خطبة غلاء الأسعار

عبدالله يعقوب
1432/06/10 - 2011/05/13 12:52PM
غلاء الأسعار
مختصرة من خطبة سابقة للشيخ محمد المنجد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. وسلم تسليماً كثيراً... أما بعد:
فإنّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار. وأوصيكم بتقوى الله ولزوم الجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية.
عباد الله!
إنَّ مما عمت به البلوى، فكثرت منه الشكوى، وطار خبرُه، وانتشر ضررُه، وصار حديثَ الناسِ في مجالسهم ومنتدياتهم..
قضيةٌ... في أصلها اقتصادية.. ولكنَّ أضرارها تجاوزت المالَ والاقتصاد، لتشمل النواحي الاجتماعية، والعلاقات الأسرية، ونخشى أن لا تدع أحداً إلا أصابته.. نتحدث عباد الله.. عن مشكلة.. غلاء الأسعار.
أولاً.. المسلم الموحد.. يعلم علم اليقين أن ما يقع في الناس من مصائب وكوارث إنما يكون ابتداءً بسبب ذنوبهم، قال تعالى {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} سورة النساء:79، ولكنَّ هذا الداء لا بد من النظر إليه من منظار الشريعة؛ لأن مثل هذه الظواهر الخطيرة، إذا لم تُعالج.. أدت إلى كوارث ونتائج سيئة: انتشارُ الفقر في المجتمعات، وظهورُ الأمراض الاجتماعية الخطيرة من البطالة والسرقة والإجرام، وكثرةُ المتضرّرين، واتساعُ الطبقة الفقيرة، وإلحاقُ كثير من أفراد الطبقة المتوسطة بالفقراء. بل يشيع العَنَتُ ويقلُ المتزوجون، ويكثر الأيامى والبطالون، ويحدث التأثر المباشر لتمس الظاهرة المداخيل المالية للأسر، فيحصل لدى الناس من الغم والهم والحزن ما لا يعلمه إلا الله.
أيها الناس.. ضربت موجةٌ من الغلاء أسواق العديد من البلاد العربية والإسلامية، ارتفعت فيها أسعار المواد الغذائية حتى الأساسية ارتفاعاً فاحشاً، أدى إلى إنهاك جيوب الشرائح الاجتماعية من ذات الدخل المحدود. وسيؤدي باستمراره وتسلسله إلى نتائج ذات آثار أخرى أبعد وأكبر كعزوف الأفراد عن الشراء، وانخفاض حركة البيع والشراء، وبالتالي الوقوع في الركود الاقتصادي، وهذا سيعم ضرره الكثير.
تضاعفت أسعارُ الخضروات وحليبُ الأطفال، وموادُ البناء، وأسلاكُ الكهرباء، والحديدُ، والإسمنتُ، والعقارات وتضاعفت وارتفعت الإيجارات وفواتير الخدمات، والنواحي الصحية، وتكاليف التعليم والنقل ونحوها، وهكذا من الأمور التي تضرب القوة الشرائية للفرد.
أمام هذا كله... ما هو العلاج...
لقد أخبرنا ربنا أنه لا تصيبنا مصيبة إلا بما كسبت أيدينا، ولكن هذا يُدفع بالتوبة، ويدفع كذلك بمعرفة الأسباب وعلاجها. فإذا وُجد الجشع والطمع من بعض التجار فلا بد من علاجه، وإذا ضعفت المراقبة فلا بد من تعزيزها، وإذا تقلّص دعمُ المواد الأساسية فلا بد من زيادته، وإذا كانت الخصخصة في بعض القطاعات هي السبب فلا بد من مراجعة وإعادة النظر فيها.
ولكن يبقى الدور الأساس في علاج هذه الظاهرة في يد التاجر المسلم..
إن نظرة إلى حال التجار في عهد السلف، تبيّن لنا كيف ينبغي أن يكون موقف التاجر المسلم في مثل هذه الأحوال.
إن محبّةَ الخير للمسلمين أمرٌ أساس، وقد كان الواحد يحذر أن يزداد ربحه على حساب معاناة الآخرين، فالتاجرُ المسلم يتحلّى بحسن النية، والرفق بالمسلمين، وتوفير البضاعة الجيدة لهم.. بالثمن المناسب لهم..
وأهم من هذا أن يكون التاجر أميناً. نعم أن يكون أميناً...
خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون، فقال: (يا معشر التجار). فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى الله وبر وصدق). رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
التاجر المسلم يجتنب أكل أموال الناس بالباطل، وفي الحديث: (ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه). رواه أحمد
التاجر المسلم لا يغش، وقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على صُبرة طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابُعه بللاً، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس؟، من غش فليس مني) رواه مسلم.
