خطبة : ( فاستهدوني أهدكم )
عبدالله البصري
1434/06/08 - 2013/04/18 12:07PM
فاستهدوني أهدكم 9 / 6 / 1434
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَوَى مُسلِمٌ وَغَيرُهُ عَن عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " قُلِ اللَّهُمَّ اهدِني وَسَدِّدْني ، وَاذكُرْ بَالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ ، وَبِالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهمِ "
الهِدَايَةُ وَالسَّدَادُ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ ضَرُورَةٌ يَحتَاجُ إِلَيهَا كُلُّ مَن في الأَرضِ ، الرَّجُلُ وَالمَرأَةُ ، وَالصَّغِيرُ وَالكَبِيرُ ، وَالطَّائِعُ وَالعَاصِي ، وَالمُؤمِنُ وَالكَافِرُ ، جَمِيعُهُم يَحتَاجُونَ إِلى الهِدَايَةِ وَالسَّدَادِ ، وَكُلُّهُم في ضَرُورَةٍ إِلى أَن يَستَهدُوا رَبَّهُم وَيَطلُبُوا مِنهُ التَّوفِيقَ وَالرَّشَادَ .
وَحِينَ يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَد بَلَغَ الغَايَةَ في الهِدَايَةِ ، أَو لَبِسَ ثَوبَ الكَمَالِ في السَّدَادِ ، فَإِنَّهُ لا بُدَّ أَن يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ قَد أُوجِبَ عَلَيهِ أَن يَقرَأَ في كُلِّ يَومٍ أَكثَرَ مِن سَبعَ عَشرَةَ مَرَّةً قَولَ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " اِهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ " وَلْيَتَذَكَّرْ قَولَ المَولى ـ تَعَالى ـ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ : " يَا عِبَادِي ، كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَن هَدَيتُهُ ، فَاستَهدُوني أَهدِكُم " وَلْيَتَذَكَّرِ المُسلِمُ أَيضًا أَنَّ أَهدَى النَّاسِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيلِ افتَتَحَ صَلاتَهُ بِقَولِهِ : " اللَّهُمَّ رَبَّ جِبرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ عَالِمَ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ ، اهدِنِي لما اختُلِفَ فِيهِ مِن الحَقِّ بِإِذنِكَ إِنَّكَ تَهدِي مَن تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَعِندَ النَّسَائيِّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ عن جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كَانَ النَّبيُّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ إِذَا استَفتَحَ الصَّلاةَ كبَّرَ ثمَّ قالَ : " إنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا مِنَ المُسلِمِينَ ، اللَّهُمَّ اهدِني لأَحسَنِ الأَعمَالِ وَأَحسَنِ الأَخلاقِ لا يَهدِي لأَحسَنِهَا إِلاَّ أَنتَ ، وَقِني سَيِّئَ الأَعمَالِ وَسَيِّئَ الأَخلاقِ لا يَقِي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنتَ " وَعَنِ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ : عَلَّمَني رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ في قُنُوتِ الوِترِ : " اللَّهُمَّ اهدِني فِيمَن هَدَيتَ ، وَعَافِني فِيمَن عَافَيتَ ... " الحَدِيثَ رَوَاهُ أَهلُ السُّنَنِ وَغَيرُهُم وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ العِبَادَ بِحَاجَةٍ إِلى رَبِّهِم في كُلِّ لَحظَةٍ مِن لَحَظَاتِ حَيَاتِهِم ، وَلا غِنى لهم عَنهُ طَرفَةَ عَينٍ أَو لَمحَ بَصَرٍ ، وَتَزدَادُ هَذِهِ الحَاجَةُ وَتَتَأَكَّدُ ، وَنَحنُ اليَومَ في عَالمٍ اضطَرَبَت فِيهِ الأَفكَارُ وَتَاهَتِ العُقُولُ ، وَحَارَتِ الأَفهَامُ وَزَلَّتِ الأَقدَامُ ، وَتَكَلَّمُ الرُّوَيبِضَةُ وَنَطَقَ السُّفَهَاءُ ، وَتَولىَّ الأَصَاغِرُ وَتَعَالَمَ الجُهَلاءُ ، وَاجتَرَأَ فِيهِ كُلُّ مَن هَبَّ وَدَبَّ عَلَى شَرعِ اللهِ ، وَتُكُلِّمَ فِيهِ بِغَيرِ عِلمٍ وَلا حُجَّةٍ ، وَشُرِّقَ وَغُرِّبَ بِلا دَلِيلٍ وَلا بُرهَانٍ ، حَتى تَزَعزَعَت بَعضُ الثَّوَابِتِ في قُلُوبِ أُنَاسٍ وَكَادُوا يَضِلُّونَ ، بَل ضَلَّ مَن ضَلَّ وَانتَكَسَ مَنِ انتَكَسَ ، وَهَذَا هُوَ عَينُ مَا ذَكَرَهُ الحَبِيبُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَخَافَهُ عَلَى أُمَّتِهِ حَيثُ قَالَ : " إِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزَاعًا يَنتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقبِضُ العِلمَ بِقَبضِ العُلَمَاءِ ، حَتى إِذَا لم يُبقِ عَالمًا اتَّخذَّ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً ، فَسُئِلُوا فَأَفتَوا بِغَيرِ عِلمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتي الأَئِمَّةُ المُضِلُّونَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الهِدَايَةَ الَّتِي نَحتَاجُ إِلَيهَا ، وَحَرِيٌّ بِنَا أَن نُلِحَّ عَلَى اللهِ في سُؤَالِهَا وَطَلَبِهَا ، لَيسَت هِدَايَةَ العِلمِ فَحَسبُ ، فَهَذِهِ لم تَزَلْ ـ وَللهِ الحَمدُ ـ مَوجُودَةً وَإِن عَلاها مَا عَلاهَا مِن غَبَشٍ بِسَبَبِ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ وَالمُتَعَالِمِينَ المُتَفَاصِحِينَ ، وَلَكِنَّ الهِدَايَةَ الأَهَمَّ وَالأَجَلَّ وَالأَعظَمَ ، وَالَّتي هِيَ مَحضُ عَطَاءٍ مِنَ اللهِ لِمَن شَاءَ مِن عِبَادِهِ ، حَيثُ لا يَملِكُهَا إِلاَّ هُو ـ عَزَّ وَجَلَّ ، هِيَ هِدَايَةُ التَّوفِيقِ وَالإِلهَامِ ، وَالإِيصَالِ إِلى الخَيرِ وَالتَّثبِيتِ عَلَيهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَيسَ عَلَيكَ هُدَاهُم وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّكَ لا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " مَن يَهدِ اللهُ فَهُوَ المُهتَدِ وَمَن يُضلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرشِدًا " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَحْ صَدرَهُ لِلإِسلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجعَلْ صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا "
فَالقُلُوبُ بِيَدِ اللهِ ـ سُبحَانَهُ ـ يُدخِلُ الإِيمَانَ بِرَحمَتِهِ في أَيٍّ مِنهَا شَاءَ ، وَيَمنَعُهُ بِعَدلِهِ وَحِكمَتِهِ مَن شَاءَ ، وَيُيَسِّرُ الهِدَايَةَ لِمَن شَاءَ ، وَيَخذُلُ مَن شَاءَ ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ ، وَمَن أَرَادَ أَن يَعرِفَ قَدرَ هَذِهِ الهِدَايَةِ وَعَظِيمِ امتِنَانِ اللهِ بها عَلَى مَن يَشَاءُ ، فَلْيَنظُرْ إِلى أُولَئِكَ الَّذِينَ وَصَلَت بهم عُقُولُهُم إِلى غَزوِ الفَضَاءِ ، وَصَنَعُوا مَا يُمَكِّنُهُم مِنَ العَيشِ تَحتَ المَاءَ ، وَاهتَدُوا بِتَفكِيرِهِم إِلى صِنَاعَةِ أَعتَى القَنَابِلِ وَأَدَقِّ الأَجهِزَةِ ، ثم هُم مَعَ هَذا لم يُهدَوا لِيَحنُوا ظُهُورَهُم لِرَبِّهِم رُكَّعًا ، وَلم يُوَفَّقُوا لِتَعفِيرِ جِبَاهِهِم بَينَ يَدَي مَولاهُم سُجَّدًّا ، وَبَقُوا مُنغَمِسِينَ في أَوحَالِ الضَّلالِ ، مُظلِمَةً بِهِ أَروَاحُهُم وَقَلُوبُهُم ، طَويلاً مِنهُ شَقَاؤُهُم وَعَنَاؤُهُم ، قَد رَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطمَأَنُّوا بها ، وَغَفَلُوا عَن آيَاتِ اللهِ الشَّرعِيَّةِ وَالكَونِيَّةِ ، لا يَرجُونَ في الآخِرَةِ فَوزًا وَلا فَلاحًا ، وَلا يَنتَظِرُونَ نَجَاةً وَلا سَعَادَةً .
