خطبة في مكافحة الفساد المالي والإداري

عبدالرحمن اللهيبي
1439/02/21 - 2017/11/10 02:23AM

هذه خطبة منقولة سابقا وأظنها للشيخ الحقيل مع تصرف يسير 

الفَسَادُ المَالِيُّ والإِدَارِيُّ

الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ؛ أَمَرَ بِالعَدْلِ وَالصَّلَاحِ، وَأَثْنَى عَلَى الأمناءِ المُصْلِحِينَ، وَنَهَى عَنِ الفَسَادِ وَذَمَّ الخائنين ، {وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالفَقْرِ وَالغِنَى وَبِالمَالِ والسيادة ؛ لِيَمِيزَ الأَمِينَ مِنَ الخَائِنِ، وَالغَاشَ مِنَ النَّاصِحِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنَ اسْتِحْلاَلِ الأَمْوَالِ وَسلب الحُقُوقِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ النَّارَ؛ نُصْحًا لِأُمَّتِهِ، وَخَوْفًا عَلَيْهَا، وَرَحْمَةً بِهَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فِي الوظائف والمناصبِ وَالأَعْمَالِ، وفي الأمانات والحقوق والأموال, وَفِي كُلِّ الشُّئُونِ وَالأَحْوَالِ؛ فَإِنَّكُمْ مُحَاسَبُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ ووظائفكم وأماناتكم بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ في خيرها وَشَرِّهَا ، فَلاَ يَحْقِرَنَّ عَبْدٌ قَلِيلَ خَيْرٍ يفعلُه فَلَعَلَّ نَجَاتَهُ بِهِ، وَقَدْ دَخَلَتِ الجَنَّةَ امْرَأَةٌ بِتَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ شَقَّتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وأخرى غفر الله لها بكلب سقته.. وفي المقابل أيضا لاَ يَحْقِرَنَّ عَبْدٌ قَلِيلَ شَّرِّ يرتكبه؛ فإن امرأة دخلت النار بسب هرة حبستها لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض

فإيكم ومُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فإنها لا تزال بصَاحِبهَا حتى تهلكه؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فإذا كان المرء يحاسب في مثقال ذرة فكيف الشأن فيما أعظم من ذلك

أَيُّهَا النَّاسُ: يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَقَلْبُهُ لا يزال هواه شَابٌّ عَلَى حُبِّ المَالِ والشرف، فَلا يكون إِدْبَارُهُ عَنِ الدُّنْيَا بكبر سنه مُزَهِّدًا لَهُ فِيهَا، وَلا يكون إِقْبَالُهُ عَلَى الآخِرَةِ بامتداد عمره مُرَغِّبًا لَهُ فِيهَا، إِلاَّ مَنْ وفقه الله وجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَهُمْ فِي النَّاسِ قَلِيلٌ.

وَلِأَجْلِ مَا فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَالرَّغْبَةِ فِي المَالِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالشَّرَفِ والسيدة، تَضْعُفُ دِيَانَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ المَوَاطِنِ، وَتَضْمَحِلُّ أَمَانَتُهُمْ، وَتَشْرَهُ نُفُوسُهُمْ، وَيَعْظُمُ حِرْصُهُمْ، فَلاَ يُشْبِعُهُمْ شَيْءٌ، فَيَتَخَوَّضُونُ فِي مَالِ اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَسْتَحِلُّونَ حُقُوقَ غَيْرِهِمْ، وَيَلِجُونَ أَبْوَابَ الفَسَادِ، وَيَأْتُونَ أَنْوَاعَ الحِيَلِ؛ لِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَالإِبْقَاءِ عَلَى مناصبهم.

والله عزَّ وجلَّ يقولـ : " إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بصيرًا "

وَقَالَ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ"

وَاعلموا أن رُبَاعِيَّةَ الفَسَادِ المَالِيِّ وَالإِدَارِيِّ فِي الدُّوَلِ وَالأُمَمِ هِيَ: الرِّشْوَةُ وَالاخْتِلَاسُ وَالتَّزْوِيرُ وَالخِيَانَةُ، ومَنْ قَارَفَ وَاحِدَةً مِنْهَا تَلَطَّخَ بِجَمِيعِهَا غالبا؛ ذَلِكَ أَنَّ الإِثْمَ يَجُرُّ بَعْضُهُ بَعْضا، وَالفَسَادَ يتوغل فِي القُلُوب شيئا فشيئا فيبدأ باليسر ثم لا يبالي بعدها بما يقع فيه من إثم أو حرام.

