خطبة : ( قفوا أيها المتهوكون )

عبدالله البصري
1436/02/27 - 2014/12/19 04:22AM
قفوا أيها المتهوكون 27 / 2 / 1436
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَمَا أَنَّ لِلفَضِيلَةِ حُمَاةً تَتَوَقَّدُ عَزَائِمُهُم دِفَاعًا عَنهَا وَيَحتَسِبُونَ ، وَيُمَسِّكُونَ النَّاسَ بِالكِتَابِ وَيُصلِحُونَ وَيَنصَحُونَ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ أَعدَاءً لِلفَضِيلَةِ وَالقِيَمِ النَّبِيلَةِ ، يَندَفِعُونَ في حِينِ غَفلَةٍ مِنَ المُصلِحِينَ ، وَيَظهَرُونَ بِلا حَيَاءٍ وَلا خَجَلٍ وَلا خَوفٍ وَلا وَجَلٍ ؛ لِيَشُنُّوا حَربَهُمُ الشَّيطَانِيَّةَ عَلَى المُجتَمَعَاتِ المُستَقِيمَةِ ، وَيَعمَلُوا جُهدَهُم عَلَى غَزوِهَا في عَقِيدَتِها وَتَميِيعِ أَحكَامِ دِينِهَا ، مُتَفَانِينَ في غِشِّهَا وَخِدَاعِهَا ، وَزَعزَعَةِ ثَوَابِتِهَا وَاقتِلاعِ أُصُولِهَا .
وَإِنَّ هَذِهِ الحَمَلاتِ الَّتي يَشُنُّهَا أَصحَابُ القَنَوَاتِ وَكُتَّابُ الصُّحُفِ وَالمَجَلاَّتِ ، وَيَقصِدُونَ بها مَا تَفَرَّدَت بِهِ هَذِهِ البِلادُ خَاصَّةً ، مِن تَمَسُّكٍ بِبَعضِ مَا ضَيَّعَهُ غَيرُهَا ، إِنَّهَا لَجُزءٌ مِن خِطَطٍ إِفسَادِيَّةٍ عَرِيضَةٍ ، عَمِلَ العَدُوُّ المُجرِمُ عَلَى غَزوِ البُلدَانِ الإِسلامِيَّةِ بها ، مُنذُ أَن هُزِمَ في حُرُوبِهِ المَيدَانِيَّةِ مَعَهَا ، فَعَزَمَ عَلَى أَن يَستَبدِلَ بِتِلكَ الحُرُوبِ العَسكَرِيَّةِ حُرُوبًا فِكرِيَّةً ، تُفسِدُ القُلُوبَ وَتَذهَبُ بِالعُقُولِ ، وَتَمسَخُ الأَجيَالَ وَتَعصِفُ بِالمُجَتَمَعَاتِ ، حَتَّى تَجعَلَهَا في حَيرَةٍ مِنَ الأَمرِ ، لا تَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا تُنكِرُ مُنكَرًا ، وَلا تُفَرِّقُ بَينَ فِعلِ خَيرٍ يُعلِيهَا ، وَلا اكتِسَابِ شَرٍّ يُردِيهَا ، وَمَعَ أَنَّ هَذِهِ الحُرُوبَ الفِكرِيَّةَ لَيسَت وَلِيدَةَ عَصرٍ دُونَ عَصرٍ ، وَلا خَاصَّةً بِمِصرٍ دُونَ مِصرٍ ، وَقَد وُجِدَت مُنذُ أَن جَعَلَ اللهُ حَقًّا وَبَاطِلاً ، وَخَلَقَ لِكُلٍّ مِنهُمَا أَهلاً وَأَنصَارًا وَأَعوَانًا ، إِلاَّ أَنَّ هُنَالِكَ أُمُورًا جَدِيدَةً تَتَّسِمُ بها حَمَلاتُ عَصرِنَا الحَاضِرِ ، ذَلِكُم أَنَّهَا تُقَادُ وَتُنَفَّذُ مِن قِبَلِ أَشخَاصٍ قَد يُنسَبُونَ لِلدِّينِ ظَاهِرًا ، وَيُحسَبُونَ عَلَى المُستَقِيمِينَ بِهَيئَاتِهِمُ المُعلَنَةِ وَسِمَاتِهِمُ المَشهُودَةِ ، وَقَد يَخدَعُون النَّاسَ لأَوَّلِ وَهلَةٍ بما يَدَّعُونَهُ مِن إِرَادَةٍ لِلخَيرِ وَبَحثٍ عَنِ الحَقِّ ، مَعَ تَردِيدِ آيَاتٍ وَنَقلِ أَحَادِيثَ وَأَقوَالٍ ، مُستَغِلِّينَ جَهلَ النَّاسِ بِتَفسِيرِهَا الصَّحِيحِ أَو أَسبَابِ نُزُولِهَا ، أَو صِحَّةِ الاستِدلالِ بها .