وَهَكَذَا ـ إِخوَةَ الإِيمَانِ ـ فَإِنَّ مَن لم يَهدِهِ اللهُ لِطَرِيقِ الحَقِّ وَيُوَفِّقْهُ لِسُلُوكِهِ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ نَادَاهُ صَوتُ الفِطرَةِ مِن دَاخِلِهِ ، أَو بَدَت أَمَامَهُ الحِجَجُ الدَّامِغَاتُ وَالآيَاتُ البَيِّنَاتُ ، إِلاَّ أَنَّهُ لا يُؤمِنُ وَلا يَعرِفُ طَرِيقَ الحَقِّ ، وَمِن أَكبَرِ أَسبَابِ ذَلِكَ ـ وَالعِلمُ عِندَ اللهِ ـ الكِبرُ وَالطُّغيَانُ وَالاعتِدَادُ بِالنَّفسِ وَالعِنَادُ ، وَشِدَّةُ الغَفلَةِ وَعَدَمُ الخُضُوعِ لِلحَقِّ وَإِن ظَهَرَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " سَأَصرِفُ عَن آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤمِنُوا بها وَإِن يَرَوا سَبِيلَ الرُّشدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنهَا غَافِلِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُم وَأَبصَارَهُم كَمَا لم يُؤمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُم في طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُورَةٌ فَمِنهُم مَن يَقُولُ أَيُّكُم زَادَتهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتهُم إِيمَانًا وَهُم يَستَبشِرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتهُم رِجسًا إِلى رِجسِهِم وَمَاتُوا وَهُم كَافِرُونَ " وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُم وَاللهُ لَا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ "
أَلا فَمَا أَحرَى المُسلِمَ أَن يَنطَرِحَ بَينَ يَدَي رَبِّهِ وَيُقبِلَ عَلَيهِ مُخلِصًا مِن قَلبِهِ ، وَيَسأَلَهُ سُؤَالَ الخَائِفِ الذَّلِيلِ الخَاضِعِ المُستَكِينِ ، أَن يَهدِيَهُ وَيُعِينَهُ وَيُرشِدَهُ وَيُسَدِّدَهُ ، وَيُثَبِّتَهُ عَلَى الهُدَى حَتى يَلقَاهُ ، وَمَن فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ حَرِيٌّ بِأَن يَزِيدَهُ اللهُ مِن فَضلِهِ ، كَمَا قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُم تَقوَاهُم " وَقَد وَجَّهَ بِذَلِكَ نَبِيُّنَا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مَن يُحِبُّهُ وَأَمَرَهُ بِهِ ، فَعَن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَخَذَ بِيَدِهِ يَومًا ثُمَّ قَالَ : " يَا مُعَاذُ ، وَاللهِ إِني لأُحِبُّكَ " فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ : بِأَبي أَنتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ ، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكَ . قَالَ : " أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ ، لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَن تَقُولَ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَغَيرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيِّمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : إِذَا أُلهِمَ العَبدُ أَن يَسأَلَ اللهَ الهِدَايَةَ وَيَستَعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ أَعَانَهُ وَهَدَاهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ سَعَادَتِهِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَإِذَا خُذِلَ العَبدُ فَلَم يَعبُدِ اللهَ وَلم يَستَعِنْ بِهِ وَلم يَتَوَكَّلْ عَلَيهِ ، وُكِلَ إِلى حَولِهِ وَقُوَّتِهِ ، فَيُوَلِّيهِ الشَّيطَانَ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَشَقِيَ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ . وَقَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَلِهَذَا كَانَ أَنفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعظَمُهُ وَأَحكَمُهُ دُعَاءَ الفَاتِحَةِ " اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلا الضَّالِّينَ " فَإِنَّهُ إِذَا هَدَاهُ هَذَا الصِّرَاطَ أَعَانَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَركِ مَعصِيَتِهِ ، فَلَم يُصِبْهُ شَرٌّ لا في الدُّنيا وَلا في الآخِرَةِ ... اللَّهُمَّ اهدِنَا وَيَسِّرِ الهُدَى لَنَا ، وَأَلهِمْنَا رُشدَنَا وَقِنَا شَرَّ أَنفُسِنَا .