فَأَمَّا الرِّشْوَةُ: فَإِنَّ الرَّاشِي يَدْفَعُ الرِّشْوَةَ لِلْمُرْتَشِي لِيَمْنَحَهُ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ؛ فَإِنْ مُنِحَ مَالاً كَانَ نَوْعًا مِنَ الاخْتِلاَسِ، وَإِنْ مُنِحَ بِالرِّشْوَةِ وَظِيفَةً لاَ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، أَوْ مَكَانَةً لَيْسَتْ لَهُ، أَوْ شَهَادَةً لاَ يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ مُنَاقَصَةً لاَ يَفِي بِشُرُوطِهَا، فَهَذِهِ كُلُّهَا خِيَانَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ أُعْطِيَ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ وُضِعَ فِي مَكَانٍ لاَ يَلِيقُ بِهِ، وَهَذَا أَشَدُّ جُرْمًا وَأجل إِثْمًا، لأنه َأَعْظَمُ ضَرَرًا وَأكبر خَطَرًا عَلَى النَّاسِ.

وَفِي الرِّشْوَةِ لَعْنٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي»، وَهِيَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَمَا نَتَجَ عَنْهَا مِنْ مَالٍ أَوْ هَدَايَا أَوْ نَحْوِهَا فَهُوَ سُحْتٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ: «إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

 

هذا بشأن الرشوة وأَمَّا الاخْتِلاَسُ فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ شَخْصٍ تَوَلَّى وِلاَيَةً يَكُونُ المَالُ تَحْتَهُ، فَيَخْتَلِسُ مِنْهُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُطَالِبُ بِمِيزَانِيَّاتٍ لاَ تَحْتَاجُهَا دَائِرَتُهُ، وَلَكِنْ لِتَصِلَ إِلَى حِسَابِهِ فِي النِّهَايَةِ، إِمَّا بِأَعْمَالٍ وَهْمِيَّةٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، أَوْ صَحِيحَةٍ، وَلَكِنَّهَا لاَ تُكَلَّفُ عُشْرَ الأَمْوَالِ المَرْصُودَةِ لِهَا كَدَوْرَاتٍ وَتَدْرِيبٍ ومشاريعَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ إِنْشَاءَاتٍ تَكُونُ المُنَاقَصَةُ فِيهَا صُورِيَّةً لِتَجَاوُزِ عَقَبَةِ النِّظَامِ، وَتُمْنَحُ لِأَفْرَادٍ أَوْ شَرِكَاتٍ بِمَبَالِغَ طَائِلَةٍ جِدًّا، لاَ تُكَلّفُ المُنْشَآتُ عُشْرَهَا، وَالبَقِيَّةُ يَقْتَسِمُهَا المختلس مَعَ منفذ المشروع.

وَيَعْظُمُ ضَرَرُ الاخْتِلاَساتِ إِنْ تَعَلَّقَتْ بِهَا حُقُوقُ النَّاسِ، وَلاَ سِيَّمَا الضَّعَفَةُ مِنْهُمْ، وَكَثِيرًا مَا تُبْخَسُ حُقُوقُ عَامَّةِ النَّاسِ بِسَبَبِ خَاصَّتِهِمْ وكبرائهم.

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَأَمَّا التَّزْوِيرُ فَهُوَ تَغْيِيرُ الحَقِيقَةِ بِقَصْدِ الغِشِّ، وَيَسْرِي فِي الأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ، وَالأَوَامِرِ الكِتَابِيَّةِ، وَالمُعَامَلاتِ الرَّسْمِيَّةِ، كَمَا يَكُونُ فِي الشَّهَادَاتِ وَالأَخْتَامِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ الَّتِي تُقْتَطَعُ بِهَا الحُقُوقُ، أَوْ يُعَاقَبُ بِهَا أَبْرِيَاءُ، وَهَذَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ كَمَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ -ثَلاَثًا- أَوْ: قَوْلُ الزُّورِ" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ"؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَأَمَّا الخِيَانَةُ فَهِيَ: أَنْ يُؤْتَمَنُ الإِنْسَانُ فَلاَ يَنْصَحُ في أداء أمانته، وَهِيَ الأَصْلُ الجَامِعُ لِكُلِّ فَسَادٍ مَالِيٍّ وَإِدَارِيٍّ؛ لِأَنَّ مَنِ انْعَقَدَ قَلْبُهُ عَلَى الخِيَانَةِ ارْتَشَى وَاخْتَلَسَ وَزَوَّرَ، وَفَعَلَ كُلَّ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ؛ لِنَيْلِ الجَاهِ، أَوْ كَسْبِ المَالِ.

وَكُلُّ وِلاَيَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ يَتَقَلَّدُهَا المرء صغرت أم كبرت فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فِيهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَائِنًا، فلاَ مَنْزِلَةَ بَيْنَ الاثْنَتَيْنِ؛ فَإِنْ رَاقَبَ اللهَ تَعَالَى فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ، وَأَدَّى حُقُوقَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَا لَيْسَ لَهُ، وَعَدَلَ بَيْنَ النَّاسِ فَلَمْ يُحَابِ أَحَدًا لِقَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوْ نُفُوذٍ يَرْجُو مِنْ وَرَائِهِ نَفْعًا فَهَذَا أَمِينٌ يُؤْجَرُ عَلَى أَمَانَتِهِ وَإِنْ ذَمَّهُ النَّاسُ؛ وَقَلِيلٌ مِن الناسْ مَنْ تَحْجِزُهُ مَخَافَةُ اللهِ تَعَالَى عَنِ الحَرَامِ.

قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَوَّلُ مَا تَفقِدُونَ مِن دِينِكُمُ الأَمَانَةُ "

فَالحَذَرَ الحَذَرَ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلَنَا عِبْرَةٌ وَعِظَةٌ فِي عُظَمَاءَ ووجهاء وَأَغْنِيَاءَ جَمَعُوا مَالاً عَظِيمًا، وحازوا مناصب كبيرة , مَلَئُوا الدُّنْيَا ضَجِيجًا، ثم ماذا ؟ دُفِنُوا حِينَ دُفِنُوا بِأَكْفَانِهِمْ كَمَا يُدْفَنُ الفُقَرَاءُ، وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا، وَبَقِيَ عَلَيْهِمْ حِسَابُ مَا جَمَعُوا؛ وتبعة ما أخذوا

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ القَاسِمِ وَكَانَ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ: مَاتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَخَلَّفَ أَحَدَ عَشَرَ ابْنًا، فَبَلَغَتْ تَرِكَتُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا، كُفِّنَ مِنْهَا بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ، وَاشْتُرِيَ لَهُ مَوْضِعَ القَبْرِ بِدِينَارَيْنِ، وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلاَدِهِ تِسْعَةَ عَشْرَ دِرْهَمًا، وَمَاتَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ، وَخَلَّفَ أَحَدَ عَشَرَ ابْنًا، فَوَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أَوْلاَدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ حَمَلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أَوْلاَدِ هِشَام بن عبدالملك يَسْأَلُ أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْه! عَلَّق أَبُو البَقَاءِ الدَّمِيْرِيُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ عَجِيبٍ؛ فَإِنَّ عُمَرَ وَكَلَ ابناءه إِلَى رَبِّهِ فَكَفَاهُمْ وَأَغْنَاهُمْ، وَهِشَامٌ وَكَلَهُمْ إِلَى دُنْيَاهُمْ فَأَفْقَرَهُمْ مَوْلاَهُمْ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...

 

 

 

 

 

 

الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: وَازِعُ الشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ المُؤْمِنَ عَنِ الحَرَامِ، وَيَحْجِزَهُ عَنِ الخِيَانَةِ، وَيُوصِلَهُ لِلْأَمَانَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَرْدَعُهُ الشَّرْعُ عَنِ الرِّشْوَةِ أَوْ الاخْتِلاَسِ أَوِ التَّزْوِيرِ أَوِ الخِيَانَةِ، فَلا بُدَّ مِنْ رَادِعِ السُّلْطَانِ، وَإِنْزَالِ العُقُوبَةِ بِمَنْ ثَبَتَ فساده وخِيَانَتُهُ حَتَّى يُكْفَي النَّاسُ شَرَّهُ، وَيَرْتَدِعَ غَيْرُهُ؛ ذَلِكَ أَنَّ الفَسَادَ إِذَا دَخَلَ دَوْلَةً وَسُكِتَ عَلَيْهِ أَنْهَكَهَاَ وَأَهْلَكَهَا، وَسَلَبَ أَمْنَهَا وَرِزْقَهَا، فَإِذَا وَلَجَ الفَسَادُ سُوقَ المَالِ وَالأَعْمَالِ أَفْقَرَ النَّاسَ لِثَرَاءِ رِجَالِ الأَعْمَالِ، وَإِذَا دَخَلَ الشُّرَطَ أَذْهَبَ الأَمْنَ، وَإِذَا دَخَلَ دَوَائِرَ القَضَاءِ أَزَالَ العَدْلَ، وَإِذَا دَخَلَ دَوَائِرَ الصِّحَّةِ وَالمَشَافِي أَهْلَكَ المَرْضَى، وَإِذَا دَخَلَ التَّعْلِيمَ أَوْرَثَ الجَهْلَ، وَإِذَا دَخَلَ الإِعْلامَ أَفْسَدَ العُقُولَ وَالفِطَرَ، وَمَا مِنْ مَجَالٍ يَدْخُلُهُ الفَسَادُ إِلاَّ خَلَّفَ مَصَائِبَ لاَ عَافِيَةَ مِنْهَا إِلاَّ بَاجْتِثَاثِ المُفْسِدِينَ.

كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَطْلُبُ مِنْ وُلاَتِهِ - القَادِمِينَ إِلَى المَدِينَةِ - أَنْ يَدْخُلُوهَا نَهَارًا، حَتَّى يَظْهَرَ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالٍ وَمَغَانِمَ فَيَسْهُلَ السُّؤَالُ وَالحِسَابُ، وَكَانَ يَأْمُرُ عَامِلَ البَرِيدِ عِنْدَمَا يُرِيدُ العَوْدَةَ إِلَى المَدِينَةِ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ: مَنِ الَّذِي يُرِيدُ إِرْسَالَ رِسَالَةً إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ؟ حَتَّى يَحْمِلَهَا إِلَيْهِ دُونَ تَدَخُّلٍ مِنْ وَالِي البَلَدِ..،

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَمَا مِنكُمُ اليَومَ أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ عَلَى ثَغرٍ وَبِيَدِهِ عَمَلٌ ، فَلْيَتَّقِ اللهَ فِيمَا هُوَ مُؤتَمَنٌ عَلَيهِ ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَخَلَّصْ مِن مَسؤُولِيَّتِهِ ، وَحَذَارِ حَذَارِ مِنَ الغُلُولِ بِمُختَلِفِ أَنوَاعِهِ وَأَشكَالِهِ ، فَعَن أَبي حُمَيدٍ السَّاعِدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : اِستَعمَلَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا مَا لَكُم وَهَذَا أُهدِيَ إِلَيَّ . قَالَ : فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثنَى عَلَيهِ ثم قَالَ : أَمَّا بَعدُ ، فَإِنِّي أَستَعمِلُ الرَّجُلَ مِنكُم عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلاَّني اللهُ ، فَيَأتِي فَيَقُولُ : هَذَا مَا لَكُم وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهدِيَت لِي ! أَفَلا جَلَسَ في بَيتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتى تَأتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِن كَانَ صَادِقًا ؟! وَاللهِ لا يَأخُذُ أَحَدٌ مِنكُم شَيئًا بِغَيرِ حَقِّهِ إِلاَّ لَقِيَ اللهَ يَحمِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ ، فَلا أَعرِفَنَّ أَحَدًا مِنكُم لَقِيَ اللهَ يَحمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، وَلا بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَو شَاةً تَيعَرُ " ثم رَفَعَ يَدَيهِ حَتى رُئِيَ بَيَاضُ إِبِطِيهِ يَقُولُ :

" اللَّهُمَّ هَل بَلَّغتُ ؟ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .

وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَنِ استَعمَلنَاهُ مِنكُم عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخيَطًا فَمَا فَوقَهُ ، كَانَ غُلُولاً يَأتي بِهِ يَومَ القِيَامَةِ " الحَدِيثَ أَخرَجَهُ مُسلِمٌ .

وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَنِ استَعمَلنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقنَاهُ رَزقًا ، فَمَا أَخَذَ بَعدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

ووالله لن تَنفَعْ فاسدا سُلطَةٌ وَلا كَثرَةُ مَالٍ ، وَلا أَغنى عَنهُم جَاهٌ وَلا شُهرَةٌ . وَحَتَّى وَإِنْ خفي أمره عن الناس والسلطان ، فَسَتَظَلُّ هُنَالِكَ عَينٌ لا تَخفَى عَلَيهَا خَافِيَةٌ ، إِنَّهَا عَينُ اللهِ الَّذِي " يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ مَا يَكُونُ مِن نَجوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُم وَلا خَمسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلا أَدنى مِن ذَلِكَ وَلا أَكثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُم أَينَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بما عَمِلُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلْيَكُنْ لَنَا فِيمَن مَضَى مُعتَبَرٌ .

فَعَلَى كُلِّ مَنْ وَلاَّهُ اللهُ تَعَالَى وِلاَيَةً صَغُرَتْ أَمْ كَبِرَتْ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ تَعَالَى فِيمَا وَلِيَ، وَأَنْ يُتْقِنَ عَمَلَهُ، وَيَقُومَ بِحَقِّهِ، وَيُؤَدِّيَ أَمَانَتَهُ ، وَيَجْتَهِدَ فِي نَفْعِ النَّاسِ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً، فَإنه لَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ أَوْ جَاهِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَلَنْ يَبْقَى لَهُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ مَوْتِهِ إِلاَّ ذِكْرُ النَّاسِ وَدُعَاؤُهُمْ؛ فَإِمَّا ذَكَرُوهُ بِخَيْرٍ وَدَعَوْا لَهُ، وَإِمَّا ذَكَرُوهُ بِشَرٍّ وَدَعَوْا عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ شُهَدَاءُ اللهِ تَعَالَى فِي الأَرْضِ. وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا

 

المرفقات

في-الأمانة-ومكافحة-الفساد

في-الأمانة-ومكافحة-الفساد

المشاهدات 2361 | التعليقات 1

جزاك الله خيرًا
خطبة مهمة ورائعة
نفع الله بها