خطبة عيد الفطر 1444

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الواحد الديان الذي هدانا للإيمان وأتم علينا شهر رمضان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي شرع لعباده من الأعياد ما تجلو بها الأحزان وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير من تقرب إلى ربه بصدق وإخلاص وإتقان -صلى الله عليه وسلم- ما سبحت الخلائق لربها المنان وعلى آله وصحابته أئمة الهدى والإحسان وعلى التابعين لهم إلى يوم تشيب فيه الولدان، أما بعد:

 

معاشر المسلمين: أوصيكم ونفسي بطاعة الله وتقواه والتوبة إليه قبل لقاه؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين؛ حيث قال في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء:131]، ووصى الله بها عباده المؤمنين؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر: 18-19]، أما بعد:

 

 

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

 

أيها المسلمون: إنكم في يوم من أيام الله، إنه يوم عيد الفطر المبارك الذي أكرم الله به الصائمين وأنعم بتشريعه على القائمين ليفرحوا في هذا اليوم المبارك بعد إتمام ما افترضه الله عليهم فضلا من الله عليهم ورحمة منه بهم؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس:58]؛ والمراد بالفرح المذكور في الآية هو الفرح المحمود المضبوط بضوابط وآداب الشرع الحكيم؛ كما ذكر الإمام السعدي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية؛ فقال: "وإنما أمر الله -تعالى- بالفرح بفضله ورحمته؛ لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله -تعالى-، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو الفرح بالباطل؛ فإن هذا مذموم". 

 

وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن للصائم أفراح متعاقبة؛ فيفرح بعد إتمام عبودة الصيام ويفرح يوم لقاء الواحد العلام؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "للصّائمِ فرحتانِ: فرحةٌ حينَ يفطرُ، وفرحةٌ حينَ يَلقى ربَّهُ"(صححه الألباني).

وروى أنس بن مالك -رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قدِمْتُ المدينَةَ ولأهلِ المدينةِ يومانِ يلعبونَ فيهما في الجاهليَّةِ، وأنّ اللهَ تعالى قدْ أبدَلَكم بهما خيرًا منهما يومَ الفطرِ ويومَ النحر"؛ وهذا من يدل على سماحة الإسلام وشموليته لاحتياجات العبد في روحه وفطرته وما جبلت نفسه عليه.

 

فهنيئا لمن أحسن في صيام رمضان وتلا وقام ليالي العتق والغفران، ولله در الشاعر حين قال:

ليهنكَ بعدَ صومكَ عيدُ فطرٍ***يريكَ بقلبِ حاسدكَ انفطارا

أتاكَ وفوقَ غرَّتهِ هلالٌ*** إذا قابلتهُ خجلًا توارى

يشيرُ وعادَ نحوكَ كلَّ عامٍ***يحدِّدُ فيكَ عهداَ وازديارا

ولا برحتْ لكَ العلياءُ دارًا***ومتَّعكَ الزَّمانُ بملكِ دارا

 

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

 

أيها المسلمون: ولم تكن هذه الأعياد الشرعية مجرد لهو ولعب وأكل وشرب وزينة فحسب، ولكن لحِكَم ومقاصد عظيمة، ومن تلك الحكم والمقاصد:

تعظيم شعائر الله -تعالى-، قال -سبحانه-: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32]، والأعياد المشروعة من شعائر الله المهمة التي عظمها الإسلام.

 

ومن مقاصد العيد: أنها شرعت لشكر المنعم -جل في عليائه- على آلائه وإحسانه، يقول رب العزة والجلال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 185]، ومن يتأمل في هذه الآية الكريمة يجد أن في ظاهر العيد الزينة والاستمتاع، وأن في باطنه شكر الله -تعالى-، إذ أن حقيقة العيد في حياة المسلم؛ أن يخرج العبد من يومه بلا ذنوب ولا تقصير في حق علام الغيوب؛ كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: "كل يوم لا يعصي الله فيه؛ فهو عيد، وكل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه، وذكره، وشكره؛ فهو له عيد".

 

ومن المقاصد التي شرع لأجله العيد في الإسلام: إظهار سماحة هذا الدين الحنيف وتيسيره على من التزم سبيله، وتمسك به؛ فعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَتَعْلَمُ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ"(صححه الألباني).

 

ومنها: مراعاة طبيعية الفطرة البشرية المكونة من الروح والعقل والجسد، وقد جاء الإسلام بما يلبي احتياجات النفس البشرية؛ فعن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: "دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم: بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وذلك في يوم عيد"؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا".

يقول الغزالي -رحمه الله-: "فإن النفس ملول، وهي عن الحق نفور؛ لأنه على خلاف طبعها؛ فلو كلفت المداومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت وثابت، وإذا روّحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت".

 

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

 

أيها المسلمون: وحتى تكتمل فرحة العيد على الوجه الأكمل والصورة الأمثل ينبغي أن نتحلى بالآداب الشرعية والسنن النبوية؛ فمن هذه الآداب والسنن:

الإكثار من التكبير يوم العيد حتى يخرج الإمام لصلاة العيد؛ فقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجتهد بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يخرج الإمام"، وجاء عن الزهري -رحمه الله- أنه قال: "كان الناس يكبرون في العيد حين يخرجون من منازلهم حتى يأتوا المصلى وحتى يخرج الإمام؛ فإذا خرج الإمام سكتوا فإذا كبر كبروا".