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَاحمَدُوهُ عَلَى مَا هَدَاكُم ، وَإِيَّاكُم وَالنُّكُوصَ عَلَى الأَعقَابِ إِيَّاكُم ثُمَّ إِيَّاكُم ، فَإِنَّ مِنَ الظُّلمِ البَيِّنِ وَالخُسرَانِ الفَادِحِ ، أَن يَهدِيَ اللهُ عَبدًا لِلإِيمَانِ وَيُذِيقَهُ حَلاوَتَهُ ، ثم يَكفُرَ نِعمَةَ اللهِ عَلَيهِ ، وَيَغتَرَّ بِكَثرَةِ المُتَسَاقِطِينَ مِن حَولِهِ ، فَيَختَارَ لِنَفسِهِ طَرِيقَ الشَّقَاءِ بَعدَ السَّعَادَةِ ، وَيُفَرِّطَ فِيمَا حَصَّلَ وَيَخسَرَ ما اكتَسَبَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " كَيفَ يَهدِي اللهُ قَومًا كَفَرُوا بَعدَ إِيمَانِهِم وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم أَنَّ عَلَيهِم لَعنَةَ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمَعِينَ . خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنهُمُ العَذَابُ وَلا هُم يُنظَرُونَ . إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعدِ ذَلِكَ وَأَصلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَومًا بَعدَ إِذْ هَدَاهُم حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ "
وَإِنَّ المُؤمِنَ لَيَعجَبُ مِن قَومٍ اصطَفَاهُم اللهُ وَاختَارَهُم ، وَجَعَلَهُم حَمَلَةً لِلعِلمِ وَقَادَةً لِلعَمَلِ ، وَمَحَطًّا لأَنظَارِ المُسلِمِينَ وَقُدُوَاتٍ لِلسَّالِكِينَ ، ثم هُم يَتَقَهقَرُونَ وَيَتَرَاجَعُونَ ، وَيَنقَادُونَ لِهَوى أَنفُسِهِم وَشَهَوَاتِهِم ، فَيُوَجِّهُونَ قُلُوبَهُم وَيَرمُونُ بِأَبصَارِهِم لِقَومٍ مِنَ المَغضُوبِ عَلَيهِم أَوِ الضَّالِّينَ ، وَيُقَلِّدُوهُم في أَخلاقِهِم وَعَادَاتِهِم ، أَو يَسعَوا في فَرضِ شَيءٍ مِن أَنظِمَتِهِم الضَّالَّةِ عَلَى مُجتَمَعَاتِ المُسلِمِينَ ، غَافِلِينَ أَو مُتَغَافِلِينَ ، عَن أَنَّ ذَلِكَ خُذلانٌ وَخَسَارَةٌ وَظُلمٌ ، وَاستِبدَالٌ لِلأَدنى بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ " إِنَّهُ إِتْبَاعُ النُّفُوسِ أَهوَاءَهَا ، هُوَ شَرُّ أَمرَاضِهَا وَأَدوَائِهَا ، وَأَشَدُّ مَا يَصرِفُهَا عَنِ الهُدَى وَيَصُدُّهَا عَنِ الحَقِّ ، قال ـ سُبحَانَهُ ـ : " قُلْ فَأتُوا بِكِتَابٍ مِن عِندِ اللهِ هُوَ أَهدَى مِنهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُم صَادِقِينَ . فَإِن لم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهوَاءَهُم وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ " أَلا فَلْنَحذَرْ الضَّلالَ وَالمُضِلِّينَ ، فَقَد قَالَ رَبُّنَا ـ سُبحَانَهُ ـ : " يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم وَيَهدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيكُم وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا "
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَوَى مُسلِمٌ وَغَيرُهُ عَن عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " قُلِ اللَّهُمَّ اهدِني وَسَدِّدْني ، وَاذكُرْ بَالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ ، وَبِالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهمِ "
الهِدَايَةُ وَالسَّدَادُ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ ضَرُورَةٌ يَحتَاجُ إِلَيهَا كُلُّ مَن في الأَرضِ ، الرَّجُلُ وَالمَرأَةُ ، وَالصَّغِيرُ وَالكَبِيرُ ، وَالطَّائِعُ وَالعَاصِي ، وَالمُؤمِنُ وَالكَافِرُ ، جَمِيعُهُم يَحتَاجُونَ إِلى الهِدَايَةِ وَالسَّدَادِ ، وَكُلُّهُم في ضَرُورَةٍ إِلى أَن يَستَهدُوا رَبَّهُم وَيَطلُبُوا مِنهُ التَّوفِيقَ وَالرَّشَادَ .
