خطبة : ( فابتغوا عند الله الرزق )

عبدالله البصري
1439/04/03 - 2017/12/21 21:18PM

فابتغوا عند الله الرزق         4 / 4 / 1439

الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن شَوَاغِلِ النَّاسِ وَحَدِيثِ مَجَالِسِهِم في هَذِهِ الأَيَّامِ ، مَسأَلَةُ الرِّزقِ كَثرَةً وَقِلَّةً ، وَسَعَةً وَضِيقًا ، وَزِيَادَةً وَنَقصًا ، وَبَرَكَةً وَمَحقًا ، وَعَطَاءً وَمَنعًا ، وَفي خِضَمِّ التَّعَلُّقِ الشَّدِيدِ بِالدُّنيَا وَالاهتِمَامِ بِمَتَاعِهَا القَلِيلِ ، فَإِنَّهَا قَد تَغِيبُ عَنِ البَالِ أُصُولٌ عَقَدِيَّةٌ مُهِمَّةٌ ، وَتَعمَى القُلُوبُ عَن مَعَانيَ إِيمَانِيَّةٍ عَمِيقَةٍ ، وَتَتَّجِهُ الأَنظَارُ إِلى مَا يُلهِيهَا وَتَتَعَلَّقُ النُّفُوسُ بِأَسبَابٍ تُردِيهَا . وَإِنَّ ثَمَّةَ أُصُولاً أَصِيلَةً وَأُسُسًا جَلِيلَةً ، لا بُدَّ أَن نُذَكِّرَ بِهَا أَنفُسَنَا لِكَيلا تَيأَسَ بَعدَمَا تَنسَى ، وَنَربِطَ بها عَلَى قُلُوبِنَا لِتَطمَئِنَّ وَلا تَجزَعَ ، وَنَشرَحَ بِهِ صُدُورَنَا لِئَلاَّ تَضِيقَ وَيَضعُفَ إِيمَانُنَا ؛ ذَلِكُم أَنَّ مِنَ المُتَّفَقِ عَلَيهِ لَدَى المُؤمِنِينَ ، أَنَّهُ لم تُخلَقْ نَفسٌ إِلاَّ وَقَد كَتَبَ اللهُ رِزقَهَا ، وَلَن تَخرُجَ مِن هَذِهِ الدُّنيَا إِلاَّ وَقَدِ استَوفَت رِزقَهَا وَأَجَلَهَا ، فَلا يَزِيدُ في الرِّزقِ حِرصُ حَرِيصٍ وَلا عَنَاءُ ذَكِيٍّ ، وَلا يَنقُصُ مِنهُ تَأَنِّي مُتَأَنٍّ أَو مَكرُ مَاكِرٍ خَفِيٌّ ، قَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " وَمَا مِن دَابَّةٍ في الأَرضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزقُهَا " وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحمِلُ رِزقَهَا اللهُ يَرزُقُهَا وَإِيَّاكُم " وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ " وَقَالَ – تَعَالى - : " وَلا تَقتُلُوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيَّاهُم " وَقَالَ – تَعَالى - : " اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم ثُمَّ رَزَقَكُم ثُمَّ يُمِيتُكُم ثُمَّ يُحيِيكُم هَل مِن شُرَكَائِكُم مَن يَفعَلُ مِن ذَلِكُم مِن شَيءٍ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ " وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ " وَفي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَن عَبدِاللهِ بنِ مَسعُودٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ المَصدُوقُ : " إِنَّ أَحَدَكُم يُجمَعُ خَلقُهُ في بَطنِ أُمِّهِ أَربَعِينَ يَومًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضغَةً مِثلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَبعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤمَرُ بِأَربَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ : اُكتُبْ عَمَلَهُ وَرِزقَهُ وَأَجَلَهُ ، وَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ ... " الحَدِيثَ . وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ ، يَقُولُ اللهُ – تَعَالى - : " يَا عِبَادِي ، كُلُّكُم جَائِعٌ إِلاَّ مَن أَطعَمتُهُ ، فَاستَطعِمُوني أُطعِمْكُم ، يَا عِبَادِي ، كُلُّكُم عَارٍ إِلاَّ مَن كَسَوتُهُ ، فَاستَكسُوني أَكسُكُم " وَعَنِ ابنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رَأَى تَمرَةً عَائِرَةً فَأَخَذَهَا فَنَاوَلَهَا سَائِلاً ، فَقَالَ : " أَمَّا إِنَّكَ لَو لم تَأتِهَا لأَتَتكَ " رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَمِنَ الأُصُولِ العَظِيمَةِ الَّتي يَجِبُ أَن نَعلَمَهَا وَنُوقِنَ بها أَنَّ أَعظَمَ مَفاتِيحِ الرِّزقِ هِيَ تَقوَى اللهِ وَطَاعَتُهُ وَشُكرُهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيهِ ، وَسَبَبُ زَوَالِهِ وَمَحقِهِ الإِعرَاضُ عَن وَاهِبِهِ وَمُولِيهِ ، قَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ " وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " إِنَّ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لا يَملِكُونَ لَكُم رِزقًا فَابتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزقَ وَاعبُدُوهُ وَاشكُرُوا لَهُ إِلَيهِ تُرجَعُونَ " وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى " وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا - : " فَقُلتُ استَغفِرُوا رَبَّكُم إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُم مِدرَارًا . وَيُمدِدْكُم بِأَموالٍ وَبَنِينَ وَيَجعَلْ لَكُم جَنَّـاتٍ وَيَجعَلْ لَكُم أَنهَارًا " وَعَن أَبي هُرَيرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقُولُ : يَا ابنَ آدَمَ ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتي أَملأْ صَدرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقرَكَ ، وَإِلاَّ تَفعَلْ مَلأتُ صَدرَكَ شُغلاً وَلم أَسُدَّ فَقرَكَ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " لَو أَنَّكُم تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ – تَعَالى - حَقَّ تَوَكُلِهِ لَرَزَقَكُم كَمَا يَرزُقُ الطَّيرَ ، تَغدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ – تَعَالى - : " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ " وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " لَقَد كَانَ لِسَبَإٍ في مَسكَنِهِم آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِزقِ رَبِّكُم وَاشكُرُوا لَهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعرَضُوا فَأَرسَلنَا عَلَيهِم سَيلَ العَرِمِ وَبَدَّلنَاهُم بِجَنَّتَيهِم جَنَّتَينِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمطٍ وَأَثلٍ وَشَيءٍ مِن سِدرٍ قَلِيلٍ . ذَلِكَ جَزَينَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجَازِي إِلَّا الكَفُورَ " أَجَلْ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِنَّ مَا عِندَ اللهِ لا يُنَالُ إِلاَّ بِتَقوَاهُ وَطَاعَتِهِ ، وَمِن خَيرِ ذَلِكَ وَأَعظَمِهِ مُجَانَبَةُ الأَثَرَةِ وَحُبِّ الذَّاتِ ، وَالبَذلُ في سُبُلِ الخَيرِ وَفَتحُ اليَدَينِ بِالعَطَاءِ ، وَصِلَةُ الأَرحَامِ وَالإِحسَانُ إِلى الآخَرِينَ ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَمَا آتَيتُم مِن رِبًا لِيَربُوَ في أَموَالِ النَّاسِ فَلا يَربُو عِندَ اللهِ وَمَا آتَيتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضعِفُونَ " وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَيَقدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فَهُوَ يُخلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ " وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " مَا مِن يَومٍ يُصبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنزِلانِ ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعطِ مُنفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعطِ مُمسِكًا تَلَفًا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " اُبغُوني في ضُعَفَائِكُم ؛ فَإِنَّمَا تُرزَقُونَ وَتُنصَرُونَ بِضُعَفَائِكُم " رَوَاهُ أَبُودَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " مَن سَرَّهُ أَن يُبسَطَ عَلَيهِ رِزقُهُ ، أَو يُنسَأَ في أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . نَعَم ، قَد لا يَزِيدُ الرِّزقُ في الدُّنيَا وَلا يَرَاهُ صَاحِبُهُ في مَالِهِ عَدَدًا يُحصِيهِ ، وَلَكِنَّ ثَمَّةَ زِيَادَاتٍ هِيَ أَسمَى وَأَعلَى وَأَغلَى ، وَالحَاجَةُ إِلَيهَا أَعظَمُ وَأَهَمُّ ، فَهُنَاكَ البَرَكَةُ الَّتي تَحُلُّ في المَالِ ، وَهُنَاكَ الزِّيَادَةُ الأُخرَوِيَّةُ الَّتي هِيَ خَيرٌ وَأَبقَى ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ المُؤمِنُونَ حَقًّا لَهُم دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِم وَمَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ " وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " مَن تَصدَّقَ بِعَدلِ تَمرَةٍ مِن كَسبٍ طَيِّبٍ ، ولا يَقبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيِهَا لِصَاحِبِهَا كما يُرَبِّي أَحَدُكُم فَلُوَّهُ ، حَتَّى تَكُونَ مِثلَ الجَبَلِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَأَمَّا الطُّغيَانُ وَسُلُوكُ سُبُلِ الحَرَامِ ، وَاكتِسَابُ المَالِ مِن وَجهٍ لا يَحِلُّ ، كَالرِّبَا وَحَفَلاتِ المُجُونِ وَالغِنَاءَ ، وَعَرضِ المَشَاهِدِ المُحَرَّمَةِ في الأَمَاكِنِ المُختَلَطَةِ ، وَأَخذِ الضَّرَائِبِ بِغَيرِ حَقٍّ وَرَفعِ الأَسعَارِ وَالاحتِكَارِ ، فَإِنَّمَا هِيَ أَسبَابٌ لِحُلُولِ غَضَبِ اللهِ وَمَقتِهِ ، قَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم وَلا تَطغَوا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيكُم غَضَبي وَمَن يَحلِلْ عَلَيهِ غَضَبي فَقَد هَوَى " وَمِنَ الأُصُولِ العَظِيمَةِ الَّتي يَجِبُ أَن نَستَحضِرَهَا ، أَنَّ مَن وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِ في رِزقِهِ ، فَلا أَحَدَ يَستَطِيعُ أَن يُضَيِّقَ عَلَيهِ ، وَمَن ضُيِّقَ عَلَيهِ رِزقُهُ ، فَلا مُوَسِّعَ لَهُ مِنَ البَشَرِ وَلَوِ احتَالُوا في ذَلِكَ مَا احتَالُوا ، قال – تعالى - : " مَا يَفتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحمَةٍ فَلا مُمسِكَ لَهَا ومَا يُمسِكْ فَلا مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ " وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - " وَاللهُ فَضَّلَ بَعضَكُم عَلَى بَعضٍ في الرِّزقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزقِهِم عَلَى مَا مَلَكَت أَيمَانُهُم فَهُم فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعمَةِ اللهِ يَجحَدُونَ " وَللهِ – تَعَالى – في تَفَاوُتِ أَرزَاقِ النَّاسِ وَاختِلافِ مَعِيشَتِهِم بَالِغُ الحِكَمِ ، وَمِن أَظهَرِهَا تَسخِيرُ بَعضِهِم بَعضًا في الأَعمَالِ وَالحِرَفِ ، وَلَو تَسَاووا في الغِنَى وَلم يَحتَجْ بَعضُهُم إِلى بَعضٍ ، لَتَعَطَّلَت كَثِيرٌ مِن مَصَالِحِهِم وَمَنَافِعِهِم ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " أَهُم يَقسِمُونَ رَحمَةَ رَبِّكَ نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم مَعِيشَتَهُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَرَفَعنَا بَعضَهُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضًا سُخرِيًّا وَرَحمَةُ رَبِّكَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ " أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا عَلَى الآخِرَةِ أَحرَصَ مِنكُم عَلَى الدُّنيَا ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنهُمَا أَهلٌ ، وَفي كُلٍّ مِنهُمَا رَابِحُونَ وَخَاسِرُونَ ، وَالآخِرَةُ خَيرٌ وَأَبقَى ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِن عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحظُورًا . اُنظُرْ كَيفَ فَضَّلنَا بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكبَرُ تَفضِيلاً "

