خطبة في ختام شهر رمضان

أبو البراء
1431/09/19 - 2010/08/29 06:59AM
الخطبة الأولى ختام شهر رمضان الجمعة 24 /9/1431هـ
الحمد لله ربّ العالمين, لا فوزَ إلا في طاعتِه, ولا عِزَّ إلا في التذلُّلِ لعظمَتِه, ولا أمنَ إلا في الخوفِ منه وخشيتِه, أحمدُه سبحانه وأشكرُه, وأعوذُ به من شرِّ الضَّلالِ وظلمتِه, وأسألُه أن يَمُنَّ علينا جميعاً بعصمتِه.
و أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له, ولا حدَّ لإرادتِه وقدرتِه ومشيئته.
و أشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه, هدى اللهُ القلوبَ بدعوتِه, وأنارَ الصدورَ بسيرتِه, r وعلى آلِه وصحبِه, ومن استنارَ بسنتِه.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ ـ عباد اللهِ ـ واستمسكوا بِشِرْعَتِه, تهنأوا بنعيمِه وجنَّتِه. اللهم أعنّا الله على لزوم التقوى، اللهم وأوجب لنا ثوابها, يا ذ الجلال والإكرام.
أيها المسلمون: هذه أيام شهركم ولياليه تطوى، وهي شاهدة بما عملتم: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ)، وربكم جلّ وعلا يناديكم: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". وَيَا للهِ كَم لَهُ في هذا الشهر مِن عَتِيقٍ مِنَ النِّيرَانِ! وَالمُوَفَّقُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ وَأَعَانَهُ، وَالمَخذُولُ مَن وُكِلَ إِلى نَفسِهِ فَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَشَيطَانَهُ.
عباد الله: شهر رمضان يوشك على الوداع، وقد يكون وداعا أخيرا، فكم من مستقبِل له لم يستكمله!! وكم من مؤمِّل بعودٍ إليه لم يدركه!! وإنْ كان في النفوس همّة، فقد بقيت من أيامه بقيةٌ، خمس ليال من عَشْره الأخيرة، وقد تزيد ليلةً لتمام الثلاثين, فهل تضيع هذه البقيّة في غير قربة؟ هل تفتر العزائم؟ هل نتمنّى على الله الأماني ؟ هل نحسن الظن ونُسيء في العمل؟ هل نرجوا رحمة الله مع إصرارنا على العصيان؟ هل نبكي خوفا دون ترك ما يُخاف منه ؟ هَلْ فِينَا مَن لا يُرِيدُ العِتقَ مِنَ النَّارِ؟! هَل فِينَا مَن لا يَطمَعُ في الجَنَّةِ؟! نعوذ بالله من ذلكم.
قال الإمام الحسن البصري: (المؤمن من علم أن ما قال الله كما قال، والمؤمن أحسنُ الناس عملا، وأشدُّ الناس وجلا، فلو أنفق جبلا من مال ما أمن دون أن يُعايِن. لا يزداد صلاحا وبرا إلا ازداد فَرَقٍا. والمنافق يقول: سوادُ الناس كثير، وسيُغفر لي، ولا بأس علي، فيُسيءُ العملَ ويتمنَّى على الله).انتهى كلامه رحمه الله.
إذن فما أنتم صانعون؟! أَلا تُحِبُّون أَن يَغفِرَ اللهُ لَكم في هذه البقيّة المباركة من ليال العشر؟ وهي الأعظم فضلاً والأكثر أجرًا، ليالٍ تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها ممن وجبت له الجنّة, وحُرِّمَ وجهه على النار؟! وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته؟! وكم من قائم إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه ؟؟ ألا فَلْنَجتَهِدْ في بقيّةِ العَشرِ طَلَبًا لِلَيلَةِ القَدرِ: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) ، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةِ القَدرِ وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطلَعِ الفَجرِ.
ألا فلْنتوكّلْ عَلَى اللهِ، ولْنَستَعِذْ بِهِ مِنَ العَجزِ وَالكَسَلِ, وَلْنَسأَلْهُ التَّوفِيقَ وَالإِعَانَةَ، وَوَلْنُضَاعِفِ العَمَلَ وَلْنَستَكثِرْ مِنَ الخَيرِ، وَلْنَتَقَرَّبْ إِليه سبحانه, وَلْنُكثِرْ مِن دعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيهِ، وَلا سِيَّمَا بما وَرَدَ عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيتَ إِن وَافَقتُ لَيلَةَ القَدرِ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: ((قُولي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عَنِّي)). نعم -أيها الإخوة- الدعاء الدعاء؛ عُجُّوا بالدعاء، فقد قال ربكم -عز شأنه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
هو ربّنا لا يرد داعيًا ولا يخيب راجيًا، فهو غياث المستغيثين، وناصر المستنصرين، ومجيب الداعين. كم للدعاء من شأن عجيب، وأثر عظيم في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأعمار والأرزاق والأولاد والأموال.
ولا تستبطئ الإجابة -يا عبد الله-؛ فربك يحبُّ تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقداره، رضا بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِى » . رواه البخاري
وأَفْضَلُ الدُّعَاءِ مَا كَانَ بِظَهر الغَيبِ، وَأَسْمَعُهُ حِينَ يَكْونُ الثُّلثُ الآخِرُ مِنَ الَّليلِ وبالأسحار، و في آخر ساعةٍ من يومِ الجمعة وعند الإفطار, وفي حال السجود والاضطرار, ففي الصحيح أنّ النّبيّ r ( أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجد فأكثروا الدّعاء).
عباد الله : وأين ذلكم من مخذول خاسر, الغفلة تعلوا محيّاه وتكسوه، لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه، إي والله مغبون من لم يرفع يديه إلى الله بدعوة!! والشقي من حرم رحمة الله!!
نسأل الله جميعا السلامة والعافية, ونعوذ به من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع؟!
ألا فلْيحذَرْ المسلم العاقل من العَدُوّ اللَّدُود الشَّيطَان؛قال الله: وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الزخرف
كما يحذر المسلمُ من المَعَاصِي كُلِّهَا صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، فَإِنَّهَا سَبَبُ كُلِّ بَلاءٍ وَجَالِبَةُ كُلِّ مُصِيبَةٍ وشقاءٍ، وَمَانِعَةٌ مِنَ كُلِّ خَيرٍ وَحَارِمَةٌ مِنَ التَّوفِيقِ. ألا فليحذَرْ من تُسوّلُ له نفسُه انتهاكَ حرمةِ نهار رمضان بالفطرِ بلا عذرٍ شرعيّ، فعن أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ رضي الله عنه, قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِى رَجُلاَنِ فَأَخَذَا بِضَبْعَىَّ فَأَتَيَا بِى جَبَلاً وَعْرًا فَقَالاَ لِىَ : اصْعَدْ فَقُلْتُ : إِنِّى لاَ أُطِيقُهُ فَقَالاَ : إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِى سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا أَنَا بَأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ فَقُلْتُ : مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ قَالُوا : هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِى فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ مُشَقَّقَة أَشْدَاقُهُمْ تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا قَالَ قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاَءِ قَالَ : هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ ». أخرجه ابنُ خزيمة وابنُ حبان وإسناده صحيح.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ التَّوفِيقَ يَا رَحمَنُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الخِذلانِ وَالحِرمَانِ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ...
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين, وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يهدي من يشاءُ إلى صراط مستقيم، أحمدُه سبحانه وأشكرُه، ولا يزالُ للشاكرِ منهُ خيرٌ عميم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الحكيمُ العليم، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه جاءَ بالدِّين القويم، r وعلى آله وأصحابه الذين بذلوا في سبيلِ الدينِ كل غالٍ وعظيم.
أما بعد: فقد شرعَ اللهُ لنا أيها المسلمونَ في ختامِ هذا الشهرِ عباداتٍ جليلةً، تُكمِلُ النقصَ، وتَسُدُّ الثَّغْرَ، وتَجْبُرُ الكسرَ, هي طهرةٌ للصّائم من اللغو والرفث. ومن أعظمِ هذه العباداتِ زكاةُ الفطرِ. وهي صاعُ من طعامِ الآدميّين كالرزّ و القمح والتّمر وغيرِه، وكلَّما كان الصنفُ أطيبَ وأنفعَ كان ذلك أفضلَ وأعظمَ.