وَحِينَ يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَد بَلَغَ الغَايَةَ في الهِدَايَةِ ، أَو لَبِسَ ثَوبَ الكَمَالِ في السَّدَادِ ، فَإِنَّهُ لا بُدَّ أَن يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ قَد أُوجِبَ عَلَيهِ أَن يَقرَأَ في كُلِّ يَومٍ أَكثَرَ مِن سَبعَ عَشرَةَ مَرَّةً قَولَ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " اِهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ " وَلْيَتَذَكَّرْ قَولَ المَولى ـ تَعَالى ـ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ : " يَا عِبَادِي ، كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَن هَدَيتُهُ ، فَاستَهدُوني أَهدِكُم " وَلْيَتَذَكَّرِ المُسلِمُ أَيضًا أَنَّ أَهدَى النَّاسِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيلِ افتَتَحَ صَلاتَهُ بِقَولِهِ : " اللَّهُمَّ رَبَّ جِبرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ عَالِمَ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ ، اهدِنِي لما اختُلِفَ فِيهِ مِن الحَقِّ بِإِذنِكَ إِنَّكَ تَهدِي مَن تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَعِندَ النَّسَائيِّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ عن جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كَانَ النَّبيُّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ إِذَا استَفتَحَ الصَّلاةَ كبَّرَ ثمَّ قالَ : " إنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا مِنَ المُسلِمِينَ ، اللَّهُمَّ اهدِني لأَحسَنِ الأَعمَالِ وَأَحسَنِ الأَخلاقِ لا يَهدِي لأَحسَنِهَا إِلاَّ أَنتَ ، وَقِني سَيِّئَ الأَعمَالِ وَسَيِّئَ الأَخلاقِ لا يَقِي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنتَ " وَعَنِ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ : عَلَّمَني رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ في قُنُوتِ الوِترِ : " اللَّهُمَّ اهدِني فِيمَن هَدَيتَ ، وَعَافِني فِيمَن عَافَيتَ ... " الحَدِيثَ رَوَاهُ أَهلُ السُّنَنِ وَغَيرُهُم وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ العِبَادَ بِحَاجَةٍ إِلى رَبِّهِم في كُلِّ لَحظَةٍ مِن لَحَظَاتِ حَيَاتِهِم ، وَلا غِنى لهم عَنهُ طَرفَةَ عَينٍ أَو لَمحَ بَصَرٍ ، وَتَزدَادُ هَذِهِ الحَاجَةُ وَتَتَأَكَّدُ ، وَنَحنُ اليَومَ في عَالمٍ اضطَرَبَت فِيهِ الأَفكَارُ وَتَاهَتِ العُقُولُ ، وَحَارَتِ الأَفهَامُ وَزَلَّتِ الأَقدَامُ ، وَتَكَلَّمُ الرُّوَيبِضَةُ وَنَطَقَ السُّفَهَاءُ ، وَتَولىَّ الأَصَاغِرُ وَتَعَالَمَ الجُهَلاءُ ، وَاجتَرَأَ فِيهِ كُلُّ مَن هَبَّ وَدَبَّ عَلَى شَرعِ اللهِ ، وَتُكُلِّمَ فِيهِ بِغَيرِ عِلمٍ وَلا حُجَّةٍ ، وَشُرِّقَ وَغُرِّبَ بِلا دَلِيلٍ وَلا بُرهَانٍ ، حَتى تَزَعزَعَت بَعضُ الثَّوَابِتِ في قُلُوبِ أُنَاسٍ وَكَادُوا يَضِلُّونَ ، بَل ضَلَّ مَن ضَلَّ وَانتَكَسَ مَنِ انتَكَسَ ، وَهَذَا هُوَ عَينُ مَا ذَكَرَهُ الحَبِيبُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَخَافَهُ عَلَى أُمَّتِهِ حَيثُ قَالَ : " إِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزَاعًا يَنتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقبِضُ العِلمَ بِقَبضِ العُلَمَاءِ ، حَتى إِذَا لم يُبقِ عَالمًا اتَّخذَّ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً ، فَسُئِلُوا فَأَفتَوا بِغَيرِ عِلمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتي الأَئِمَّةُ المُضِلُّونَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الهِدَايَةَ الَّتِي نَحتَاجُ إِلَيهَا ، وَحَرِيٌّ بِنَا أَن نُلِحَّ عَلَى اللهِ في سُؤَالِهَا وَطَلَبِهَا ، لَيسَت هِدَايَةَ العِلمِ فَحَسبُ ، فَهَذِهِ لم تَزَلْ ـ وَللهِ الحَمدُ ـ مَوجُودَةً وَإِن عَلاها مَا عَلاهَا مِن غَبَشٍ بِسَبَبِ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ وَالمُتَعَالِمِينَ المُتَفَاصِحِينَ ، وَلَكِنَّ الهِدَايَةَ الأَهَمَّ وَالأَجَلَّ وَالأَعظَمَ ، وَالَّتي هِيَ مَحضُ عَطَاءٍ مِنَ اللهِ لِمَن شَاءَ مِن عِبَادِهِ ، حَيثُ لا يَملِكُهَا إِلاَّ هُو ـ عَزَّ وَجَلَّ ، هِيَ هِدَايَةُ التَّوفِيقِ وَالإِلهَامِ ، وَالإِيصَالِ إِلى الخَيرِ وَالتَّثبِيتِ عَلَيهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَيسَ عَلَيكَ هُدَاهُم وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّكَ لا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " مَن يَهدِ اللهُ فَهُوَ المُهتَدِ وَمَن يُضلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرشِدًا " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَحْ صَدرَهُ لِلإِسلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجعَلْ صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا "
فَالقُلُوبُ بِيَدِ اللهِ ـ سُبحَانَهُ ـ يُدخِلُ الإِيمَانَ بِرَحمَتِهِ في أَيٍّ مِنهَا شَاءَ ، وَيَمنَعُهُ بِعَدلِهِ وَحِكمَتِهِ مَن شَاءَ ، وَيُيَسِّرُ الهِدَايَةَ لِمَن شَاءَ ، وَيَخذُلُ مَن شَاءَ ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ ، وَمَن أَرَادَ أَن يَعرِفَ قَدرَ هَذِهِ الهِدَايَةِ وَعَظِيمِ امتِنَانِ اللهِ بها عَلَى مَن يَشَاءُ ، فَلْيَنظُرْ إِلى أُولَئِكَ الَّذِينَ وَصَلَت بهم عُقُولُهُم إِلى غَزوِ الفَضَاءِ ، وَصَنَعُوا مَا يُمَكِّنُهُم مِنَ العَيشِ تَحتَ المَاءَ ، وَاهتَدُوا بِتَفكِيرِهِم إِلى صِنَاعَةِ أَعتَى القَنَابِلِ وَأَدَقِّ الأَجهِزَةِ ، ثم هُم مَعَ هَذا لم يُهدَوا لِيَحنُوا ظُهُورَهُم لِرَبِّهِم رُكَّعًا ، وَلم يُوَفَّقُوا لِتَعفِيرِ جِبَاهِهِم بَينَ يَدَي مَولاهُم سُجَّدًّا ، وَبَقُوا مُنغَمِسِينَ في أَوحَالِ الضَّلالِ ، مُظلِمَةً بِهِ أَروَاحُهُم وَقَلُوبُهُم ، طَويلاً مِنهُ شَقَاؤُهُم وَعَنَاؤُهُم ، قَد رَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطمَأَنُّوا بها ، وَغَفَلُوا عَن آيَاتِ اللهِ الشَّرعِيَّةِ وَالكَونِيَّةِ ، لا يَرجُونَ في الآخِرَةِ فَوزًا وَلا فَلاحًا ، وَلا يَنتَظِرُونَ نَجَاةً وَلا سَعَادَةً .