وَالأَمرُ الآخَرُ الَّذِي تَتَّسِمُ بِهِ حَمَلاتُ العِدَاءِ الجَدِيدَةُ ، هُوَ أَنَّ مُتَهَوِّكِيهَا وَمُتَهَوِّرِيهَا ، لا يَلتَزِمُونَ في كِتَابَاتِهِم وَمُنَاقَشَاتِهِم بِشَيءٍ مِن أَدَبِيَّاتِ الخِلافِ ، وَلا يَتَّصِفُونَ بِآدَابِ الحِوَارِ وَالنِّقَاشِ ، وَلا تَتَّسِعُ صُدُورُهُم لِمُخَالِفِيهِم وَنَاصِحِيهِم ، وَلَكِنَّهُم يَكشِفُونَ لأَنفُسِهِم في كُلِّ يَومٍ عَن سَوأَةٍ ، وَيُبدُونَ عَوَارًا وَيُظهِرُونَ عَورَةً ، شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِفَسَادِ النِّيَّةِ وَخُبثِ الطَّوِيَّةِ ، وَسُوءِ السِّيرَةِ وَسَوَادِ السَّرِيرَةِ ، وَإِرَادَةِ الإِضلالِ وَابتِغَاءِ الفِتنَةِ .
وَأَمرٌ ثَالِثٌ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ تَتَّسِمُ بِهِ حَمَلاتُ التَّشكِيكِ وَالإِفسَادِ الجَدِيدَةُ ، وَهُوَ الإِصرَارُ عَلَى الرَّأيِ وَعَدَمُ التَّرَاجُعِ عَنهُ مَهمَا تَبَيَّنَ ضَعفُهُ ، وَهَذَا هُوَ المَحَكُّ الَّذِي يَظهَرُ بِهِ الفَرقُ بَينَ زَلَّةِ العَالِمِ التَّقِيِّ أَو كَبوَةِ الجَاهِلِ الغَبِيِّ ، وَبَينَ رَوَغَانِ مُتَعَمِّدِي الفِتنَةِ وَقَاصِدِي الضَّلالِ وَالإِضلالِ ، المُمعِنِينَ في الغَيِّ وَالعِنَادِ وَالفَسَادِ وَالإِفسَادِ .
وَالعَاقِلُ المُوَفَّقُ ، لا يَخفَى عَلَيهِ الفَرقُ بَينَ مُرِيدٍ لِلحَقِّ رَاحِمٍ لِلخَلقِ ، يُلقِي قَولَهُ وَرَأيَهُ بِأَدِلَّتِهِ ، فَإِذَا مَا نُوقِشَ وَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ الحَقَّ في غَيرِ قَولِهِ ، تَطَامَنَ وَتَوَاضَعَ وَتَرَاجَعَ ، وَبَينَ مَن هُوَ ذُو سَوَابِقَ مُظلِمَةٍ ، لم يَتَعَوَّدِ المُسلِمُونَ مِنهُ إِلاَّ اللَّجَاجَةَ وَالخُصُومَةَ ، وَالإِرجَافَ في أَوسَاطِهِم وَالخُرُوجَ عَن جَمَاعَتِهِم ، وَتَتَبُّعَ الأَقوَالِ الشَّاذَّةِ وَالآرَاءِ الضَّعِيفَةِ المَهجُورَةِ ، وَبَعثَهَا وَبَثَّهَا وَنَشرَهَا ، وَالاستِمَاتَةَ في تَسوِيغِهَا وَتَسوِيقِهَا وَشَغلِ النَّاسِ بها ؛ طَمسًا لِلحَقِّ وَإِثَارَةً لِلفِتَنِةِ .
أَجَل ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّهُ لَفَرقٌ بَينَ مُخطِئٍ يَتُوبُ ، وَذِي زَلَّةٍ يَؤُوبُ ، وَبَينَ مَن هُوَ ذُو جَدَلٍ وَصَلَفٍ وَعِنَادٍ ، يُعلِنُ الحَربَ عَلَى المُتَقَدِّمِينَ مِن عُلَمَاءِ الأُمَّةِ وَالمُتَأَخِّرِينَ ، وَيَطلُبُ المُنَاظَرَةَ وَيَشتَدُّ في الخُصُومَةِ ، وَهُوَ يَعلَمُ أَنَّ الحَقَّ لَو كَانَ يَطلُبُهُ وَيُرِيدُهُ ، لا يَحتَاجُ لِمِثلِ هَذَا ، لِمَا رَكَّبَهُ اللهُ في نُفُوسِ الخَلقِ مِن قَبُولِهِ بِيُسرٍ وَسُهُولَةٍ ، وَلِكُونِ طَبَائِعِهِمُ السَّوِيَّةِ وَفِطَرِهِمُ السَّلِيمَةِ تَألَفُهُ وَلا تَنفُرُ مِنهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقذِفُ بِالحَقِّ عَلَّامُ الغُيُوبِ . قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ "
وَكَم هُوَ الفَرقُ وَاضِحًا لَدَى العُقَلاءِ وَذَوِي البَصَائِرِ وَالتَّميِيزِ ، بَينَ عَالِمِ مِلَّةٍ مُتَمَسِّكٍ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، هَمُّهُ تَعبِيدُ النَّاسِ لِرَبِّهِم ، وَهِدَايَتُهُم صِرَاطَهُ المُستَقِيمَ ، وَدِلالَتُهُم عَلَى مَا يُرضِيهِ عَنهُم ، وَالأَخذِ بِأَيدِيهِم لِسُلُوكِ طَرِيقِ الجَنَّةِ ، يَبَدَأُ بِأَولَوِيَّاتِ الأُمُورِ وَمُهِمَّاتِهَا ، وَيَتَدَرَّجُ في الإِصلاحِ حَسَبَ القُدرَةِ وَالاستِطَاعَةِ ، وَيَبدَأُ بِالمُتَعَيِّنِ قَبلَ مَا يَحتَمِلُ الوُجُوبَ الكِفَائِيِّ ، يَنشُرُ الحَقَّ وَيَرحَمُ الخَلقَ ، كَم هُوَ الفَرقُ بَينَ هَذَا وَبَينَ مُتَعَالِمٍ لا يُعرَفُ لَهُ جُهدٌ وَلا جِهَادٌ ، وَلا جُلُوسٌ في مَجَالِسِ عِلمٍ وَلا حِرصٌ عَلَى تَعلِيمِ ، وَلا سَعيٌ لِتَربِيَةِ نَشءٍ وَلا مَشيٌ في قَضَاءِ حَاجَةِ مُحتَاجٍ ، وَلا دِفَاعٌ عَن مُتَضَرِّرِينَ وَلا دَفعٌ لِضَرُورَةِ مُضطَرِّينَ ، وَلا رَفعُ مُنكَرَاتٍ خُلُقِيَّةٍ وَلا تَقدِيمُ خِدمَاتٍ إِنسَانِيَّةٍ ، وَإِنَّمَا كُلُّ جُهدِهِ أَن يَتَلَمَّسَ قَضَايَا مُعَيَّنَةً ، قَد سَارَ المُجتَمَعُ فِيهَا عَلَى القَولِ الصَّحِيحِ المُعتَبَرِ ، فَيَحشُدُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا يُمكِنُهُ مِن آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ وَأَقوَالٍ ، قَد أَسَاءَ فَهمَهَا ، وَوَضَعَهَا في غَيرِ مَا نَزَلَت لَهُ أَو قِيلَت فِيهِ ، لا بَحثًا عَن حَقٍّ كَانَ خَافِيًا فَيُبَيِّنُهُ وَيُفصِحُ عَنهُ ، وَلَكِنْ لِيُخَالِفَ العُمُومَ وَيُوقِظَ الخُصُومَ ، وَيَشغَلَ الأُمَّةَ عَمَّا هُوَ أَهَمُّ وَأَجَلُّ وَأَولى ، وَإِلاَّ فَمَا مَعنَى أَن يَرَى أَحَدُهُمُ الأُمَّةَ تَحتَرِقُ ، وَعَدُوُّهَا لِصُفُوفِهَا يَختَرِقُ ، وَمَرَاكِبُهَا تَضِلَّ وَتَغرَقُ ، وَحُقُوقُهَا تُنهَبُ وَتُسرَقُ ، وَأَطفَالُهَا يَمُوتُونَ بَينَ لَهِيبِ النَّارِ وَسَعِيرِ الجُوعِ ، وَشُعُوبُهَا تُبَادُ وَتُشَرَّدُ وَمُقَدَّسَاتُهَا تُنتَهَكُ ، ثم يَشغَلُ النَّاسَ بِنَزعِ الحِجَابِ أَو فَرضِ الاختِلاطِ ، أَو تَحلِيلِ الغِنَاءِ أَوِ التَّهوِينِ مِن شَأنِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ ، أَوِ التَّقلِيلِ مِن أَهمِيَّةِ المَحرَمِ أَو قِيَادَةِ المَرأَةِ لِلسَّيَّارَةِ ، أَو مُمَارَسَتِهَا لِلرِّيَاضَةِ أَو عَمَلِهَا مَعَ الرِّجَالِ ، وَإِذَا مَا تَجَاهَلُوا قَولَهُ وَنَبَذُوا رَأيَهُ ، استَهزَأَ بِهِم وَسَخِرَ مِنهُم وَسَفَّهَ أَحلامَهُم ، وَسَبَّهُم وَسَبَّ مَنهَجَهُم وَاجتَهَدَ في إِسقَاطِهِم ؟!
