خطبة ( فـكّـوا الـعـانـي ) - للشيخ : نايف بن حمد الحربي
عزام عزام
1434/03/23 - 2013/02/04 17:21PM
خُطبَة.. فُكُوّا العَانِيّ..
جامعُ العزيّزية بالقيصومة 24/12/1433هـ
نايف بن حمد الحربي
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ أجابَ مَن سأل, وكفى مَن عليه اتَكَل, ومَن استرحَمَهُ رَحِمَهُ ولهُ وَصَل, مَن نصَرَهُ فاللهُ لهُ ناصِر, وإن عنه الحَمِيّمُ جَفَل, فوعدُ اللهِ صادِق, وإن ظَنَّ مَوّتُوّرٌ أنّ سَنَاهُ أَفَل, فالمِنّةُ على مَن استقامَت حالُهُ, وبهديِّ الوحيّينِ اتصل, فاستضاءت محَجَتُهُ, والدِيّنَ ناصَرَهُ وما خذَل, وأشهدُ أنّ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريّكَ له, وأشهدُ أنّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلّى اللهُ وسّلمَ وباركَ عليه, وعلى آلهِ وصحبهِ, وتابعيّهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين..
أمَّا بعد.. عبادَ الله, أعظَمُ ما بهِ يُوصَى, ماللهُ بهِ أَوصَى, والمرءُ معَائِبَهُ به أكدَى, إذْ أنّ مَن تَوَشَحَ التقوى, كانَ مِن الهفواتِ أنأى, فعليكم بتقوى اللهِ عبادَ الله, إذْ اللهُ الوصيَّةَ بها أعَادَ بعدَما أبدى..
معاشر المسلمين..
ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيِّضٍ & يَجد مُرَّاً به الماءَ الزُلَالَ.
إذا كَثُرَت الرَزايّا, وعَمّتْ الخُطُوب, وعُدِمَ الحادِيّ, وخَفَتَ صَوّتُ المُناديّ, آثَرَ الجَمعُ منهَجَ السلامة, بيّنما المُوَفَقُونَ, يُؤثِرونَ سلامةَ المنهج, وهُمْ في الناسِ قليّل, كالإبلِ المائة, لا تَكَادُ تَجِدُ فيّها راحلةً إلا واحدة, عندها, لا غَروَ إذا قُلِبَت الحقائق, وتَبدلتْ المفاهيم, وأضحى المَعرُوفُ مُنْكَرا, والمُنكَرُ معروفا, إذْ الضَابِطُ والحالةُ هذه, ما تَحصُلُ به سَلامَةُ العاجِلَة, لا ضَيّر, وإن أَزرَوا بالآخِرة, فيَسخَرَونَ بالنَاصح, ويُثَبِطُونَ المُصّلِح, إذْ المعَايِيّرُ مُتَبَاينة..
ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيِّضٍ & يَجد مُرَّاً به الماءَ الزُلَالَ.
ومَن نَازَعَ في هذا, فلنَمضيّ وإيَّاهُ سَويَّا, إلى مُسَلَّمَةٍ مِن مُسَلَّمَاتِ الشرع, لها بَيّن, وبها أمَر, وعليها أكّد, هي في أعرَافِ أهلِ الجاهليّةِ مِن الابجديَّات, فواعجَبا, كيفَ يَتَنَكَرُ لها بَنُوا الإسلام, في عَصرِ الحَضَارات, مُسَلَّمَةٌ, عليّها الدِيّنُ قام, وبِهَا انتَشَر, وبتحقِيّقِها, على أعدائهِ ظَهَر, ففي التنزيّل {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُبَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} وفي التنزيّل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وفـــي التنزيّل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وفي التنزيّل: "المؤمنونَ تتكافأ دِمَائُهُم, وهُمْ يَدٌ على مِن سِوَاهُم, ويَسعى بذِمَتِهِم أدنَاهُم" إنّها أُخُوةُ الإيّمَان, التي غَابَتْ أو غُيِّبَتْ, عن أفهَامِ كثِيّرٍ مِن النّاس, فعلى الدِيّنِ لا يُغَار, ولأجلِ الدِيّنِ لا تَثُوُّرُ حَمِيّة, وإنّمَا يُبَرَرُ للجانِيّ, وتُدَانُ الضَحِيّة, فلم يَعُدْ مُستَغرَبَاً في طَوَارِقِ الليلِ والنهار, أنبَاءُ أخذِ بلادِ المسلميّنَ مِن وَسَطِهَا, فضلاً عن أن تُنتَقَصَ مِن أطرَافِهَا, فَاستُبِيَّحَ الحِمَى, ونُهِبَت الثَرَوَات, وغَصَتْ بأهلِ الإسلامِ السجُونُ والمُعتَقلات, والعَجَب, أنّ مَن لم يَحِلَّ بسَاحِهِ المُصَابُ مِن أهلِ الإسلام, يَتعَاملُ معَ الأحداث, وكأنَّهُ فيّ مَأمَنٍ مِنها, وكأنَّ اللهَ لم يَقُل: { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ} فالقَضِيَّةُ ليّسَتْ بقَضِيّةِ مَوَدَةٍ وصَفَاء, وإنّمَا هيَ تَمَسْكُنٌ لِتَمَكُن, ولكن..
ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيِّضٍ & يَجد مُرَّاً به الماءَ الزُلَالَ.