وَهَكَذَا ـ إِخوَةَ الإِيمَانِ ـ فَإِنَّ مَن لم يَهدِهِ اللهُ لِطَرِيقِ الحَقِّ وَيُوَفِّقْهُ لِسُلُوكِهِ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ نَادَاهُ صَوتُ الفِطرَةِ مِن دَاخِلِهِ ، أَو بَدَت أَمَامَهُ الحِجَجُ الدَّامِغَاتُ وَالآيَاتُ البَيِّنَاتُ ، إِلاَّ أَنَّهُ لا يُؤمِنُ وَلا يَعرِفُ طَرِيقَ الحَقِّ ، وَمِن أَكبَرِ أَسبَابِ ذَلِكَ ـ وَالعِلمُ عِندَ اللهِ ـ الكِبرُ وَالطُّغيَانُ وَالاعتِدَادُ بِالنَّفسِ وَالعِنَادُ ، وَشِدَّةُ الغَفلَةِ وَعَدَمُ الخُضُوعِ لِلحَقِّ وَإِن ظَهَرَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " سَأَصرِفُ عَن آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤمِنُوا بها وَإِن يَرَوا سَبِيلَ الرُّشدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنهَا غَافِلِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُم وَأَبصَارَهُم كَمَا لم يُؤمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُم في طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُورَةٌ فَمِنهُم مَن يَقُولُ أَيُّكُم زَادَتهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتهُم إِيمَانًا وَهُم يَستَبشِرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتهُم رِجسًا إِلى رِجسِهِم وَمَاتُوا وَهُم كَافِرُونَ " وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُم وَاللهُ لَا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ "
أَلا فَمَا أَحرَى المُسلِمَ أَن يَنطَرِحَ بَينَ يَدَي رَبِّهِ وَيُقبِلَ عَلَيهِ مُخلِصًا مِن قَلبِهِ ، وَيَسأَلَهُ سُؤَالَ الخَائِفِ الذَّلِيلِ الخَاضِعِ المُستَكِينِ ، أَن يَهدِيَهُ وَيُعِينَهُ وَيُرشِدَهُ وَيُسَدِّدَهُ ، وَيُثَبِّتَهُ عَلَى الهُدَى حَتى يَلقَاهُ ، وَمَن فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ حَرِيٌّ بِأَن يَزِيدَهُ اللهُ مِن فَضلِهِ ، كَمَا قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُم تَقوَاهُم " وَقَد وَجَّهَ بِذَلِكَ نَبِيُّنَا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مَن يُحِبُّهُ وَأَمَرَهُ بِهِ ، فَعَن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَخَذَ بِيَدِهِ يَومًا ثُمَّ قَالَ : " يَا مُعَاذُ ، وَاللهِ إِني لأُحِبُّكَ " فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ : بِأَبي أَنتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ ، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكَ . قَالَ : " أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ ، لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَن تَقُولَ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَغَيرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيِّمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : إِذَا أُلهِمَ العَبدُ أَن يَسأَلَ اللهَ الهِدَايَةَ وَيَستَعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ أَعَانَهُ وَهَدَاهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ سَعَادَتِهِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَإِذَا خُذِلَ العَبدُ فَلَم يَعبُدِ اللهَ وَلم يَستَعِنْ بِهِ وَلم يَتَوَكَّلْ عَلَيهِ ، وُكِلَ إِلى حَولِهِ وَقُوَّتِهِ ، فَيُوَلِّيهِ الشَّيطَانَ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَشَقِيَ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ . وَقَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَلِهَذَا كَانَ أَنفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعظَمُهُ وَأَحكَمُهُ دُعَاءَ الفَاتِحَةِ " اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلا الضَّالِّينَ " فَإِنَّهُ إِذَا هَدَاهُ هَذَا الصِّرَاطَ أَعَانَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَركِ مَعصِيَتِهِ ، فَلَم يُصِبْهُ شَرٌّ لا في الدُّنيا وَلا في الآخِرَةِ ... اللَّهُمَّ اهدِنَا وَيَسِّرِ الهُدَى لَنَا ، وَأَلهِمْنَا رُشدَنَا وَقِنَا شَرَّ أَنفُسِنَا .