التاجر المسلم لا يكذب ولا يحتال، فلا يجوز للبائع أن يخدع مشترياً جاهلاً أو مغفلاً فيرفع السعر ليظنها أصلية، أو لأنه لا يعرف سعر السوق أصلاً إذا رفع عليه رفعاً فاحشاً؛ فهذا خيار الغبن الذي يجوز بموجبه للمشتري رد السلعة رغماً عن البائع وأخذ الثمن.
وما ترونه وتسمعونه من اللحن في الكلام، وأنواع المخادعة في الدعايات والإعلانات والمسابقات التجارية، في ذلك كثير من الخداع للناس، وأكل أموالهم بالزور، ودفعهم إلى شراء ما لا يحتاجون، ليكون هذا المشتري المسكين في النهاية هو الخاسر. ولذا يجب الحذر وإعمال العقل والفكر قبل الشراء.
التاجر المسلم لا بد أن يتعلم الأحكام الشرعية للبيع والشراء. فيعرف المباح فيأتيه، والحرامَ فيبتعد عنه، وينأى عن المشتبهات.
قال عمر رضي الله عنه: "لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقّه في الدين" رواه الترمذي.
التاجر المسلم يجب أن يكون سمحاً في المعاملة، سمحاً في القضاء والاقتضاء، سمحاً في البيع والشراء. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى). رواه البخاري.


ومن علامات التاجر المسلم السخاء بالصدقات، وكثرة الأعطيات.
قحِط الناس في زمن أبي بكر رضي الله عنه، فقدمت لعثمان -رضي الله عنه- قافلةٌ من ألف راحلة، من البر والطعام. فغدا التجارُ عليه، فخرج إليهم فقال: ماذا تريدون؟ قالوا: بلغنا أنه قدم لك ألفُ راحلة براً وطعاماً، بعنا حتى نوسع على فقراء المدينة. فقال لهم: ادخلوا فدخلوا. فقال: كم تربحوني على شرائي؟ قالوا: العشرة اثنا عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة أربعة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر.
فقال: قد زادوني.
قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟.
قال: زادني بكل درهم عشرة.. عندكم زيادة؟. قالوا: لا.
قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة.
هكذا كان عثمانُ بن عفان وعبدُ الرحمن بن عوف، وغيرهم من أغنياء التجار، يجودون على فقراء المسلمين، ولا يستغلّون مثل هذه الفرص؛ لكي يرفعوا الأسعار، ويحتكروا الأطعمة؛ ليبيعوا على الناس بالغلاء، فيربحوا على ظهور المساكين. وترتفع أرصدتهم من جيوب المعدمين. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها الناس.. أيها التجار.. إن الرفقّ بالمسلمين أمرٌ عظيم، والحرصَ على مصلحتهم دليلُ مروءة وكرامة.
هذا إمام أهل المدينة في زمانه.. محمد بن المنكدر رحمه الله، كان له سلعٌ تباع بخمس، وأخرى بعشرة، فباع غلامُه في غيبته شيئاً من الخمسيات بعشرة، فلما عرف لم يزل يطلب ذلك المشتري طوال النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلامَ قد غلط.. فباعك ما يساوي خمسة بعشرة. فقال المشتري: يا هذا قد رضيت. فقال محمد: وإنْ رضيتَ، فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث: إما أن تستعيد مالَك وتعيدَ السلعة، وإما أن نردَ إليك خمسة، وإما أن تأخذ بدلاً من سلعةِ الخمس سلعة العشر. فقال: أعطني خمسة. فرد عليه خمسة، وانصرف الأعرابي المشتري يسأل ويقول: من هذا الشيخ؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر. فقال: لا إله إلا الله، هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا.
وكان أبو حنيفة -رحمه الله- بزازاً يبيع القماش، وكان عنده ثوبٌ فيه عيب، فجعله جانباً، فجاء خادمُه في غيبته فباع الثوب المعيب بقيمته كما لو كان سليماً، فلما جاء الإمامُ إلى محله، وسأل عن ذلك الثوب، قال الغلام: بعته. قال: بكم؟. قال: بكذا –أي: بسعر السليم-. قال: هل أطلعت المشتري على العيب الذي فيه؟. قال: لا. فتصدق بقيمة الثوب كله.