أهلَ الإسلام..أَورَدَ ابنُ العَربيِّ في أحكَامِه, في مَعْرِضِ حَدِيَّثِه عن أُسَارَى المسلمين, أَوّرَدَ قولَهُ: "إلا أن يَكونُوا أَسرى مُستَضعَفِيّن, فإنَّ الوِلايَّةَ معهم قائمة, والنُصّرَةَ لهم واجِبة, حتى لا تَبقى مِنَّا عَيّنٌ تَطرِف, أو نَبذُلَ جَمِيّعَ أموالِنَا في استِخرَاجِهِم, حتى لا يبقى لأحدٍّ دِرهَم, كذَلِكَ قالَ ماكُ وجَمِيّعُ العُلَمَاء, فإنّا للهِ وإنَّا إليّه رَاجِعُون, على ما حَلَّ بالخَلْقِ مِن تَرْكِهِمْ إخوانَهُم في أَسرِ العَدوّ, وبأيّديهِم خَزَائِنُ الأموَال, وفُضُولُ الأحوال, والقُدرَةُ والعُدَد, والقُوَّةُ والجَلَد"ا.هـ
وقالَ القُرطُبيُّ في جَامِعِه: "ولَعَمرُ الله, لقد أعرضنَا نَحنُ عن الجميعِ بالفتن, فتظَاهَرَ بَعضُنَا على بَعضٍ ليسَ بالمسلميّن, بل بالكافريّن, حتى تَرَكنَا إخوانَنَا أذِلاءَ صَاغِريّن, يَجري عليهم حُكمُ المُشرِكِيّن, وفِدَاءُ الأُسَارَى واجب, وإنّ لم يَبقَ دِرْهَمٌ واحد, والنَبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَ الأُسارى وأَمَرَ بفَكِهِم, جَرَى بذَلِكَ عَمَلُ المُسلمين, وانعَقَدَ به الإجمَاع, ويَجِبُ فَكُّ الأُسَارى مِن بيّتِ المال, فإنّ لم يَكُنْ, فهو فَرضٌ على كَافَةِ المسلمين, ومَن قامَ به منهم, أَسقَطَ الفَرْضَ عن البَاقِيّن"ا.هـ
إنّهُ حُكمٌ, اتَفَقَ عليه أهلُ الإسلامِ قَاطِبة, فَمَن سَلَف, هُمْ عُلَماءُ المَالكِيّة, وبمِثِلِ ما قَالُوا, قَالَ الحَنَفِيّة, وتَابَعَ الشَافِعِيّة, وأَكَدَّ الحَنَابِلَة, ونَقَلَ الإجمَاعَ الظَاهِرِيَّة, ومَن أرَادَ تَحَقُقَا, فليُطَالِع لهؤلاءِ مَرَاتِب, وللحَنَابِلَةِ مُغنِيّ, ولمَن قَبلَهُم رَوّضَة, وللأحنَافِ مَبسُوّط, وكَيّفَ لا يَقُولُ أهَلُ الإسلامِ بهَذا, والنَبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ كمَا عندَ البُخاريِّ مِن حَدِيّثِ أبيّ مُوسى رضي اللهُ عنهُ يَقول: "فُكُوّا العَانِيّ -يَعنِي الأسيّر- وأطعِمُوا الجَائِع, وعُوّدُوا المَرِيّض" وفي الصَحِيّحَيّن, مِن حديثِ أبي هرَيرةَ رضي اللهُ عنه أنّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلَّمَ قَنَتَ شَهراً, يَدعُوا بِنَجَاةِ عَيَّاشِ بنِ أبي ربيّعة, وسَلَمةَ بنَ هِشَام, والولِيِّدَ بنَ الوَلِيِّد, والمُستَضعَفِيِّنَ مِن المسلمين" فمَا قَطَعَ الدُعَاءَ حتى عَادُوا, وكانَ ذَلِكَ لِتَمَامِ شَهر, وفي مُسلِمٍ, مِن حَدِيثِ سَلَمَةَ بنِ الأكوَع, أنّهُ خَرَجَ مع أبي بَكرٍ في سَرِيَّة, فأصابُوا مِن المُشرِكيّن, فَنَفَلَهُ امرأةٌ مِن السَبِيّ, فاستَوّهَبَهَا مِنهُ النَبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم, وبَعَثَ بها إلى أهَلِ مَكَة, فَافتَدَى بَهَا أُنَاساً مِن المسلمين" وفي مسلمٍ أيّضَا, مِن حَدِيثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيّن, أنّ ثَقِيِّفَاً حُلَفَاءَ بَنِيِّ عُقَيِّل, أَسَرُوا رَجُلَيِّنِ مِن أصحَابِ رَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم, وأَسَرَ الصَحَابَةُ رَجُلاً مِن بَنِيِّ عُقَيِّل, فَافتَدى بهِ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أصحَابَهُ" وقَبْلَ هذا, فالحَقُ تَبَارَكَ وتَعَالى, بالأمرِ بالفِداءِ صَرَّحَ وَعَرَّض, أنكَرَ على القَاعِدِيِّن, وعلى الفِدَاءِ حَرَّض, ففي الأنفَال {وَإِنِاسْتَنْصَرُوكُمْفِيالدِّينِ فَعَلَيْكُمُالنَّصْرُ إِلَّا عَلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} بشُرُوطٍ قَائمة, ومَوانِعَ مُنتَفِيَّة, لجَوابِ الشَرَّطِ والاستِثنَاء, فَوَاعَجَباً, مِمَن يُؤمِنُ ببَعَضِ الكِتَابِ, ويَكفُرُ بِبَعْض, وفي النِسَّاء {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَامِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَوَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} بخِطَابٍ, يَستَجِيّشُ مُرُؤةَ النُفُوس, وحَسَاسِيَّةَ القُلُوب, بمَقصِدٍ ساميّ, وغَايَّةٍ شَرِيِّفة, وهَدَفٍ نَبِيِّل, للنُهُوضِ لِقِتَالٍ, يَكُونُ به خَلاصُ المُستَضعَفِيَّنَ مِن المسلِمِين, الذيِّنَ تَرتَسِمُ صُوَرُهُمْ, في مَشهَدٍ مُثِيَّرٍ لحَمِيَّةِ المُسلِم, وكَرامَةِ المُؤمِن, وهُم يُفتَنُوّنَ في دِيِّنِهِم, الذيّ هو أخَصُّ خَصَائِصِ الوجُودِ الإنسَانِيّ, تَتبَعُهُ كرَامَةُ النَفسِ والعِرض, وحَقُ المالِ والأرض, ورَحِمَ اللهُ عُمَرَ بنَ عبدِالعزيز, لَمَّا قَرّر: "إذا خَرَجَ الرَومِيُّ بالأسِيِّرِ من المسلمين, فلا يَحِلُّ للمسلمينَ أن يَرُدُوهُ إلى الكُفر, وليُفَادُوّهُ بما استَطَاعُوا" ولَمَّا بَعَثَ عبدَالرحمنِ بنِ أبي عَمرَةَ لِمُفَاداةِ أَسرى المسلمين مِن القسطنطينية, قالَ لَهُ عبدُالرحمن: "أرأيتَ يا أميِّرَ المؤمنين, إن أبَوا أن يُفَادُوا الرَجُلَ بالرَجُلِ كيفَ أصنَع؟ قالَ عُمَرُ: زِدْهُم, قالَ عبدُالرحمن: إن أبَوا أن يُعطُوا الرَجُلَ بالاثنين؟ قالَ عُمَرُ: أَعطِهِم ثلاثة, قالَ عبدُالرحمن: فإنّ أَبَوا إلا أربعة؟ قالَ عُمَرُ: أَعطِهِمْ لِكُلِ مُسلِمٍ مَا سألُوك, فواللهِ لرَجُلٌ مِن المسلمين, أحَبُّ إليَّ مِن كُلِ مُشرِكٍ عِنِّدي, إنَّكَ ما فَادَيِّتَ بهِ المُسلِمَ فقد ظَفِرت, إنَّكَ إنَّما تشتَرِي الإسلام" فَرَحِمَ اللهُ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيز "فإنَّكَ إنَّما تَشتَرِي الإسلام" ولَكن..
ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيِّضٍ & يَجد مُرَّاً به الماءَ الزُلَالَ.
أقولُ هذا القول واستغفرُ اللهَ ليّ ولكم..
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ أخَذَ على أهلِ العِلمِ عَهدَا, حَذَرَهم وَعِيِّدَاً, لَمَّا أجزَلَ لهُم وعدَا, مَضَى في هذا أمرُهُ, ولَهُ زادَ تأكيِّداً بعدَما لَهُ أبدا,
فالقَائِمُ بهِ قد بَدَى لَهُ بَيّنَ النَّاسِ مبدَأ, والنَاكِصُ المُتَخاذِلُ عنه, الحَقَّ في علمِهِ قد قَتَلهُ وأدَا, فأخبَارُهُ مَمقُوتَة, وأقوَالُهُ قد خَدَّتْ للهَوانِ خَدَّا, وصلى اللهُ وسَلّمَ وباركَ على عبدهِ ورسولهِ محمد, وعلى آلهِ وصحبهِ وأزواجهِ وأتباعهِ إلى يومِ القيّامَةِ والديّن, ما أشرَقَ ضِيَّاءٌ, وللعَيَّانِ تَبَدَّى..
