خطبة قصيرة عن القرآن في شهر القرآن .

مريزيق بن فليح السواط
1433/09/08 - 2012/07/27 03:32AM

إن الحمد الله ...
أيها الصائمون:
لقد وفقكم الله لبلوغ شهر رمضان وإدراك خيراته، والتماس أنواره وبركاته، وإنها لفرصة عظيمة تغشى عباد الله المؤمنين، فتضئ حياتهم، وتنير قلوبهم، وتبهج نفوسهم.

عباد الله:
لقد امتن الله على هذه الأمة فجعلها خير أمة أخرجت للناس، وأنزل عليها كتابا لا عوج فيه ولا التباس، أرسل إليها أعظم رسله، وارتضى لها أيسر شرائع دينه، فقال تعالى: "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين".

أيها الصائمون:
في رمضان حدث باهر، ونبأ عظيم، إهتز له الخافقان، وغير مسار التاريخ، وصاغ الحياة البشرية، فقد كان في رمضان نزول القرآن قال تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" كان نزول القرآن إيذاناً بنشأة امة جديدة، هي تاج الأمم قاطبة، أمة أنجبت رجالاً أدهشوا الدنيا بعلومهم وجهادهم وفتوحاتهم، وأبهروا العقول والنفوس بصنائعهم ومنجزاتهم.
بالقرآن فتحوا القلوب، ومصروا الأمصار، وربوا الأجيال.
بالقرأن قهروا الطغاة، وأدبوا البغاة ودكوا عروش الظلمة القُساة.
بالقرأن عمروا أوقاتهم، وأشغلوا أعمارهم، وعطروا مجالسهم، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول: البيت الذي يتلى فيه كتاب الله كثر خيره، حضرته الملائكة، وخرجت منه الشياطين، والبيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله ضاق بأهله، وقل خيره، وحضرته الشياطين، وخرجت منه الملائكة.
آه على بيوت المسلمين حين تعج بالأصوات المنكرة، والصور الفاضحة، وتُخلى من كتاب الله فلا يقرأ في السنة إلا مرة واحدة، أكتفوا بتذهيب وريقاته، وصقل صفحاته، ثم ركنوه في الأدراج، ومسحوا عنه الغبار، فبتليت هذه البيوت بالأمراض العصبية، والأزمات النفسية، والقلاقل والهموم، والأحزان والغموم، وضيق الصدر، ومرض القلب، مع أن في القرأن أمان واطمئنان، وراحة وأنس بالملك الديان، "وننزِّلُ من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيدُ الظالمين ألا خسارا". قال إبن مسعود: إن هذا القرآن مأْدَبة الله فمن دخل فيه فهو آمن.

أيها الصائمون:
مدح الله تعالى كتابه، وأثنى عليه في أيات كريمة، فقال سبحانه: "اللهُ نزل أحسنَ الحديث كتابا متشابها مثانِيَ تقشعِرُّ منه جلودُ الذين يخشون ربهم ثم تلينُ جلودُهُمْ وقلوبُهُمْ إلى ذكر الله" وقال تعالى: "إن هذا القرآنَ يهدى للتي هي أقومُ ويُبشِّرُ المؤمنين الذين يعملون الصالحاتِ أن لهم أجْراً كبيرا".

لقد ظلت الأمة المسلمة حين تنكبت عن هدي القرآن، وضاعت حين أضاعت تعاليم القرآن، وسقطت في أوحال الظلم والإستعباد حين نبذت حكم القرآن، وصدق الله إذ يقول: "ولكن جعلناهُ نوراً نهدي به من نشاءُ من عبادِنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم".

شهر رمضان شهر القرآن، ذلكم الكتاب الذي لا تَكلّ الألسن من تلاوته، ولا تَملّ الأسماع من لذته وحلاوته، وفي رمضان يجتمع الصوم والقرآن فيدرك المؤمن الصادق شفاعتين، يشفع له القرآن لقيامه، ويشفع له الصيام لصيامه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب. منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب. منعته النوم في الليل فشفعني فيه، فيشفعان".