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مَن يَقرَأُ بَعضَ مَا يُكتَبُ في الصُّحُفِ أَو وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الاجتِمَاعِيِّ ، أَو يَسمَعُ مَا يُقَالُ أَو يُشَاهِدُ مَا يُعرَضُ في القَنَوَاتِ ، وَيَرَى كُلَّ هَذَا الإِصرَارِ على بَعضِ القَضَايَا ، لَيَظُنُّ أَنَّ هَؤُلاءِ الكُتَّابَ أَو أُولَئِكَ المُتَحَدِّثِينَ ، قَدِ انتَدَبُوا أَنفُسَهُم لِتَخلِيصِ المُجتَمَعِ مِن شَرٍّ يُحِيطُ بِهِ ، أَو إِنقَاذِهِ مِن جَلاَّدِينَ ظَلَمَةٍ يَسُومُونَهُ سُوءَ العَذَابِ ، أَو تَحرِيرِ نِسَائِهِ مِن سِجنٍ أَو فَكِّهِنَّ مِن قُيُودٍ ، أَو إِنقَاذِ شَبَابِهِ مِن أَشبَاحٍ تُحِيطُ بِهِم أَو أَمرَاضٍ تَفتِكُ بِهِم ، وَاللهُ يَعلَمُ أَنَّ هَؤُلاءِ المُتَهَوِّكِينَ المُرجِفِينَ ، لا يُرِيدُونَ بِالمُجتَمَعِ إِلاَّ أَن يَكُونَ صُورَةً لِمُجتَمَعَاتٍ فَاسِدَةٍ ، بَل إِنَّهُم لَيَنزِعُونَ إِلى مَا هُوَ أَكبَرُ مِن ذَلِكَ وَأَخطَرُ ، أَلا وَهُوَ مُحَاوَلَةُ صُنعِ رَأيٍ عَامٍّ فَاسِدٍ ، وَمُطَالَبَةٍ مُجتَمَعِيَّةٍ ضَالَّةٍ ، تَحمِلُ المَسؤُولِينَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمرِ اللهِ وَأَمرِ رَسُولِهِ ، وَتَركِ الحُكمِ بِالشَّرِيعَةِ الغَرَّاءِ المُطَهَّرَةِ ، إِلى أَقوَالٍ فَاسِدَةٍ وَقَوَانِينَ كَاسِدَةٍ ، مَا أَنزَلَ اللهُ بها مِن سُلطَانٍ وَلا بُرهَانٍ .
وَإِنَّهُ لأَكبَرُ دَلِيلٍ عَلَى فَسَادِ العُقُولِ قَبلَ الدِّينِ ، وَأَنَّنَا أَمَامَ أَصحَابِ هُوًى وَأَربَابِ فِتنَةٍ ، أَن يَتَجَاسَرَ كُتَّابٌ صَحَفِيُّونَ ، وَمَجَاهِيلُ مُتَعَالِمُونَ لم يُعرَفُوا بِعِلمٍ وَلَم تَكُنْ لَهُم فِيهِ بِضَاعَةٌ ، فَيَخرُجُوا في قَنَوَاتٍ مَعرُوفَةٍ بِنَصرِ البَاطِلِ وَالضَّلالِ ، وَيُشَارِكُوا بِأَقلامِهِم في جَرَائِدَ مَشهُورَةٍ بِحَربِ كُلِّ صَالِحٍ وَمُصلِحٍ ، وَيَتَجَرَّؤُوا عَلَى خَوضِ قَضَايَا تَمَسُّ الحُرُمَاتِ وَالأَعرَاضَ وَالكَرَامَةَ ، وَأَحَدُهُم قَد لا يُحسِنُ صَلاةً وَلا وُضُوءًا ، وَلَو أَنَّهُ قَدَّرَ نَفسَهُ وَعَرَفَ لها مَكَانَتَهَا ، لَتَرَكَ كُلَّ مَجَالٍ لأَهلِهِ المُختَصِّينَ بِهِ ، وَلَكِنَّهَا الفِتَنُ وَمِحَنُ آخِرِ الزَّمَنِ ، تَجعَلُ النَّاسَ يُقَدِّرُونَ تَخَصُّصَاتِ الدُّنيَا وَيُعَظِّمُونَ أَمرَهَا ، وَيَرَونَ أَنَّ مِن التَّقَدُّمِ أَن يُسَلَّمَ القِيَادُ فِيهَا لأَهلِهَا المُتقِنِينَ لَهَا ، أَمَّا الدِّينُ وَشَرِيعَةُ رَبِّ العَالَمِينَ ، فَلا بَأسَ لَدَيهِم أَن تُترَكَ لِتَكُونَ حِمًى مُستَبَاحًا وَكَلأً مُستَطَابًا ، يَرتَعُ فِيهَا كُلُّ مَن هَبَّ وَدَبَّ ، وَيَتَنَاوَلُهَا كُلُّ غَوِيٍّ وَدَعِيٍّ ، فَيُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ ، وَيُزَكِّي وَيُجَرِّمُ ، فَإِلى اللهِ المُشتَكَى وَالمَفزَعُ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنَحرِصْ عَلَى أَخذِ أَحكَامِ دِينِنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ ، وَلْنَحذَرِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ المُتَشَابِهَ وَيُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ ، فَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ : " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلبَابِ . رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعدَئِذْ هَدَيتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ "
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَكُونُ في آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ ، يَأتُونَكُم مِنَ الأَحَادِيثِ بما لم تَسمَعُوا أَنتُم وَلا آبَاؤُكُم ، فَإِيَّاكُم وَإِيَّاهُم لا يُضَلِّونَكُم وَلا يَفتِنُونَكُم " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
اللَّهُمَّ رَبَّ جِبرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ عَالِمَ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ . اِهدِنَا لِمَا اختُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بَإِذنِكَ ؛ إِنَّكَ تَهدِي مَن تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ .
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ، وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّكُم في زَمَنٍ كَثِيرٍ قُرَّاؤُهُ ، قَلِيلٍ فُقَهَاؤُهُ ، قَدِ اختَلَطَ فِيهِ العَالِمُ بِاللهِ الدَّاعِي لِلحَقِّ ، بِمُحِبِّ الظُّهُورِ وَالبَاحِثِ عَنِ الشُّهرَةِ ، غَيرَ أَنَّ أَهلَ العِلمِ الرَّاسِخِينَ مَا زَالُوا ـ وَللهِ الحَمدُ ـ مَوجُودِينَ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَحمِلُ هَذَا العِلمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، يَنفُونَ عَنهُ تَحرِيفَ الغَالِينَ وَانتِحَالَ المُبطِلِينَ وَتَأوِيلَ الجَاهِلِينَ " رَوَاهُ البَيهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ عِبَادَهُ بِلا بَقِيَّةٍ مِن أَهلِ العِلمِ المُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يَعرِفُونَ الحَقَّ بِدَلِيلِهِ ، وَيَدعُونَ إِلى الهُدَى وَيَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ وَالرَّدَى .