أمَّا بعد.. فَكُلُ مَا سَلَفَ في الخُطبَةِ الأولَى, هو كالتَوطِئَةِ لِمَّا سَأُحَدِثَكُم عنه, مِن أخبَارِ أسرَانَا في العِرَاق, والحَدِيِّثُ عنهم, يَنسَحِبُ على كُلِ أَسِيِّرٍ شَدَّ أهلُ الكُفرِ وِثَاقَه, فالأسرى العَرَبُ في سُجُونِ العرَاق, يَربُو عَدَدُهُمْ, على ستِيِّنَ وأربعمائةِ أسِيِّر, منهم, سِتَةٌ وسِتُونَ سُعُوّدِيَّا, أُعدِمَ أحَدُهُم قبلَ ثَلاثَةِ أشهُر, ومَاتَ ثَلاثَةٌ في المُعتَقَل, أحَدُهُم عن طَرِيِّق حقنِهِ بإبرة أَسِيِّد, فبَقِيَ اثنَانِ وستُون, ستَةٌ منهم، مَحكُومٌ عليّهم بالإعدَام, وسَابِعٌ فَاقِدٌ للعقل, على إثْرِ ضَرَبَاتٍ على الرَأس, والكُلَّ قد مَضَى عليه في سجنهِ تسعَةَ عَشَرَ عِيِّدَا, في تسعِ سنَواتٍ ونَيّف, يَتَعَرَضُون خلالَها, لأصنَافٍ مِن العَذاب النَفسِيّ والبَدَنيّ, يَعجَبُ المَرءُ, مِن الصمتِ المُخزِيّ لأهلِ النَخوةِ إزائِهَا, أم أنّهُم يَعتَذِرُونَ بأنّهُم لا يَعلَمون, فليَعلَمُوا إذاً, ولَن أُحَدِثَكُم مِن بُنَيَّاتِ أفكَاري, ولا مِن نسجِ خَيّالي, ولا عن طَرِيقِ مَوقِعِ تَواصُلٍ اجتِمَاعي, وإنَّما أُحَدِثُكُم, عَمَّن في سُجُونِهِم اُعتُقِل, ولعَذابِهِم تَجَرَّع, وقَفت قَدَمُهُ, وأبصّرَت عَيِّنُه, ومَاسَّ جِلِّدُهُ, فمَنَّ اللهُ عليهِ بالفَرَج, ولم يَزَل مَع أخوَتِهِ مُتَواصِلا, بأمِرِهم قَائِمَا, ولأخبَارِهِم نَاقِلا..
سأُخبِرُكُم بأنَّهُ يُحَدِث, بأنَّ الأسرَى في سُجُونِ العراق, يُصَبَحَونَ ويُمَسَّون, بسبِ اللهِ وسَبِ الرسول صلى اللهُ عليهِ وسلَّم, والطَعنِ في عِرضِه, ويُعَذَبُونَ بالتَعلِيقِ المُستَمِر, ليَومَيّنِ أو ثَلاثَةِ, ورُبَمَا وُضِعُوا في صَنَادِيقَ سَودَاءَ كالتَوابِيّت, لا يَقْدِرُ أحَدُهُم فيها على تَحرِيِّكِ جَارِحَة, لمُدّةٍ كالتي خَلَت, ورُبَما جُرِّدَ أحَدُهُم مِن مَلابِسِه, وسُجِنَ في دَورَةِ ميَّاه, لا يَستَطِيِّعُ فيها الاضطِجَاع, ولا يَخرُجُ مِنها إلا بدَفعِهِ ضَرِيبَةً مَاليَّة, وحتَى ما تَأتِيِّه, فليُقِم في الحَمَامِ عَارِيَّا, ولو تَطَاوَلت أيَّامُهُ وليَاليِّه, ورُبَما أخرَجَ الرافِضَةُ أحدَهُم, فَتَشَفّوا بضَربه, حتى يَرى المَوتَ ولا يُدرِكه, فقط لأنَّه مِن أهلِ السُنَّة, ومِن المملكةِ تحديدا, وفي سجنِ النَاصريَّةِ بالذات, لا يَأتِيهُم الطَعَامُ إلا بعدما يَفرُغُ مِنهُ الرافِضة, فلا يأكُلُونَ إلا الفَضلَة..
فهُم مَظلُومُونَ مِن قِبَلِنَا, ومِن قِبَلِ الرافِضة, أمَّا مِن قِبَل الرافِضة, فجَميِّعُ المُعتَقَلِيِّن, لم تَثبُت ضِدَهُم تُهَم, إلا تُهمَةَ التَعَدِّي غَيرَ القَانُوني للحدُود, وعُقُوبَتُهَا في الدستُورِ العراقي, مِن عشرِينَ يَوما, إلى سِتَةِ أشهُر, وهُم يُحكَمُونَ عليها, بخَمسِ عَشرَةَ إلى عشرينَ سَنة, وأمَّا ما بَثتهُ بعضُ الفضَائِيَات, مِن اعتِرَافاتٍ لبعضِ المُعتَقَلِين السُعُوديين, فهيَ اعتِرَافَاتٌ اُنتُزِعَت مِنهُ انتِزَاعاً في مُعَسكَرِ الشَرف, الذي لسُوءِ سُمعَتِه, اُضطُرَت الحُكُومَةُ العِرَاقِيَّةُ لإغلاقِهِ, وبعدَ بَثِّ تِلكَ الاعتِرافَات, حُكِمَ عليهِ بالإعدَام, ولا عَجب, إذْ الخَصمُ هو القَاضي, ومَن أعَان على قَتلٍ, فهو كَمُبَاشِرِه.
ومَظلُومُنَا مِن قِبَلِنَا, لأنَّهُ ليّسَ لَنَا في العراق, مُمَثِلٌ دُبلُومَاسي, ولو على أقَلِ المُستَوَيَّات, يُتَابِعُ شُؤونَهُم, عِلماً بأنَّ المُمَثِلَ الدُبلُوماسِي, تُوفَرُ له الحِمَايَّة, وضَرِيِّبَةً لهَذا, فقد أُفرِجَ عن أحَدِ المُعتَقَلِينَ في عام ألفينِ وعَشَرة, فلم يَتَمكَن مِن التَواصُلِ مع أهلِه, فأخذَ يَهِيِّمُ في شَوَارعِ بغداد, فأُعِيِّدَ اعتِقَالُهُ مَرَةً أُخرى, فهو الآن, يَقبَعُ في سُجُونِ الرَافِضة.