أيها الصائمون:
لقد تعبدنا الله بقرآةِ كتابه، والعملِ بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، والتأدب بأدابه، والتخلق بأخلاقه، ولقد تكاثرت النصوص المرغبة في ثواب القرآن، وفضل قرآءته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأتْرُجَّة طعمها طيب وريحها طيب" وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرآء القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" فما عليك أيها المسلم: إلاّ ان تقرأ القرآ ن، وتجاهد نفسك، وتجعل من سيرة سلف هذه الأمة أسوة لك، فهذا الشافعي يرحمه الله: يختم في رمضان ستين ختمة. قد يستغرب ذلك من لم يعرف عظمة القرآن، وقد لا يصدق ذلك من لم يجاهد نفسه على قرآءة القرآن، لكنها النفوس الزكية!! والقلوب المخبتة!! "لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيتَهُ خاشعا مُتصدعا من خشيةِ الله وتلك الأمثلُ نضربُها للناس لعلهم يتفكرون". بل أغرب من ذلك ماذكره الذهبي يرحمه الله: أن زهير بن محمد المروزي كان يختم القرآن في رمضان تسعين ختمة، ذلك أن قلوبهم تعلقت بكلام ربهم فأحبوه، وأنكبوا على قرآءته، واستسهلوا الساعات الطوال في الليل والنهار تقضى مع كتاب الله، قرآءة وتدبرا، وحفظا وتعلما.

لقد أدرك سلفنا والتابعون لهم بإحسان سر عظمة القرآن، فطاروا بعجائبه، وعاشوا مع مواعظه، وفي المواسم الفاضلة، يزداد تعلقهم به، وتتسابق نفوسهم إليه، فالزهري يرحمه الله كان يقول: إذا دخل رمضان فإنما هو قرآءة القرآن، وإطعام الطعام. والثوري يرحمه الله كان إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات وأقبل على قرأة القرآن. وبكر بن عيَّاش مكث نحو أربعين سنة يختم القرآن كل ليلة، فلما حضرته الوفاة جاءت أخته تبكي عند رأسه، فقال لها: لا تبكي عليّ. فقد ختمت في هذه الزواية وأشار الى ناحية في البيت أكثر من ثمانية عشر ألف مرة. "وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد".

الحمد لله على إحسانه....
أيها الصائمون:
الجنة أمنية كل مؤمن، ومبتغى كل مسلم، وأمل كل عابد، جعلها الله درجات، ليتسابق إليها الصالحون، ويشمر لبلوغ أعلاها المشمرون، وبالقرآن تعلو في درجاتها، وترتفع في مقاماتها، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُقال لصالحب القرآن يوم القيامة، أقرأ وأرتقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها". فياسعادة المتقين، ويا فوز المسارعين، وياحسرة المفرطين المضيعين.

عباد الله:
إذا عظمت الدنيا في قلوب كثير من الناس، وتنافسوا فيها، وسعوا بجدهم ووقتهم لتحصيل متاعاها، ومالها ومراكبها، وقصورها وزخرفها، فإن قراءة القرآن خير من ذلك وأبقى، والقليل من آي القرآن يُتلى أفضل من متاعها، مهمها عظُم عند طُلابها، وأرتفع في أعين خُطابها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيحب أحدكم أن يرجع إذا رجع لأهله وأن يجد فيه ثلاث خَلِفَات عظام سمان" فقالوا: نعم يارسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: "ثلاث أيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير من ثلاث خَلِفَات عظام سمان، وأربع خير من أربع، ومن عدادهن من الأبل".

بل إن الأجور في قرآءة القرآن مضاعفة وهي على الحرف الواحد مِنَّة من الله وتكرما، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرأوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول آلم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر، فتلك ثلاثون" والله تعالى يضاعف أضعافا كثيرة فالختمة الواحد من كتاب الله فيها أكثر من ثلاثة ملايين حسنة، ثم تجد زهد الناس في كتاب ربهم، وقلة مقروئهم منه، وضعف صلتهم به، حتى في شهر القرآن، حرمانا للخير أن يدركوه، وتكاسلاً عن الفضل أن يطلبوه، ثم ينسحب هذا التفريط، ويستمر هذا الحرمان، حتى في شهر رمضان، فتجد أكثر المسلمين غاطين في سُباتهم طول النهار، مضيعين لأوقاتهم طول الليل في القيل والقال، والضرب في الأسواق، وأسؤ من ذلك من جعله شهر متعة وترفيه، ومشاهدة للحرام، وإستماع لأصوات الشيطان.
فاتقوا الله يا عباد الله: واعرفوا للقرآن قدْره، وأنزلوه المكان اللائق به، اهتدوا بهُداه، وتأدبوا بأدابه، وأنهلوا من معين علمه، فإن ذلك كسب عظيم، وتلك نفحة مباركة، من نفحات شهر الصيام، فتعرضوا لها، وكونوا من أهلها، "من عملَ صالحا فلِنفْسه ومن أساءَ فعليها وما ربُّك بظلام للعبيد".
المرفقات

القرآن في شهر القرآن.doc

القرآن في شهر القرآن.doc

المشاهدات 5340 | التعليقات 0