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَاحمَدُوهُ عَلَى مَا هَدَاكُم ، وَإِيَّاكُم وَالنُّكُوصَ عَلَى الأَعقَابِ إِيَّاكُم ثُمَّ إِيَّاكُم ، فَإِنَّ مِنَ الظُّلمِ البَيِّنِ وَالخُسرَانِ الفَادِحِ ، أَن يَهدِيَ اللهُ عَبدًا لِلإِيمَانِ وَيُذِيقَهُ حَلاوَتَهُ ، ثم يَكفُرَ نِعمَةَ اللهِ عَلَيهِ ، وَيَغتَرَّ بِكَثرَةِ المُتَسَاقِطِينَ مِن حَولِهِ ، فَيَختَارَ لِنَفسِهِ طَرِيقَ الشَّقَاءِ بَعدَ السَّعَادَةِ ، وَيُفَرِّطَ فِيمَا حَصَّلَ وَيَخسَرَ ما اكتَسَبَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " كَيفَ يَهدِي اللهُ قَومًا كَفَرُوا بَعدَ إِيمَانِهِم وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم أَنَّ عَلَيهِم لَعنَةَ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمَعِينَ . خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنهُمُ العَذَابُ وَلا هُم يُنظَرُونَ . إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعدِ ذَلِكَ وَأَصلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَومًا بَعدَ إِذْ هَدَاهُم حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ "
وَإِنَّ المُؤمِنَ لَيَعجَبُ مِن قَومٍ اصطَفَاهُم اللهُ وَاختَارَهُم ، وَجَعَلَهُم حَمَلَةً لِلعِلمِ وَقَادَةً لِلعَمَلِ ، وَمَحَطًّا لأَنظَارِ المُسلِمِينَ وَقُدُوَاتٍ لِلسَّالِكِينَ ، ثم هُم يَتَقَهقَرُونَ وَيَتَرَاجَعُونَ ، وَيَنقَادُونَ لِهَوى أَنفُسِهِم وَشَهَوَاتِهِم ، فَيُوَجِّهُونَ قُلُوبَهُم وَيَرمُونُ بِأَبصَارِهِم لِقَومٍ مِنَ المَغضُوبِ عَلَيهِم أَوِ الضَّالِّينَ ، وَيُقَلِّدُوهُم في أَخلاقِهِم وَعَادَاتِهِم ، أَو يَسعَوا في فَرضِ شَيءٍ مِن أَنظِمَتِهِم الضَّالَّةِ عَلَى مُجتَمَعَاتِ المُسلِمِينَ ، غَافِلِينَ أَو مُتَغَافِلِينَ ، عَن أَنَّ ذَلِكَ خُذلانٌ وَخَسَارَةٌ وَظُلمٌ ، وَاستِبدَالٌ لِلأَدنى بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ " إِنَّهُ إِتْبَاعُ النُّفُوسِ أَهوَاءَهَا ، هُوَ شَرُّ أَمرَاضِهَا وَأَدوَائِهَا ، وَأَشَدُّ مَا يَصرِفُهَا عَنِ الهُدَى وَيَصُدُّهَا عَنِ الحَقِّ ، قال ـ سُبحَانَهُ ـ : " قُلْ فَأتُوا بِكِتَابٍ مِن عِندِ اللهِ هُوَ أَهدَى مِنهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُم صَادِقِينَ . فَإِن لم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهوَاءَهُم وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ " أَلا فَلْنَحذَرْ الضَّلالَ وَالمُضِلِّينَ ، فَقَد قَالَ رَبُّنَا ـ سُبحَانَهُ ـ : " يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم وَيَهدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيكُم وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا "
المرفقات
فاستهدوني أهدكم.doc
فاستهدوني أهدكم.doc
فاستهدوني أهدكم.pdf
فاستهدوني أهدكم.pdf
المشاهدات 3849 | التعليقات 4
جزاك الله خير ونفع بعلمك الإسلام و المسلمين
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا شيخ عبدالله ونفع بك
جزاك الله خيرا شيخ عبدالله
عوض القحطاني
وفقك الله وسددك ياشيخ عبدالله
تعديل التعليق