وقد فرضها الله على جميعِ المسلمين: ذكرِهم وأنثاهم، صغيرِهم وكبيرِهم، والأفضلُ إخراجُها عن الحملِ الذي في البطن. أما وقتُها فيجوزُ إخراجُها قبلَ العيد بيومين ولا يجوزُ قبلَ ذلك، ويستمرُّ وقتُها إلى صلاةِ العيد، فلا تجزيءُ بعدها إلا إذا كان الإنسان جاهلا، أو عجز عن أدائها في وقتها من غير تفريط.
ومما شُرع في ختامِ رمضانَ التكبيرُ، فكبِّروا من غروبِ الشمسِ ليلةَ العيدِ إلى صلاةِ العيدِ، قولوا؛ (الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد)، واجْهروا بذلك في المساجدِ والأسواقِ والبيوت، وأما النساء فيكبِّرن خارج بيوتهن سرا لا جهرا.
ومما شُرعَ بعدَ رمضانَ صلاةُ العيد فقد أمرَ بها الرسولُ r الرجالَ والنساءَ، فاخرجوا إليها رجالا ونساءً صغاراً وكبارا، ولتبتعِدِ النساءُ عن التطيُّبِ وإبداء الزينة، وأما الرجال فالسنة في حقهم التطيبُ والتزين بعد الاغتسال, والسنة أن يأكلَ الإنسانُ وتراً من التمر قبل خروجه إلى صلاة العيد: فَيَا سَعَادَةَ مَنأَصبَحَ يَومَ العِيدِ وَقَد حُطَّت خَطِيئَتُهُ ، وَيَا فَوزَ مَن خَتَمَ اللهُ شَهرَهُ بِعِتقِ رَقَبَتَهُ ، فَخَرَجَ إِلى المُصَلَّى نَقِيًّا طَاهِرًا ، لَيسَ عَلَيهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ مِثقَالُ ذَرَّةٍ ، قَدغَفَرَ اللهُ ذُنُوبَهُ وَسَتَرَ عُيُوبَهُ ، صَامَ شَهرَهُ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا، وَأَحيَا لَيلَهُ سُجُودًا وَاقتِرَابًا.
إخوة الإسلام: تقبّل الله طاعاتكم, وثبّت قلوبكم على دينه, وجعلكم من المسارعين إلى الخيرات, وإنّ من علامة قبولِ العمل أنْ تَتْبَعَ الحسنةُ الحسنةَ,قال الله عزّ وجل : ﴿إنما يتقبّل الله من المتقين﴾.,
وعن عائشة رضي الله عنها , قالت: سألتُ رسول الله عن هذه الآية: وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال : ((لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تقبل منهم أُوْلَـئِكَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ وَهُمْ لَهَا سَـٰبِقُونَرواه الترمذي. ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعملوا وجدُّوا و أبشروا وأملُوا..وتَذَكَّرُوا أَنَّكُم في ختام شَهرٍ أَيَّامُهُ مَعدُودَاتٌ وَلَيَالِيهِ مُبَارَكَاتٌ ، يُوشِكُ أَن تُصبِحُوا وَقَد هَلَّ هِلالُالعِيدِ فَفَازَ مُجِدٌّ وَاغتَبَطَ مُجتَهِدٌ ، وَخَسِرَ مُفَرِّطٌ, وَتَحَسَّرَمُقتَصِدٌ,والعبرة بالخواتيم,اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك,والعتق من نيرانك, واجعل مآلنا فيه إلى جنّاتك. عباد الله: صلوا وسلموا على نبيكم محمد؛ فصلاتكم عليه بعشر صلوات من الله.
الّلهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأزواجه أمّهات المؤمنين والصحابة والتّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
من المراجع خطبة للشيخ بن حميد, والشيخ عبد البصري, ومنبريات للدكتور أحمد السديس
المشاهدات 8208 | التعليقات 1

بارك الله فيك ونفع بك