عباد الله... في حالات ارتفاع أسعار الغلاء لا بد أيضاً للمستهلكين والمشترين من توجيهات:
- فمن ذلك عدم التوسع في الشراء، وجعله هوايةً كما هو عند الغرب؛ فهذا المال محاسب عليه الإنسان، فيم اكتسبه، وفيم أنفقه؟، فلا تجعلنّ الأمر الذي عليه مناط حسابك يوم الدين شهوة نفس، وليس المسلم الحكيم بالذي يرهق نفسه بكثرة الشراء، ويهدر الأوقات والأموال والأعمار، وفي كثير من الأحيان يكون مصير شراء ما لا حاجة له من الأطعمة براميل القمامة.
وقد قال تعالى: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}سورة الأعراف: 31. وقال: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}سورة الأنعام:141.
قال شيخ الإسلام: "فالذين يقتصدون في المآكل نعميهم بها أكثر من المسرفين فيها، فإن أولئك إذا أدمنوها وألفوها لا يبقى لها عندهم كبير لذة، مع أنهم قد لا يصبرون عنها، وتكثر أمراضهم بسببها.
مرّ جابر بن عبد الله ومعه لحم على عمر -رضي الله عنهما- فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: هذا لحمٌ اشتهيتُه فاشتريته. قال: أو كلما اشتهيت شيئاً اشتريته، أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}سورة الأحقاف:20 ولا بد من تربية الأولاد على هذا المبدأ لتكون الأسرة متحدة في هذه السياسة في الشراء. وثانياً: مراعاة الأولوية في الإنفاق، وقد جاءت الشريعة بالحكمة، وهي وضع الأشياء في مواضعها، ونهت عن الظلم، وعدمُ وضع الشيء في موضعه في الشراء.. ظلمٌ للنفس.
وقد وجد في بعض الدراسات أن الكماليات هي ثلثا المشتريات، ووجد أن العربة التي تملؤها ربة البيت في البقالات والمحلات الكبيرة غالبها من هذا الجنس الذي يمكن الاستغناء عنه.
- ثم ثالثاً: لا بد من ترشيد الاستهلاك، والحرص على أن يصرف المال في محله، وإذا صارت القضية إنفاقاً في سبيل الله جادت النفس، وأما بالنسبة لما يشتريه الإنسان في العادة فالسياسة فيه قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}.
- ورابعاً: التحلي بخلق القناعة، والغنى في الحقيقة غنى النفس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أوصانا في أمور الدنيا أن ننظر إلى من هو دوننا، وليس إلى من هو فوقنا؛ فقال: ((انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله)). رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)). رواه مسلم.
إذا نظرت إلى من هو دونك في المعيشة، حمدت الله على النعمة، أما إذا كنت ترمق من هو فوقك فإنك لا تستريح دائماً.
- وخامساً: الفطنة وعدم الاغترار بالعروض والإعلانات والدعايات، نحن في عصر الإعلام والإعلان؛ وهذه الإعلانات تحوي كثيراً من المبالغات والكذب، وعلى العاقل ألا ينساق وراءها، وحتى لا يتزايد الشعور بالحرمان أيضاً إذا لم يستطع فيبقى في ألم وحسرة، أو يلجأ إلى الاستدانة.
والحذر أيضاً من البطاقات الائتمانية التي كان في ترويجها خداع من أكبر الخداع للمسلمين، وغش من أعظم الغش للمسلمين، وإيقاع في الربا الذي هو من أكبر الآثام في حياة المسلمين، ولذلك لا بد من الحذر الشديد في قضية الشراء المسبق، الذي يجعل الإنسان لا يشعر فيم دفع؛ لأنه من مال الغير، ثم بعد ذلك سيشعر به آلاماً منغصةً أضعافاً مضاعفة.
- وسادساً: الحذر من إنفاق المال في المحرمات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبرنا أن السؤال يوم القيامة.. من أين اكتسبه وفيم أنفقه، والإنفاق في الحرام تبذير. وقد قال الله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}سورة الإسراء:27.
أسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أرزاقنا وأعمارنا.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فتوبوا إليه واستغفروه.. إنه هو التواب الرحيم.



الخطبة الثانية:
أيها الناس.. العلاج العام لقضية غلاء الأسعار يكون بالتوبة والرجوع إلى الله. قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
فإذا ظهرت المنكرات في المجتمع، وعم الفساد والفجور والربا والزنا أتاهم الله بأنواع البلاء: حبس الغيث، غلاء الأسعار، وهكذا.. ما من مصيبةٍ إلا وسببها الذنوب والمعاصي {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}.
عباد الله... ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، والاستغفار من أسباب الازدهار { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}.
ثم عدم نسيان الفقراء، تقوم الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأفراد بإيجاد الحلول على جميع المستويات لهؤلاء المساكين. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}، (يا ابن آدم أَنفق أُنفق عليك) رواه البخاري ومسلم
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين.
المشاهدات 4928 | التعليقات 0