 

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ رَبَّنَا – جَلَّ وَعَلا – قَادِرٌ عَلَى بَسطِ الرِّزقِ عَلَى العِبَادِ وَتَوسِيعِهِ ، وَلَو أَرَادَ ذَلِكَ مَا نَقَصَ مِن مُلكِهِ شَيئًا ، قَالَ – تَعَالى – في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ : " يَا عِبَادِي ، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعطَيتُ كُلَّ إِنسَانٍ مَسأَلَتَهُ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنقُصُ المِخيَطُ إِذَا أُدخِلَ البَحرَ " نَعَم – أَيُّهَا الإِخوَةُ – إِنَّ عَطَاءَ اللهِ لا يُحَدُّ ، وَلَكِنَّ مِن حِكمَتِهِ أَن يُنَزِّلَ رِزقَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِقَدَرٍ ، لِئَلاَّ تَكُونَ سَعَتُهُ سَبَبًا لِبَغيِهِم في الأَرضِ وَإِفسَادِهِم فِيهَا ، بِغَفلَتِهِم عَن الطَّاعَةِ وَإِقبَالِهِمِ عَلَى شَهَوَاتِ الدُّنيَا ، وَانشِغَالِهِم بِالتَّمَتُّعِ بِهَا وَلَو كَانَت مَعصِيَةً وَظُلمًا ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَلَو بَسَطَ اللهُ الرِّزقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوا في الأَرضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ " وَمِن ثَمَّ فَلا أَسَفَ عَلَى قِلَّةِ ذَاتِ اليَدِ ؛ فَإِنَّهَا قَد تَكُونُ خَيرًا  لِلعَبدِ ، وَالغِنى الحَقِيقِيُّ هُوَ غِنَى النَّفسِ ، وَالمَكسَبُ في التَّحَلِّي بِالقَنَاعَةِ وَالرِّضَا ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " لَيسَ الغِنَى عَن كَثرَةِ العَرَضِ ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفسِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَعَن أَبي الدَّردَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَا طَلَعَت شَمسٌ قَطُّ إِلاَّ بُعِثَ بِجَنْبَتَيهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يُسمِعَانِ أَهلَ الأَرضِ إِلاَّ الثَّقَلَينِ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُم ؛ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلهَى ... " الحَدِيثَ ، رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الألبَانيُّ . وَإِنَّهُ لا أَجلَبَ لِلقَنَاعَةِ مِن نَظَرِ المَرءِ إِلى مَن دُونَهُ ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " اُنظُرُوا إِلى مَن أَسفَلَ مِنكُم وَلا تَنظُرُوا إِلَى مَن هُوَ فَوقَكُم ، فَهُوَ أَجدَرُ أَلاَّ تَزدَرُوا نِعمَةَ اللهِ" رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَلَقَد خَشِيَ نَبِيُّنَا – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمَّتِهِ الغِنى وَلم يَخشَ عَلَيهَا الفَقرَ فَقَالَ : " فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيكُم أَن تُبسَطَ عَلَيكُم الدُّنيَا كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُم " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلْنَبتَغِ الرِّزقَ بِطَاعَتِهِ وَلْنَحذَرْ مَعصِيَتَهُ .

المرفقات

عند-الله-الرزق-3

عند-الله-الرزق-3

عند-الله-الرزق-4

عند-الله-الرزق-4

المشاهدات 1633 | التعليقات 0