فهؤلاءِ هُم إخوانُنَا, وهذا بعضُ مُصَابِهِم, ومِن حقِهِم عَلَيِّنَا, أن نَدعُوا لهُم في الخَلَواتِ والجَلَوات, وأن نُعَرِّفَ بقَضِيَّتِهِم, ونَرفَعَ دَرَجَةَ وعيِّ المُجتَمَعِ بها, حتى تُصبَحَ قَضِيَّةَ مُجتَمَعٍ بأسرِه, لا قَضِيَّةَ عَوائِلَ بِعَيَّنِهَا, مِن خلالِ مَواقعِ التَواصُلِ الاجتِماعي, ومِن خلالِ الاتِصَالِ بالمسؤولينَ وزِيَارتِهِم, وحَثِهِم على التَحَرُكِ الدُبلُوماسي, ومِن خلالِ الاتِصالِ بالمشايخ, في البرامج المُباشرة, وحَثِهِم على تَبَنيّ القضِيَّة, وبَيَّانِ شَرعِيَّتِها, ومَن أرَادَ وراءَ ذلك, فعن طريقِ الافتِداء, بدفعِ المالِ لافتِكَاكِهِم, وقد أثبَتَت هذه الطريقَةُ نجَاحَها, فكم خَرَجَ بسَببها مِن مُعتَقَل, وفي هذه الأيام, نَتَرَقَبُ الإفراجَ عن أحدِ المُعتَقلِين, كانِ قد حُكِمَ عليه بالإعدام, فدُفِعت له فِدية, فأُسقِطَت عنهُ جَميعُ التُهَم, وبانتِظَارِ الإفرَاج, أتَمَّ اللهُ على خير, ومَن أراد المُسَاهمة, هُدِيَّ إلى سَبِيِّلِهَا.
ومع عِظَمِ المُصَاب, وشَرعِيَّةِ القَضيّة, قد تسمَعُ صَوتاً نَشَازاً, يَصرُخ, بأنَّهُم يَستَحِقُونَ ما هم فيه, ويُخَذِّلُ عن نُصرَتِهمِ,
بحُجَةِ أنّ ما هُم فيه, إنَّما كان بسَبِبِ أخطائِهِم, فليَتَحَمَلُوا التَبِعَات, ولا غَرو, فمع كُلِ قَافِلَةٍ تَسِير, كِلابٌ تَنبَح, وعِلاجُ النَبَاحِ إهمَالُهُ, إذْ لو أنّ كُلَ كَلبٍ نَبَحَ ألقَمتَهُ حَجَرا, لكَانَ الحَجَرُ مِثقَالاً بدِينَارِ, وهُم بهذا إنَّما يُبَرِرُنَ خَوَرَهُم, وإلا كَيفَ يَجرؤونَ على هذا, وقد جاءَ في صحيحِ مسلم "أنّ امرأةً مِن الأنصار, أُسِرَت, فَشَّدَ الآسِرُونَ وِثَاقَهَا, فلَمَّ عَمَّ الليلُ بظُلمَتهِ, وسَكن الناسُ لهَدأتهِ, تَفَلَتَتْ مِن الوِثَاق, فأتَت النَجَائِب, فامتَطَت مِنهُن نَجِيِّبَة, فانهَزَعَت بها, فأحَسَّ القومُ فطَلَبُوها, فأعيَّاهُم لَحَاقُهَا, ونَذرتْ لله, إن نَجَاهَا اللهُ منهم عليِّهَا, لَتنحرنَّهَا, فَنَجَت وقَدِمَت المَديِّنة, فأُخبِرَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ بنذرِهَا فقال: "سُبحَانَ الله, بئسَّ ما جَزَتهَا, نَذَرَت لله, إن نَجَاهَا اللهُ عليها لتنّحَرنَها, لا وفَاءَ لنذرٍ في معصيَّة, ولا فيِّمَا لا يَملِكُ العبد" فانظُر, كيفَ جَزِعَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لبهيِّمةٍ, تُجَازَى بخِلافِ ما أَسدَت, فكَيفَ بشَبَابٍ, إنَّمَا خَرجُوا جِهَاداً في سبيلِ الله, ونُصرَةً لإخوانِهِم, وإن اختَلفنَا معهُم في بعضِ الأمور, فهل نُهمِلُ أمرَهُم, ونُسْلِمُ للعَدوِّ مَصَيِّرَهُم, ونتَشَفَى بمُصَابِهِم, أم أنَّ الذُلَّ بَلَغَ بِنَا, لا أن نَترُكَ الدفعَ عن أنفُسِنَا وحسب, بل أن نُحَارِبَ كُلَ مَن يُحَاولُ الدفعَ عَنَّا, فوقَعنَا فيِّمَا حَذَرَنَا اللهُ مِنه {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِإِنكُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فأصبحنَا كالأدَاةِ بيَدِ الشيطان, يُرهِبُ بِنَا مَن أرَادَ مُخَالَفَةَ أمره, وفضلاً عَمَّا ما مضى مِن نصوص, أَمَا تعلَمُونَ أنَّه في دِيِّنِ رَبِّ العالمين, أنّ أهلَ الإسلام, يُحَرِكُونَ الجُيُّوش وجُوبَا, لاستِنقاذِ الأسرَى مِن أهلِ ذِمَتِهِم, فكيِّفَ بأهلِ مِلَتِهِم, أَمَا أنّجَدَ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ العَلاءَ بنَ الحضرمي, باثنَيِّ عَشّرَ ألفَ مُجَاهِد, وقد خالفَ أَمرَهُ, لَمَّا حَصَرَهُ الفُرس, أم أنَّا نَتَعَلَمُ للتَرَفِ المعرفيّ, وليِّسَ للتطبِيق, أم أنَّهُ هَالَهُم شِدَةُ بأسِ العَدوّ, فَجَبُنُوا عن عَظِيمِ التَضحِيَّة, فرَضُوا بحَيَّاةِ العَبِيد, إزاءَ أُمنِيَّاتِ البَهَائِم, ونَسُوا أو تَنَاسَوا أَنَّهُ..
لا يَبنيِّ المَمَالِكَ كالضَحَايَّا & ولا يُدنِي الحُقُوقَ ولا يُحِقُ
ففي القَتلَى لأجيَالٍ حَيَّاةٌ & وفي الأسرى فدىً لَهُمُ وعِتقُ
فكم قُتِلَ وأُسِرَّ, في عَهدِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ومِن بعدِه, مِن أصحابِهِ ومَن جاءَ بعدَهُم, مِن أهلِ الإسلامِ في كُلِ عَصرٍ ومِصر, ومع ذَلِك, مَا أَقعَدَهُم مُصَاب, ولا استَكَانُوا لبَاغي, وإنَّمَا أعذَروا إلى الله, بالسَعَيِّ للتمكِيِّنِ لدينِهِ, نُصرَةً لأوليَائهِ, وحَربَاً على أعدَائهِ, فأَعقَبَهُم ذَاك, سِيَّادةَ الدُنيَّا, مُلكَ البلاد, وانقِيَّاد العِبَاد, ولكن..
ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيِّضٍ & يَجد مُرَّاً به الماءَ الزُلَالَ.
سددَ اللهُ المساعي, وأعاذنا مِن شرِ كُلِ مَن كان بالشرِ ساعي, وأصلحَ أعمالنا, وأجارنا مِن بوارِ المتاعي..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, ..
..
جامعُ العزيّزية بالقيصومة 24/12/1433هـ
نايف بن حمد الحربي
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ أجابَ مَن سأل, وكفى مَن عليه اتَكَل, ومَن استرحَمَهُ رَحِمَهُ ولهُ وَصَل, مَن نصَرَهُ فاللهُ لهُ ناصِر, وإن عنه الحَمِيّمُ جَفَل, فوعدُ اللهِ صادِق, وإن ظَنَّ مَوّتُوّرٌ أنّ سَنَاهُ أَفَل, فالمِنّةُ على مَن استقامَت حالُهُ, وبهديِّ الوحيّينِ اتصل, فاستضاءت محَجَتُهُ, والدِيّنَ ناصَرَهُ وما خذَل, وأشهدُ أنّ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريّكَ له, وأشهدُ أنّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلّى اللهُ وسّلمَ وباركَ عليه, وعلى آلهِ وصحبهِ, وتابعيّهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين..
أمَّا بعد.. عبادَ الله, أعظَمُ ما بهِ يُوصَى, ماللهُ بهِ أَوصَى, والمرءُ معَائِبَهُ به أكدَى, إذْ أنّ مَن تَوَشَحَ التقوى, كانَ مِن الهفواتِ أنأى, فعليكم بتقوى اللهِ عبادَ الله, إذْ اللهُ الوصيَّةَ بها أعَادَ بعدَما أبدى..
معاشر المسلمين..
ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيِّضٍ & يَجد مُرَّاً به الماءَ الزُلَالَ.
إذا كَثُرَت الرَزايّا, وعَمّتْ الخُطُوب, وعُدِمَ الحادِيّ, وخَفَتَ صَوّتُ المُناديّ, آثَرَ الجَمعُ منهَجَ السلامة, بيّنما المُوَفَقُونَ, يُؤثِرونَ سلامةَ المنهج, وهُمْ في الناسِ قليّل, كالإبلِ المائة, لا تَكَادُ تَجِدُ فيّها راحلةً إلا واحدة, عندها, لا غَروَ إذا قُلِبَت الحقائق, وتَبدلتْ المفاهيم, وأضحى المَعرُوفُ مُنْكَرا, والمُنكَرُ معروفا, إذْ الضَابِطُ والحالةُ هذه, ما تَحصُلُ به سَلامَةُ العاجِلَة, لا ضَيّر, وإن أَزرَوا بالآخِرة, فيَسخَرَونَ بالنَاصح, ويُثَبِطُونَ المُصّلِح, إذْ المعَايِيّرُ مُتَبَاينة..
ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيِّضٍ & يَجد مُرَّاً به الماءَ الزُلَالَ.
ومَن نَازَعَ في هذا, فلنَمضيّ وإيَّاهُ سَويَّا, إلى مُسَلَّمَةٍ مِن مُسَلَّمَاتِ الشرع, لها بَيّن, وبها أمَر, وعليها أكّد, هي في أعرَافِ أهلِ الجاهليّةِ مِن الابجديَّات, فواعجَبا, كيفَ يَتَنَكَرُ لها بَنُوا الإسلام, في عَصرِ الحَضَارات, مُسَلَّمَةٌ, عليّها الدِيّنُ قام, وبِهَا انتَشَر, وبتحقِيّقِها, على أعدائهِ ظَهَر, ففي التنزيّل {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُبَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} وفي التنزيّل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وفـــي التنزيّل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وفي التنزيّل: "المؤمنونَ تتكافأ دِمَائُهُم, وهُمْ يَدٌ على مِن سِوَاهُم, ويَسعى بذِمَتِهِم أدنَاهُم" إنّها أُخُوةُ الإيّمَان, التي غَابَتْ أو غُيِّبَتْ, عن أفهَامِ كثِيّرٍ مِن النّاس, فعلى الدِيّنِ لا يُغَار, ولأجلِ الدِيّنِ لا تَثُوُّرُ حَمِيّة, وإنّمَا يُبَرَرُ للجانِيّ, وتُدَانُ الضَحِيّة, فلم يَعُدْ مُستَغرَبَاً في طَوَارِقِ الليلِ والنهار, أنبَاءُ أخذِ بلادِ المسلميّنَ مِن وَسَطِهَا, فضلاً عن أن تُنتَقَصَ مِن أطرَافِهَا, فَاستُبِيَّحَ الحِمَى, ونُهِبَت الثَرَوَات, وغَصَتْ بأهلِ الإسلامِ السجُونُ والمُعتَقلات, والعَجَب, أنّ مَن لم يَحِلَّ بسَاحِهِ المُصَابُ مِن أهلِ الإسلام, يَتعَاملُ معَ الأحداث, وكأنَّهُ فيّ مَأمَنٍ مِنها, وكأنَّ اللهَ لم يَقُل: { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ} فالقَضِيَّةُ ليّسَتْ بقَضِيّةِ مَوَدَةٍ وصَفَاء, وإنّمَا هيَ تَمَسْكُنٌ لِتَمَكُن, ولكن..
ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيِّضٍ & يَجد مُرَّاً به الماءَ الزُلَالَ.
