خطبة في بر الوالدين –من كلام ابن الجوزي-
محمد بن عبدالله التميمي
الحمد لله الذي البَّرِّ، أمر بالبرِّ ونهى عن العقوق، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد الصادقِ المصدوق، وعلى آله وأتباعه يوم استيفاء الحقوق. أما بعد: فقد قال الله تعالى في كتابه أمرا لعباده المؤمنين بالتقوى بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} جاء في التفسير معناه: أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى. عباد الله.. غير خافٍ على عاقلٍ حقُّ المنعِم، والعاقلُ يعرف حقَّ المحسن، ويجتهد في مكافأته، وجهل الإنسان بحقوق المنعم من أخس صفاته، ولا منعم بعد الحق تعالى على العبد كالوالدين، فقد تحملت الأم بحمله أثقالاً كثيرة، ولقيت وقت وضعه مزعجات مثيرة، وبالغت في تربيته، وسهرت في مداراته، وأعرضت عن جميع شهواتها، وقدمته على نفسها في كل حال، وقد ضم الأب إلى التسبب في إيجاده محبته بعد وجوده، وشفقته، وتربيته بالكسب له والإنفاق عليه. وليعلم البار بالوالدين أنه مهما بالغ في برهما لم يفِ بشكرهما (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوَلِدَينِ إِحساناً) هو: البر والإكرام. ( إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما ) أي: لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجههما. (وَقُل لَهُما قَولاً كَريماً) أي: لطيفاً، أحسن ما تجد. (وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَةِ) دخل رجل على ابن سيرين وعنده أمه، فقال: ما شأن محمد يشتكي؟ قالوا: لا، ولكنه هكذا يكون إذا كان عند أمه. (وَقُل رَبِّ اِرحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيراً) . ومن بيان حق الوالدين قوله تعالى: (أَنِ اشَكُر لي وَلِوَالِدَيكَ) فقَرَنَ شُكرَه بشكرهما، عن أبي عمرو الشيباني قال: حدثنا صاحب هذه الدار -وأشار إلى دار عبد الله بن مسعود- قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيُّ العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة لوقتها) . قلت: ثم أيّ؟ قال: (بر الوالدين) . قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) . برُّهما يكون بطاعتهما فيما يأمران به ما لم يكن بمحظور، وتقديم أمرهما على فعل النافلة، والاجتناب لما نهيا عنه، والإنفاق عليهما، والمبالغة في خدمتهما، واستعمال الأدب والهيبة لهما، فلا يرفع الولد صوته، ولا يُحْدِقُ إليهما، ويصبر على ما يكره مما يصدر منهما. [عباد الله. وإياكم ومعصيةَ الله بعقوقِ من أوصاكم بهما الله، فإنه من أعظم الذنوب عند الله] عن أبي بكرة، عن أبيه، قال: ذكرت الكبائر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه، رغم أنفه) . قيل: من يا رسول الله؟ قال: (من أدرك والديه عنده الكبر أو أحدهما فدخل النار). [وأيُّ صحبةٍ تُبتغى مع من عق والديه] قال بعض الحكماء: (لا تصادق عاقاً، فإنه لمن يبرك، وقد عق من هو أوجب منك حقاً) . [عباد الله.. إليكم صورًا مما عده السلف عقوقا] فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال (إبكاء الوالدين من العقوق)، وعن مجاهد، قال: (لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومن شدَّ النظر إلى والديه لم يبرهما، ومن أدخل عليهما ما يحزنهما فقد عقهما)، وقال يزيد بن أبي حبيب: (إيجاب الحجة على الوالدين عقوق) يعني الانتصار عليهما في الكلام. اللهم اجعلنا من البارين، ولا تجعلنا عاقين، واغفر لنا تقصيرنا يا رب العالمين، رب ارحم والدِينا كما ربونا صغارا، اللهم وأصلح لنا في ذرياتنا إنا تبنا إليك وإنا من المسلمين. الخطبة الثانية [فاتق الله عبدَ الله، واقدُر نعمة إدراك والديك حيَّين، وتمتع معهما فإن لذلك منتهى يحين، وتعرَّف على قدر هذه النعمة بسؤال من فقدهما فإنه بذلك عارف، مع بقاء نصيب من البر عظيم لمن فقد أبويه أو أحدهما، فإن أصدق البر ما كان بعد الموت، فإنه لا يرجو منهما الشكر والثناء، وإنما يحمله على ذلك الأجر والوفاء] قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات [الإنسان] انقطع عمله من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أني لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك) [عباد الله.. إن من النعمة في الوالدين، إجابة دعائهما، فإنها مجابةٌ لا تُرَدّ] قال الحسن: (دعاء الوالدين ينبت المال والولد)، وسئل ما دعاء الوالد للولد؟ قال: (نجاة). [إلا أن إجابة الدعاء منهما كما تكون للولد فإنها تكون عليه أيضا فحذارِ] عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولدهما)
المرفقات
1623360083_خطبة في بر الوالدين-من كلام ابن الجوزي.docx
1623928348_خطبة في بر الوالدين-من كلام ابن الجوزي.docx
1623928348_خطبة في بر الوالدين-من كلام ابن الجوزي.pdf