّائِعَاتِ وَيُقَلِّلُ مِنهَا ، أَن يَستَشعِرَ المُسلِمُ أَنَّهُ قَد يَنقُلُ كَذبَةً وَإِن لم يَكُنْ هُوَ مَنشَأَهَا وَمَصدَرَهَا ، فَتَبلُغُ الآفَاقَ وَتَضرِبُ في الأَصقَاعِ ، فَيَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِمَا جَاءَ في الحَدِيثِ عَنهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " رَأَيتُ اللَّيلَةَ رَجُلَينِ أَتَيَاني فَأَخَذَا بِيَدِي ، فَأَخرَجَاني إِلى الأَرضِ المُقَدَّسَةِ ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأسِهِ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِن حَدِيدٍ ، فَيُدخِلُهُ في شِدقِهِ فَيَشُقُّهُ حَتَّى يُخرِجَهُ مِن قَفَاهُ ، ثُمَّ يُخرِجُهُ فَيُدخِلُهُ في شِدقِهِ الآخَرِ وَيَلتَئِمُ هَذَا الشِّدقُ ، فَهُوَ يَفعَلُ ذَلِكَ بِهِ . فَقُلتُ : مَا هَذَا ؟ فَقَالا لي انطَلِقْ . ثُمَّ ذَكَرَ الحَدِيثَ حَتَّى قَالَ : أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي رَأَيتَ ؛ فَإِنَّهُ رَجُلٌ كَذَّابٌ يَكذِبُ الكَذبَةَ فَتُحمَلُ عَنهُ في الآفَاقِ ، فَهُوَ يُصنَعُ بِهِ مَا رَأَيتَ إِلى يَومِ القِيَامَةِ ، ثُمَّ يَصنَعُ اللهُ - تَعَالى - بِهِ مَا شَاءَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَلْنَحفَظْ أَلسِنَتَنا وَجَوَارِحَنَا ، وِلْنَزِنْ أَقوَالَنَا وَأَفعَالَنَا ، وَلا يَكُنْ أَحَدُنَا إِمَّعَةً مُقَلِّدًا ، يَتبَعُ النَّاسَ في كُلِّ مَا يَفعَلُونَ أَو يَقُولُونَ ، وَلْنُوطِّنْ أَنفُسَنَا عَلَى الإِحسَانِ وَالإِصلاحِ ، وِلْنَحذَرِ الفَسَادَ وَالإِفسَادِ ، وَلْنَتَذَكَّرْ قَولَ رَبِّنَا – سُبحَانَهُ - : " فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَومًا بِجَهَالَةٍ فَتُصبِحُوا عَلَى مَا فَعَلتُم نَادِمِينَ .

 

 

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَأَطِيعُوهُ - وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ نَقلَ الأَخبَارِ لَيسَ بِالسَّهلِ وَلا الهَيِّنِ ، غَيرَ أَنَّ بَعضَنَا حِينَمَا تَأتِيهِ رِسَالَةٌ ، أَو يَسمَعُ مِن أَحَدٍ كَلِمَةً ، يُسَارِعُ لِلنَّشرِ وَالإِذَاعَةِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَقَلَ عَن ثَبتٍ ثِقَةٍ في نَظرِهِ ، وَيَخفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَّا أَنَّ ثَمَّةَ مَدَاخِلَ تُؤَدِّي إِلى إِعَادَةِ النَّظرِ فِيمَن نَنقُلُ وَفِيمَا نَنقُلُ ، فَقَد يَكُونُ أَحَدُنَا ثِقَةً في دِينِهِ وَمُعتَقَدِهِ ، بَعِيدًا عَن تَعَمُّدِ الكَذِبِ وَالتَّزوِيرِ ، وَلَكِنَّهُ لا يَسلَمُ مِن غَفلَةٍ وَتَخلِيطٍ ، وَضَعفِ ضَبطٍ وَكَثرَةِ نِسيَانٍ ، وَقَد يَكُونُ الثِّقَةُ نَقَلَ عَن مَصدَرٍ أَو شَخصٍ آخَرَ ، لا يَسلَمُ مِنَ الطَّعنِ في ضَبطِهِ وَحِفظِهِ ، أَو في صِدقِهِ وَدِيَانَتِهِ ، وَقَد يَكُونُ مِمَّن لَهُ هَوًى فِيمَا يَنقُلُ ، فَيُؤَثِّرُ كُلُّ ذَلِكَ في صِدقِ الكَلامٍ ، وَقَد يَكُونُ النَّاقِلُ بِطَبِيعَتِهِ مَيَّالاً لِلمُبَالَغَةِ وَتَكبِيرِ الأَشيَاءِ ، مُحِبًّا لِتَضخِيمِ الأَخبَارِ وَتَحجِيمِ الأَنبَاءِ ، فَيَنقُلُ لِلنَّاسِ أَخبَارًا هَائِلَةً وَأَنبَاءً رَائِعَةً ، لَو حَكَّمُوا فِيهَا عُقُولَهُم وَوَزَنُوهَا بِمِيزَانِ الوَاقِعِيَّةِ ، لَشَعُرُوا أَنَّهَا غَيرُ مَعقُولَةٍ وَلا مُمكِنَةٍ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ في أَلسِنَتِنَا وَأَقوَالِنَا وَمَا نَنقُلُ ، وَلْنَحذَرْ مِن نَقلِ الأَخبَارِ مِن غَيرِ تَأَكُّدٍ مِن صِحَّتِهَا أَو صِدقِ مَصدَرِهَا ، وَلا يَغُرَّنَّ أَحَدَنَا سُهُولَةُ الإِرسَالِ ، أَو مَا تَوَفَّرَ لَنَا مِن إِمكَانَاتٍ في إِيصَالِ الأَخبَارِ إِلى أَنحَاءِ العَالَمِ في ضَغطَةِ زِرٍّ أَو إِشَارَةِ إِرسَالٍ ، فَإِنَّهُ " مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ إِلاَّ لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " إِنَّ العَقلَ وَالإِيمَانَ لَيَدعُوَانِ صَاحِبَهُمَا إِلى المَوَازَنةِ بَينَ مَصلَحَةِ الكَلامِ وَمَصلَحَةِ الصَّمتِ ، فَلَيسَ الكَلامُ خَيرًا دَائمًا ، وَلَيسَ الصَّمتُ بِرًّا دَائِمًا ، وَلا كُلُّ مَا يُعلَمُ يُقالُ ، وَكَم في كِتمَانِ بَعضِ الأَخبَارِ مِنَ المَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ وَالمُتَحَقِّقَةِ ، وَالفَوَائدِ العَظِيمةِ وَالكَبِيرَةِ ، وَكَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ : " وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَصمُتْ " وَفي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَن أَبي مُوسَى - رَضِيَ اللهُ عنه - قَالَ : قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الإِسلامِ أَفضَلُ ؟ قَالَ : " مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ "

المرفقات

لا-للشائعات

لا-للشائعات

لا-للشائعات-2

لا-للشائعات-2

المشاهدات 1111 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا


جزاك الله خير

خطبة اكثر من رائعة

موضوع يحتاجه الناس


تقبل الله دعاءكما ، وجزاكما وسائر الإخوة الخطباء خيرًا ، ونفع بالجميع ....