أهلَ الإسلام..أَورَدَ ابنُ العَربيِّ في أحكَامِه, في مَعْرِضِ حَدِيَّثِه عن أُسَارَى المسلمين, أَوّرَدَ قولَهُ: "إلا أن يَكونُوا أَسرى مُستَضعَفِيّن, فإنَّ الوِلايَّةَ معهم قائمة, والنُصّرَةَ لهم واجِبة, حتى لا تَبقى مِنَّا عَيّنٌ تَطرِف, أو نَبذُلَ جَمِيّعَ أموالِنَا في استِخرَاجِهِم, حتى لا يبقى لأحدٍّ دِرهَم, كذَلِكَ قالَ ماكُ وجَمِيّعُ العُلَمَاء, فإنّا للهِ وإنَّا إليّه رَاجِعُون, على ما حَلَّ بالخَلْقِ مِن تَرْكِهِمْ إخوانَهُم في أَسرِ العَدوّ, وبأيّديهِم خَزَائِنُ الأموَال, وفُضُولُ الأحوال, والقُدرَةُ والعُدَد, والقُوَّةُ والجَلَد"ا.هـ
وقالَ القُرطُبيُّ في جَامِعِه: "ولَعَمرُ الله, لقد أعرضنَا نَحنُ عن الجميعِ بالفتن, فتظَاهَرَ بَعضُنَا على بَعضٍ ليسَ بالمسلميّن, بل بالكافريّن, حتى تَرَكنَا إخوانَنَا أذِلاءَ صَاغِريّن, يَجري عليهم حُكمُ المُشرِكِيّن, وفِدَاءُ الأُسَارَى واجب, وإنّ لم يَبقَ دِرْهَمٌ واحد, والنَبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَ الأُسارى وأَمَرَ بفَكِهِم, جَرَى بذَلِكَ عَمَلُ المُسلمين, وانعَقَدَ به الإجمَاع, ويَجِبُ فَكُّ الأُسَارى مِن بيّتِ المال, فإنّ لم يَكُنْ, فهو فَرضٌ على كَافَةِ المسلمين, ومَن قامَ به منهم, أَسقَطَ الفَرْضَ عن البَاقِيّن"ا.هـ
إنّهُ حُكمٌ, اتَفَقَ عليه أهلُ الإسلامِ قَاطِبة, فَمَن سَلَف, هُمْ عُلَماءُ المَالكِيّة, وبمِثِلِ ما قَالُوا, قَالَ الحَنَفِيّة, وتَابَعَ الشَافِعِيّة, وأَكَدَّ الحَنَابِلَة, ونَقَلَ الإجمَاعَ الظَاهِرِيَّة, ومَن أرَادَ تَحَقُقَا, فليُطَالِع لهؤلاءِ مَرَاتِب, وللحَنَابِلَةِ مُغنِيّ, ولمَن قَبلَهُم رَوّضَة, وللأحنَافِ مَبسُوّط, وكَيّفَ لا يَقُولُ أهَلُ الإسلامِ بهَذا, والنَبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ كمَا عندَ البُخاريِّ مِن حَدِيّثِ أبيّ مُوسى رضي اللهُ عنهُ يَقول: "فُكُوّا العَانِيّ -يَعنِي الأسيّر- وأطعِمُوا الجَائِع, وعُوّدُوا المَرِيّض" وفي الصَحِيّحَيّن, مِن حديثِ أبي هرَيرةَ رضي اللهُ عنه أنّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلَّمَ قَنَتَ شَهراً, يَدعُوا بِنَجَاةِ عَيَّاشِ بنِ أبي ربيّعة, وسَلَمةَ بنَ هِشَام, والولِيِّدَ بنَ الوَلِيِّد, والمُستَضعَفِيِّنَ مِن المسلمين" فمَا قَطَعَ الدُعَاءَ حتى عَادُوا, وكانَ ذَلِكَ لِتَمَامِ شَهر, وفي مُسلِمٍ, مِن حَدِيثِ سَلَمَةَ بنِ الأكوَع, أنّهُ خَرَجَ مع أبي بَكرٍ في سَرِيَّة, فأصابُوا مِن المُشرِكيّن, فَنَفَلَهُ امرأةٌ مِن السَبِيّ, فاستَوّهَبَهَا مِنهُ النَبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم, وبَعَثَ بها إلى أهَلِ مَكَة, فَافتَدَى بَهَا أُنَاساً مِن المسلمين" وفي مسلمٍ أيّضَا, مِن حَدِيثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيّن, أنّ ثَقِيِّفَاً حُلَفَاءَ بَنِيِّ عُقَيِّل, أَسَرُوا رَجُلَيِّنِ مِن أصحَابِ رَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم, وأَسَرَ الصَحَابَةُ رَجُلاً مِن بَنِيِّ عُقَيِّل, فَافتَدى بهِ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أصحَابَهُ" وقَبْلَ هذا, فالحَقُ تَبَارَكَ وتَعَالى, بالأمرِ بالفِداءِ صَرَّحَ وَعَرَّض, أنكَرَ على القَاعِدِيِّن, وعلى الفِدَاءِ حَرَّض, ففي الأنفَال {وَإِنِاسْتَنْصَرُوكُمْفِيالدِّينِ فَعَلَيْكُمُالنَّصْرُ إِلَّا عَلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} بشُرُوطٍ قَائمة, ومَوانِعَ مُنتَفِيَّة, لجَوابِ الشَرَّطِ والاستِثنَاء, فَوَاعَجَباً, مِمَن يُؤمِنُ ببَعَضِ الكِتَابِ, ويَكفُرُ بِبَعْض, وفي النِسَّاء {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَامِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَوَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} بخِطَابٍ, يَستَجِيّشُ مُرُؤةَ النُفُوس, وحَسَاسِيَّةَ القُلُوب, بمَقصِدٍ ساميّ, وغَايَّةٍ شَرِيِّفة, وهَدَفٍ نَبِيِّل, للنُهُوضِ لِقِتَالٍ, يَكُونُ به خَلاصُ المُستَضعَفِيَّنَ مِن المسلِمِين, الذيِّنَ تَرتَسِمُ صُوَرُهُمْ, في مَشهَدٍ مُثِيَّرٍ لحَمِيَّةِ المُسلِم, وكَرامَةِ المُؤمِن, وهُم يُفتَنُوّنَ في دِيِّنِهِم, الذيّ هو أخَصُّ خَصَائِصِ الوجُودِ الإنسَانِيّ, تَتبَعُهُ كرَامَةُ النَفسِ والعِرض, وحَقُ المالِ والأرض, ورَحِمَ اللهُ عُمَرَ بنَ عبدِالعزيز, لَمَّا قَرّر: "إذا خَرَجَ الرَومِيُّ بالأسِيِّرِ من المسلمين, فلا يَحِلُّ للمسلمينَ أن يَرُدُوهُ إلى الكُفر, وليُفَادُوّهُ بما استَطَاعُوا" ولَمَّا بَعَثَ عبدَالرحمنِ بنِ أبي عَمرَةَ لِمُفَاداةِ أَسرى المسلمين مِن القسطنطينية, قالَ لَهُ عبدُالرحمن: "أرأيتَ يا أميِّرَ المؤمنين, إن أبَوا أن يُفَادُوا الرَجُلَ بالرَجُلِ كيفَ أصنَع؟ قالَ عُمَرُ: زِدْهُم, قالَ عبدُالرحمن: إن أبَوا أن يُعطُوا الرَجُلَ بالاثنين؟ قالَ عُمَرُ: أَعطِهِم ثلاثة, قالَ عبدُالرحمن: فإنّ أَبَوا إلا أربعة؟ قالَ عُمَرُ: أَعطِهِمْ لِكُلِ مُسلِمٍ مَا سألُوك, فواللهِ لرَجُلٌ مِن المسلمين, أحَبُّ إليَّ مِن كُلِ مُشرِكٍ عِنِّدي, إنَّكَ ما فَادَيِّتَ بهِ المُسلِمَ فقد ظَفِرت, إنَّكَ إنَّما تشتَرِي الإسلام" فَرَحِمَ اللهُ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيز "فإنَّكَ إنَّما تَشتَرِي الإسلام" ولَكن..
ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيِّضٍ & يَجد مُرَّاً به الماءَ الزُلَالَ.
أقولُ هذا القول واستغفرُ اللهَ ليّ ولكم..
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ أخَذَ على أهلِ العِلمِ عَهدَا, حَذَرَهم وَعِيِّدَاً, لَمَّا أجزَلَ لهُم وعدَا, مَضَى في هذا أمرُهُ, ولَهُ زادَ تأكيِّداً بعدَما لَهُ أبدا,
فالقَائِمُ بهِ قد بَدَى لَهُ بَيّنَ النَّاسِ مبدَأ, والنَاكِصُ المُتَخاذِلُ عنه, الحَقَّ في علمِهِ قد قَتَلهُ وأدَا, فأخبَارُهُ مَمقُوتَة, وأقوَالُهُ قد خَدَّتْ للهَوانِ خَدَّا, وصلى اللهُ وسَلّمَ وباركَ على عبدهِ ورسولهِ محمد, وعلى آلهِ وصحبهِ وأزواجهِ وأتباعهِ إلى يومِ القيّامَةِ والديّن, ما أشرَقَ ضِيَّاءٌ, وللعَيَّانِ تَبَدَّى..