وَإِذَا كَانَ المَرءُ إِذَا أُصِيبَ بِدَاءٍ في جَسَدِهِ ، جَعَلَ يَسأَلُ عَن أَفضَلِ الأَطِبَّاءِ وَيَتَحَرَّى أَعلَمَهُم ، حَتى يَسقُطَ عَلَى المَاهِرِ مِنهُم فَيُسَلِّمَهُ جَسَدَهُ ، فَلَلمُؤمِنُ أَحرَى بِهَذَا مَعَ مَن يُدَاوِي قَلبَهُ وَيُعَالِجُ فُؤَادَهُ ، لأَنَّ بِفَسَادِ جَسَدِهِ نِهَايَةَ دُنيَاهُ ، وَأَمَّا فَسَادُ قَلبِهِ فَهُوَ خُسرَانُهُ لأُخرَاهُ ، وَمِن ثَمَّ فَمَا أَوجَبَهُ عَلَى المُسلِمِ أَن يَتَحَرَّى الحَقَّ بِدَلِيلِهِ مِن أَفوَاهِ أَهلِهِ ، أَو يَبحَثُ عَنهُ في كُتُبِهِم وَفَتَاوَاهُم ، لِيَلقَى رَبَّهُ بِعَمَلٍ صَوَابٍ ، تَكُونُ بِهِ نَجَاتُهُ " يَومَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلاَّ مَن أَتى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ " وَأَمَّا التَّخلِيطُ وَالتَّخَبُّطُ ، وَاتِّبَاعُ النَّاعِقِينَ مِن كُتَّابِ الصُّحُفِ وَمُمَثِّلي القَنَوَاتِ وَمُثِيرِي الشُّبُهَاتِ ، فَمَا أَحرَى صَاحِبَهُ أَن يَعَضَّ أَصَابِعَ النَّدَمِ يَومَ لا يَنفَعُ النَّدَمُ " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَت بِهِمُ الْأَسْبَابُ " " وَيَومَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيهِ يَقُولُ يَا لَيتَني اتَّخَذتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً . يَا وَيلَتَى لَيتَني لم أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا . لَقَد أَضَلَّني عَنِ الذِّكرِ بَعدَئِذْ جَاءَني وَكَانَ الشَّيطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً "
فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم ، وَخُذُوا بِأَمرِهِ لَكُم ، حَيثُ قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيهِم فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ . بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ "
المرفقات

قفوا أيها المتهوكون.pdf

قفوا أيها المتهوكون.pdf

قفوا أيها المتهوكون.doc

قفوا أيها المتهوكون.doc

المشاهدات 3501 | التعليقات 5

خطبة عظيمة


جزاك الله خيرا


جميلة جملك الله بطاعته ....عامة وصالحة لكل شبهة مستقبلية


بارك الله فيك ياشيخنا ونفع الله بعلمك


بارك الله فيك ياشيخ عبدالله ونفع الله بعلم،، خطبة تنم عن علم واطلاع للواقع ومشاهدة للمستجدات،،
خطبة موفقة مسددة، وقد تشرفتُ بإلقاءها بجامعنا بتصرف،،