 

الإفطار قبل الخروج إلى صلاة العيد -لا سيما- في عيد الفطر؛ كما كان يفعل خير الأنام -عليه الصلاة والسلام- ويحث على ذلك الصحابة الكرام.

 

ومن آداب وسنن العيد -يا أمة التوحيد- التجمل للعيد بالغسل والتطيب ولبس أحسن الثياب؛ وقد روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "أخذ عمر جبة من إستبرق تباع في السوق؛ فأتى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ابتعْ هذه تجملْ بها للعيد وللوفود؟".

 

ومن آداب وسنن العيد: التبكير في الذهاب لصلاة العيد؛ والاشتغال بالتكبير والدعاء والذكر في الذهاب وحال انتظار الصلاة، لقول الله -تعالى-: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[البقرة: 148]، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي".

 

ومن آداب وسنن العيد: المشي إلى المصلى؛ كما كان يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، وقد جاء عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "من السنة أن يأتي العيد ماشيا"، وقال ابن المنذر -رحمه الله-: "المشي إلى العيد أحسن وأقرب إلى التواضع ولا شيء على من ركب"، وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان -صلى الله عليه وسلم- يخرج ماشيا".

 

ومن آداب وسنن العيد: الذهاب إلى صلاة العيد من طريق والعودة من طريق أخرى؛ وهذه من الأمور التي حث عليها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان يوم عيد خالف الطريق".

 

ومن الآداب: الاستماع الخطبة؛ ولا يحرج على من لم يحضر الخطبة؛ لحديث عبد الله بن السائب قال: "شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العيد فلما قضى الصلاة، قال: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب".

 

ومن آداب وسنن العيد: التهنئـة بالعيـد والزيارات؛ فيشرع تهنئة المسلم بالنعمة الحادثة والعيد كذلك، عن جبير بن نفير قال: "كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تُقُبِّل منا ومنك".

 

ومن آداب وسنن العيد: التوسعة على الأهل والأولاد في أيام العيد خصوصاً، وإظهار الفرح والسرور؛ ويدل على ذلك نهي النبي الكريم للصديق عن نهر الجواري اللاتي كن يغنين عند عائشة -رضي الله عنها-.

 

 

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

 

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

 

أيها المؤمنون: اشكروا ربكم على هدايته لكم إلى هذا الدين العظيم وافرحوا بعيدكم، واحرصوا في هذه الأيام المباركة على القيام بالأعمال التي جاء الترغيب في فعلها بعد انصرام شهر رمضان المبارك؛ فمن ذلك:

شكر الله -تعالى- على اكتمال العدة إتمام النعمة، قال -سبحانه-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 185].

 

كما يجب على العبد أن يحسن الظن بربه: بأنه سيتقبل ما قدمه العبد من بر وإحسان؛ فالله -تعالى- عند حسن ظن عبده به؛ فقد قال -سبحانه- في الحديث القدسي: "أنا عندَ ظنِّ عبدي بي فلْيظُنَّ بي ما شاء"، وما أجمل قول الشاعر وهو يرى جميل ظنه بربه:

وإني لأرجو الله حتى كأنني *** أرى بجميل الظن ما الله صانع

 

ومن الأعمال الفاضلة في أيام العيد: أن زيارة المسلم لأرحامه وتفقد أحوالهم ومشاركتهم فرحتهم؛ فإن من وصلهم وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله؛ كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فقالَ اللَّهُ: مَن وصَلَكِ وصَلْتُهُ، ومَن قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ"(رواه البخاري).

 

ومن الأعمال التي يستحب للمسلم أن يفعلها عقب رمضان صيام ست من شوال؛ كما في حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-، قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صام رمَضانَ وأتبَعه سِتًّا مِن شوّالٍ خرَج مِن ذُنوبِه كيومَ ولَدَتْه أُمُّه".

 

ومن الأمور المهمة التي يجدر التذكير بها في هذا اليوم المبارك: أهمية المداومة على الطاعات والاستمرار عليها حتى يلقى العبد ربه وهو على هذا الحال؛ كما قال ربنا لنبيه صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ)[الحِجْر:99]؛ والواجب على المسلم أن يحافظ على رصيده من الحسنات التي اجتهد في تحصيلها في شهر رمضان وألا يفعل ما يخرمها؛ لأن هذا من الجهل والحمق؛ وقد ضرب الله لنا مثلا في كتابه العزيز يحذرنا من ذلك؛ فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) [النحل: 92]؛ وهذه الآية نزلت في ريطة بنت عمرو المكية التي كانت تغزل الصوف وجه النهار بقوة، ثم تنقضه آخره فذم الله صنيعها وجعلها مثالا للتحذير من سلوك سبيلها.

 

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

 

اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.

 

اللهم ثبتنا على طاعتك وارزقنا المسابقة إلى مرضاتك ومحابك.

 

 

المشاهدات 12917 | التعليقات 0