أمَّا بعد.. فَكُلُ مَا سَلَفَ في الخُطبَةِ الأولَى, هو كالتَوطِئَةِ لِمَّا سَأُحَدِثَكُم عنه, مِن أخبَارِ أسرَانَا في العِرَاق, والحَدِيِّثُ عنهم, يَنسَحِبُ على كُلِ أَسِيِّرٍ شَدَّ أهلُ الكُفرِ وِثَاقَه, فالأسرى العَرَبُ في سُجُونِ العرَاق, يَربُو عَدَدُهُمْ, على ستِيِّنَ وأربعمائةِ أسِيِّر, منهم, سِتَةٌ وسِتُونَ سُعُوّدِيَّا, أُعدِمَ أحَدُهُم قبلَ ثَلاثَةِ أشهُر, ومَاتَ ثَلاثَةٌ في المُعتَقَل, أحَدُهُم عن طَرِيِّق حقنِهِ بإبرة أَسِيِّد, فبَقِيَ اثنَانِ وستُون, ستَةٌ منهم، مَحكُومٌ عليّهم بالإعدَام, وسَابِعٌ فَاقِدٌ للعقل, على إثْرِ ضَرَبَاتٍ على الرَأس, والكُلَّ قد مَضَى عليه في سجنهِ تسعَةَ عَشَرَ عِيِّدَا, في تسعِ سنَواتٍ ونَيّف, يَتَعَرَضُون خلالَها, لأصنَافٍ مِن العَذاب النَفسِيّ والبَدَنيّ, يَعجَبُ المَرءُ, مِن الصمتِ المُخزِيّ لأهلِ النَخوةِ إزائِهَا, أم أنّهُم يَعتَذِرُونَ بأنّهُم لا يَعلَمون, فليَعلَمُوا إذاً, ولَن أُحَدِثَكُم مِن بُنَيَّاتِ أفكَاري, ولا مِن نسجِ خَيّالي, ولا عن طَرِيقِ مَوقِعِ تَواصُلٍ اجتِمَاعي, وإنَّما أُحَدِثُكُم, عَمَّن في سُجُونِهِم اُعتُقِل, ولعَذابِهِم تَجَرَّع, وقَفت قَدَمُهُ, وأبصّرَت عَيِّنُه, ومَاسَّ جِلِّدُهُ, فمَنَّ اللهُ عليهِ بالفَرَج, ولم يَزَل مَع أخوَتِهِ مُتَواصِلا, بأمِرِهم قَائِمَا, ولأخبَارِهِم نَاقِلا..
سأُخبِرُكُم بأنَّهُ يُحَدِث, بأنَّ الأسرَى في سُجُونِ العراق, يُصَبَحَونَ ويُمَسَّون, بسبِ اللهِ وسَبِ الرسول صلى اللهُ عليهِ وسلَّم, والطَعنِ في عِرضِه, ويُعَذَبُونَ بالتَعلِيقِ المُستَمِر, ليَومَيّنِ أو ثَلاثَةِ, ورُبَمَا وُضِعُوا في صَنَادِيقَ سَودَاءَ كالتَوابِيّت, لا يَقْدِرُ أحَدُهُم فيها على تَحرِيِّكِ جَارِحَة, لمُدّةٍ كالتي خَلَت, ورُبَما جُرِّدَ أحَدُهُم مِن مَلابِسِه, وسُجِنَ في دَورَةِ ميَّاه, لا يَستَطِيِّعُ فيها الاضطِجَاع, ولا يَخرُجُ مِنها إلا بدَفعِهِ ضَرِيبَةً مَاليَّة, وحتَى ما تَأتِيِّه, فليُقِم في الحَمَامِ عَارِيَّا, ولو تَطَاوَلت أيَّامُهُ وليَاليِّه, ورُبَما أخرَجَ الرافِضَةُ أحدَهُم, فَتَشَفّوا بضَربه, حتى يَرى المَوتَ ولا يُدرِكه, فقط لأنَّه مِن أهلِ السُنَّة, ومِن المملكةِ تحديدا, وفي سجنِ النَاصريَّةِ بالذات, لا يَأتِيهُم الطَعَامُ إلا بعدما يَفرُغُ مِنهُ الرافِضة, فلا يأكُلُونَ إلا الفَضلَة..
فهُم مَظلُومُونَ مِن قِبَلِنَا, ومِن قِبَلِ الرافِضة, أمَّا مِن قِبَل الرافِضة, فجَميِّعُ المُعتَقَلِيِّن, لم تَثبُت ضِدَهُم تُهَم, إلا تُهمَةَ التَعَدِّي غَيرَ القَانُوني للحدُود, وعُقُوبَتُهَا في الدستُورِ العراقي, مِن عشرِينَ يَوما, إلى سِتَةِ أشهُر, وهُم يُحكَمُونَ عليها, بخَمسِ عَشرَةَ إلى عشرينَ سَنة, وأمَّا ما بَثتهُ بعضُ الفضَائِيَات, مِن اعتِرَافاتٍ لبعضِ المُعتَقَلِين السُعُوديين, فهيَ اعتِرَافَاتٌ اُنتُزِعَت مِنهُ انتِزَاعاً في مُعَسكَرِ الشَرف, الذي لسُوءِ سُمعَتِه, اُضطُرَت الحُكُومَةُ العِرَاقِيَّةُ لإغلاقِهِ, وبعدَ بَثِّ تِلكَ الاعتِرافَات, حُكِمَ عليهِ بالإعدَام, ولا عَجب, إذْ الخَصمُ هو القَاضي, ومَن أعَان على قَتلٍ, فهو كَمُبَاشِرِه.
ومَظلُومُنَا مِن قِبَلِنَا, لأنَّهُ ليّسَ لَنَا في العراق, مُمَثِلٌ دُبلُومَاسي, ولو على أقَلِ المُستَوَيَّات, يُتَابِعُ شُؤونَهُم, عِلماً بأنَّ المُمَثِلَ الدُبلُوماسِي, تُوفَرُ له الحِمَايَّة, وضَرِيِّبَةً لهَذا, فقد أُفرِجَ عن أحَدِ المُعتَقَلِينَ في عام ألفينِ وعَشَرة, فلم يَتَمكَن مِن التَواصُلِ مع أهلِه, فأخذَ يَهِيِّمُ في شَوَارعِ بغداد, فأُعِيِّدَ اعتِقَالُهُ مَرَةً أُخرى, فهو الآن, يَقبَعُ في سُجُونِ الرَافِضة.
