خطبة في الأدلة على بطلان ألوهية المسيح عليه الصلاة والسلام

مبارك الجزائري
1434/07/18 - 2013/05/28 20:24PM
خطبة في الأدلة على بطلان ألوهية المسيح عليه الصلاة والسلام

إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيِّئات أعمالنا ، من يهده الله ؛ فلا مُضِلَّ له ، ومن يضلل ؛ فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنتُم مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 102] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكَمْ رَقِيبًا } [النساء : 11] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً } [الأحزاب : 70 - 71] .
عباد الله: ذكرنا في الخطبة السابقة حقيقة دعوة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وأنه دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولم يدع إلى عبادة نفسه، وتصديقه كذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }
أي: ما ينبغي لأحد من البشر أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوة. (ولكن إذا آتاه الله ذلك، فإنما يدعوهم إلى العلم بالله، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه، وأئمةً في طاعته وعبادته)(1).
ثم قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
أي: و كذلك النبي فكما لا يأمر بعبادة نفسه، فإنه (لا يأمر الناس أبداً أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ، فالنبي لا يأمر الناس بالكفر بعد أن يسلموا لله ويستسلموا لألوهيته ، وقد جاء ليهديهم إلى الله لا ليضلهم ، وليقودهم إلى الإسلام لا ليكفرهم!)(2).
عباد الله: إن الأدلة عند أهل الإسلام متكاثرة على بطلان ألوهية المسيح عليه الصلاة والسلام منها قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
فقوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وهذا فيه نفي لألوهية المسيح عبيه الصلاة والسلام من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: (أن المسيح عيسى ابن مريم غايته أن يكون رسولا من رسل الله عزّ وجل، لقوله: {إِلاَّ رَسُولٌ}، وأن الوصف الذي ينحصر فيه عيسى ابن مريم ولا وصف له سواه، هو أنه رسول، ولا يمكن أن يكون الرسول إلهاً؛ لأنه مستعبد من جهة مرسله)(3)، والدليل على ذلك قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}

ذكر الله في هذه الآية أن عيسى عليه الصلاة والسلام أنه لا يستنكف عن عبادة ربه، أي: (لا يمتنع عنها رغبة عنها، لا هو { وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } فنزههم عن الاستنكاف وتنزيههم عن الاستكبار من باب أولى، أي: فعيسى والملائكة المقربون قد رغبوا في عبادة ربهم، وأحبوها وسعوا فيها بما يليق بأحوالهم، فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم والفوز العظيم، فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ولا لإلهيته، بل يرون افتقارهم لذلك فوق كل افتقار. ولهذا قال: { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } أي: فسيحشر الخلق كلهم إليه، المستنكفين والمستكبرين وعباده المؤمنين، فيحكم بينهم بحكمه العدل، وجزائه الفصل)(4).
وجاء في الصحيحين من حديث عُبَادَة بْن الصَّامِتِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ [وَرَسُولُهُ] [وَابْنُ أَمَتِهِ] وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَىِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ ».
فقوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ) فهذا خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-، وأنه (عبد تعبده الله جل وعلا بالعبودية وهذه عبودية خاصة التي يفعلها الإنسان طوعاً ، والعبودية الخاصة هي أشرف مقامات العبد ، فليس لعيسى عليه الصلاة والسلام من الإلهية أو الربوبية شيء، وليس لأحد من الخلق لا الملائكة ولا الرسل ولا غيرهم شيء من خصائص الإلهية أو الربوبية)(5).فإذا كان عيسى عليه الصلاة والسلام عابدا لله سبحانه وتعالى فكيف يكون العابد معبودا. و في إنجيلهم المحرف (متى (27 / 46)، و إنجيل مرقس (15 / 34):
( و نحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلي إيلي لم شبقتني: أي إلهي إلهي لماذا تتركني؟) (فههنا يبين عيسى المسيح عليه السلام أن الله تعالى إلهه، و يستغيث بإلهه هذا بتكرار و تضرع، فأين هذا ممن يدعي أن عيسى المسيح نفسه كان هو الله تعالى؟!)(6).
وفي هجرة الحبشة لما دخل عمرو بن العاص على النجاشي يَشِي بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنجاشي : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما فأرسل إليهم فسلهم عنه، فبعث - والله - إليهم ولم ينزل بنا مثلها، فقال بعضنا لبعض : ماذا تقولون في عيسى إن هو سألكم عنه ؟، فقالوا : نقول - والله - الذي قاله الله فيه والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه، فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟، فقال له جعفر : نقول : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فدلَّى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عودا بين إصبعيه فقال : ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد، فتناخرت بطراقته (أي: تكلّمت وكأنه كلامٌ مع غَضَبٍ ونُفُور)، فقال : وإن تناخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم في الأرض ( الشيوم : الآمنون في الأرض )(7). والشاهد منه قول جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه: (هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول)، وتصديق الملك النجاشي له وقد كان نصرانيا فأسلم، وسأتكلم عن الوجهين الباقيين في الخطب القادمة إن شاء الله تعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
(1)- تفسير الطبري بتصرف يسير.
(2)- في ظلال القرآن لسيد قطب.
(3)-
تفسير الشيخ العثيمين بتصرف.
(4)- تفسير السعدي[ ص 204 ].
(5)- شرح فتح المجيد للشيخ الغنيمان.
(6)- الأناجيل الأربعة ورسائل بولس ويوحنا تنفي ألوهية المسيح كما ينفيها القرآن.
(7)- صحيح السيرة النبوية للشيخ لألباني.

المشاهدات 3101 | التعليقات 0