فهؤلاءِ هُم إخوانُنَا, وهذا بعضُ مُصَابِهِم, ومِن حقِهِم عَلَيِّنَا, أن نَدعُوا لهُم في الخَلَواتِ والجَلَوات, وأن نُعَرِّفَ بقَضِيَّتِهِم, ونَرفَعَ دَرَجَةَ وعيِّ المُجتَمَعِ بها, حتى تُصبَحَ قَضِيَّةَ مُجتَمَعٍ بأسرِه, لا قَضِيَّةَ عَوائِلَ بِعَيَّنِهَا, مِن خلالِ مَواقعِ التَواصُلِ الاجتِماعي, ومِن خلالِ الاتِصَالِ بالمسؤولينَ وزِيَارتِهِم, وحَثِهِم على التَحَرُكِ الدُبلُوماسي, ومِن خلالِ الاتِصالِ بالمشايخ, في البرامج المُباشرة, وحَثِهِم على تَبَنيّ القضِيَّة, وبَيَّانِ شَرعِيَّتِها, ومَن أرَادَ وراءَ ذلك, فعن طريقِ الافتِداء, بدفعِ المالِ لافتِكَاكِهِم, وقد أثبَتَت هذه الطريقَةُ نجَاحَها, فكم خَرَجَ بسَببها مِن مُعتَقَل, وفي هذه الأيام, نَتَرَقَبُ الإفراجَ عن أحدِ المُعتَقلِين, كانِ قد حُكِمَ عليه بالإعدام, فدُفِعت له فِدية, فأُسقِطَت عنهُ جَميعُ التُهَم, وبانتِظَارِ الإفرَاج, أتَمَّ اللهُ على خير, ومَن أراد المُسَاهمة, هُدِيَّ إلى سَبِيِّلِهَا.
ومع عِظَمِ المُصَاب, وشَرعِيَّةِ القَضيّة, قد تسمَعُ صَوتاً نَشَازاً, يَصرُخ, بأنَّهُم يَستَحِقُونَ ما هم فيه, ويُخَذِّلُ عن نُصرَتِهمِ,
بحُجَةِ أنّ ما هُم فيه, إنَّما كان بسَبِبِ أخطائِهِم, فليَتَحَمَلُوا التَبِعَات, ولا غَرو, فمع كُلِ قَافِلَةٍ تَسِير, كِلابٌ تَنبَح, وعِلاجُ النَبَاحِ إهمَالُهُ, إذْ لو أنّ كُلَ كَلبٍ نَبَحَ ألقَمتَهُ حَجَرا, لكَانَ الحَجَرُ مِثقَالاً بدِينَارِ, وهُم بهذا إنَّما يُبَرِرُنَ خَوَرَهُم, وإلا كَيفَ يَجرؤونَ على هذا, وقد جاءَ في صحيحِ مسلم "أنّ امرأةً مِن الأنصار, أُسِرَت, فَشَّدَ الآسِرُونَ وِثَاقَهَا, فلَمَّ عَمَّ الليلُ بظُلمَتهِ, وسَكن الناسُ لهَدأتهِ, تَفَلَتَتْ مِن الوِثَاق, فأتَت النَجَائِب, فامتَطَت مِنهُن نَجِيِّبَة, فانهَزَعَت بها, فأحَسَّ القومُ فطَلَبُوها, فأعيَّاهُم لَحَاقُهَا, ونَذرتْ لله, إن نَجَاهَا اللهُ منهم عليِّهَا, لَتنحرنَّهَا, فَنَجَت وقَدِمَت المَديِّنة, فأُخبِرَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ بنذرِهَا فقال: "سُبحَانَ الله, بئسَّ ما جَزَتهَا, نَذَرَت لله, إن نَجَاهَا اللهُ عليها لتنّحَرنَها, لا وفَاءَ لنذرٍ في معصيَّة, ولا فيِّمَا لا يَملِكُ العبد" فانظُر, كيفَ جَزِعَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لبهيِّمةٍ, تُجَازَى بخِلافِ ما أَسدَت, فكَيفَ بشَبَابٍ, إنَّمَا خَرجُوا جِهَاداً في سبيلِ الله, ونُصرَةً لإخوانِهِم, وإن اختَلفنَا معهُم في بعضِ الأمور, فهل نُهمِلُ أمرَهُم, ونُسْلِمُ للعَدوِّ مَصَيِّرَهُم, ونتَشَفَى بمُصَابِهِم, أم أنَّ الذُلَّ بَلَغَ بِنَا, لا أن نَترُكَ الدفعَ عن أنفُسِنَا وحسب, بل أن نُحَارِبَ كُلَ مَن يُحَاولُ الدفعَ عَنَّا, فوقَعنَا فيِّمَا حَذَرَنَا اللهُ مِنه {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِإِنكُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فأصبحنَا كالأدَاةِ بيَدِ الشيطان, يُرهِبُ بِنَا مَن أرَادَ مُخَالَفَةَ أمره, وفضلاً عَمَّا ما مضى مِن نصوص, أَمَا تعلَمُونَ أنَّه في دِيِّنِ رَبِّ العالمين, أنّ أهلَ الإسلام, يُحَرِكُونَ الجُيُّوش وجُوبَا, لاستِنقاذِ الأسرَى مِن أهلِ ذِمَتِهِم, فكيِّفَ بأهلِ مِلَتِهِم, أَمَا أنّجَدَ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ العَلاءَ بنَ الحضرمي, باثنَيِّ عَشّرَ ألفَ مُجَاهِد, وقد خالفَ أَمرَهُ, لَمَّا حَصَرَهُ الفُرس, أم أنَّا نَتَعَلَمُ للتَرَفِ المعرفيّ, وليِّسَ للتطبِيق, أم أنَّهُ هَالَهُم شِدَةُ بأسِ العَدوّ, فَجَبُنُوا عن عَظِيمِ التَضحِيَّة, فرَضُوا بحَيَّاةِ العَبِيد, إزاءَ أُمنِيَّاتِ البَهَائِم, ونَسُوا أو تَنَاسَوا أَنَّهُ..
لا يَبنيِّ المَمَالِكَ كالضَحَايَّا & ولا يُدنِي الحُقُوقَ ولا يُحِقُ
ففي القَتلَى لأجيَالٍ حَيَّاةٌ & وفي الأسرى فدىً لَهُمُ وعِتقُ
فكم قُتِلَ وأُسِرَّ, في عَهدِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ومِن بعدِه, مِن أصحابِهِ ومَن جاءَ بعدَهُم, مِن أهلِ الإسلامِ في كُلِ عَصرٍ ومِصر, ومع ذَلِك, مَا أَقعَدَهُم مُصَاب, ولا استَكَانُوا لبَاغي, وإنَّمَا أعذَروا إلى الله, بالسَعَيِّ للتمكِيِّنِ لدينِهِ, نُصرَةً لأوليَائهِ, وحَربَاً على أعدَائهِ, فأَعقَبَهُم ذَاك, سِيَّادةَ الدُنيَّا, مُلكَ البلاد, وانقِيَّاد العِبَاد, ولكن..
ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيِّضٍ & يَجد مُرَّاً به الماءَ الزُلَالَ.
سددَ اللهُ المساعي, وأعاذنا مِن شرِ كُلِ مَن كان بالشرِ ساعي, وأصلحَ أعمالنا, وأجارنا مِن بوارِ المتاعي..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, ..
..
احمد ابوبكر
جزاك الله خير أخ عزام ، وجزى الشيخ نايف خير الجزاء على هذه الخطبة
تعديل التعليق