خطبة عيد الفطر 1437هـ - الرحمة (مظاهر وأخبار)

هشام الذكير
1437/09/30 - 2016/07/05 11:04AM
(الرحمة) مظاهرُ وأخبَار
[FONT="]خطبة عيد الفطر لعام 1437هـ[/FONT]



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله! خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً.
الله أكبر! عنت الوجوه لعظمته، عز سلطانه، وعم إحسانه.
الله أكبر! كلما ذكره الذاكرون، الله أكبر! عدد ما هلل المهللون، وكبَّر المكبرون، وسبح المسبحون.
اللهم أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً..
قال جل في علاه: " ولتكلموا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون".
معاشر المؤمنين والمؤمنات:
صفة عظيمةٌ لو عمَّت المجتمع الإسلامي؛ لانتشر فيه الحب والصفاء والوداد.
بتلك الصفة يُزار المريض، ويُعَان الفقير، وتذوب الفروقات بين المجتمع الإسلامي، فلا أبيض ولا أسود، الكل جسد واحد.
هي " كلمة صغيرة .. وبين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظرها، والشمسِ في حقيقتها "([1]).
تلك الصفة كانت جوهر رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وقال صلى الله عليه وسلم (إنما أنا رحمة مهداة).
إنها .. صفة الرحمة.
مَنْ اتصف بها فليبشر برحمة الله له، برحمةٍ تغمرُ القلب يغفر الله تعالى للعبد، روى مسلم " أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم يطوف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له مُوقها، فغفر لها ".
بل حذَّر تبارك وتعالى من نزع الرحمة من قلب المؤمن، قال صلى الله عليه وسلم (( مَنْ لا يرحم لا يُرحَم)).
فمتى تغلغل الإيمان بالله واليوم الآخر في القلب حقًّا، غرس فيه الرَّحْمَة بمقدار قوته وتغلغله.

أيها المؤمنون والمؤمنات:
راقبوا الرحمة مع بزوغ قمر ليلة العيد، حين يتسابق المسلمون في إخراج زكاة الفطر رحمةً بالفقراء، وحين يتهاتفون بالرسائل وشتى الوسائل مهنئين وداعين..
ارقبوا الرحمة مع ركضة الأطفال فرحاً بهذا العيد، حين يتقافزون بهتَافٍ واحدٍ ونغمة موزونةٍ (عيدٌ عيدٌ غداً هو العيد)!
تأملوا الرحمة مع إشراقة شمسِ يوم العيد والمسلمون والمسلمات صغاراً وكباراً يتسابقون جماعاتٍ وفرادى إلى مصلى العيد مكبرين ومهللين فالله أكبر الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون)).

معشر المسلمين والمسلمات:
(الرحمة) صفةٌ جليلة من صفات الله عز وجل نثبتها كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، بلا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، فهو سبحانه (الرحمن) بالناس كافة، (الرحيم) بالمؤمنين خاصة، بل كتب على نفسه سبحانه هذه الصفة (كتب ربكم على نفسه الرحمه أنَّه مَنْ عمل منكم سوءَاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفورٌ رحيم).
وإذا فتح لعبادِه رحمة فلا ممسك لها، وإذا أمسك فلا مرسل لها وهو العزيز الحكيم.
من داخل رحمة الله تتفجرُ ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة.
يبسطُ الله الرزق مع رحمته .. فإذا هو متاعٌ طيب ورخاء، وإذا هو رغدٌ في الدنيا وزادٌ إلى الآخرة.
ويمسك رحمته فإذا هو مثارُ قلقٍ، وخوفٍ، وإذا هو مثار حسدٍ وبغض.
الرحمة من الله .. إنعامٌ وإفضالٌ منه سبحانه، وإحسانٌ إلى عبادِه.
فالجنة رحمة يقول ربنا: " يدخل الله في رحمته من يشاء ".
والمطر رحمة " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته ".
والنصر والفتح والتمكين رحمة " قل من ذا الذي يعصمكم من الله إِنْ أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة " والتوفيق من الله رحمة " ولولا فضل الله عليكم ورحمته".
من رحمته سبحانه إحسان الخلقِ والتكوين:" والله خلقكم من تراب ثم من نطفةٍ ثم جعلكم أزواجاً وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يُعمَّر من معمَّرٍ ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ".
ومن رحمته تسخير الليل والنهار والشمس والقمر " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجلٍ مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذي تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ".
معشر المؤمنين والمؤمنات:
الرحمة من المخلوق هي رقة وتعطف تبعث إلى إيصال الخير للغير.
كانت رحمته صلى الله عليه وسلم في كل شؤون حياته، لم تفارقه الرحمة في أيِّ " لحظةٍ من اللحظات، بل كانت طبيعته وفطرته، وكان لها مكاناً واسعاً في سيرته وفي وصاياه ... يزور قبر أمه فيبكي، ويحضر وفاة ابنه فيبكي، ويوصي باليتيم والشيخ الكبير، اتسعت رحمته لتشمل الحيوانات والطيور، حتى إنه ليتوقف ويسأله أصحابه رضي الله عنهم عن حمامة رآها تعرش بجناحيها فقال: (مَنْ فجع هذه بصغيرها، أعيدوا إليها فراخها)"([2]).
وعندما كان إبراهيم بن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: « يا ابن عوف إنها رحمة »!
لقد امتنَّ الله تعالى على نبيه بهذه الرحمة (فبما رحمة من الله لنت لهم) وسار عليها خير صَحْبِه، قال تعالى عنهم ( رحماء بينهم )([3]).
تمضي الرحمة في قلب الصديق أبي بكر فيعفو عن (مِسْطح) وينفق عليه؛ لما نزل قوله تعالى (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفو وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم).
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي عرف بشدَّته، وقوَّته، تُغيِّرُ الرَّحْمَة من طباعه، فيصبح رقيقًا يمتلأ قلبه رحمةً، ويفيض فؤاده شفقةً، يُكلِّمُه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كي يلين للناس حيث أخاف الأبكار في خدورهنَّ، فيقول: (إني لا أجد لهم إلَّا ذلك، والله لو أنهم يعلمون ما لهم عندي، من الرَّأفة، والرَّحْمَة، والشفقة، لأخذوا ثوبي عن عاتقي)([4]).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

عيدنا أهل الإسلام عيدُ رحمةٍ لا أنانية فيه، هو فرحة للغني والفقير، والصغير والكبير، والرجل والمرأة.
تراحم عجيب بين المجتمع الإسلامي يوم العيد.
العيد رحمة بالضعفاء، قد شُرِعَت زكاة الفطر مواساة للفقراء.
العيد رحمةٌ للأرحام ففيه تنتعش الصلات بين الإخوان والأخوال والأعمام.
عيدنا أهل الإسلام عيد رحمةٍ وتراحمٍ وتعاطف.
يأتي عيدنا بعد رَحمَات إلهية في شهر مبارك.
بالرحمة .. تتلاقى المشاعر، وتنبض الأحاسيس، وهاهنا يكون الجسد الواحد، فلا مكان للقسوة بين المسلمين، يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى شيئاً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ".

أيها المؤمنون والمؤمنات:
الرحمة في الإسلام أصلٌ عظيم يمتدٌّ من أصل التشريع حيث كانت الرحمة هي جوهر البعثة (وما أرسلناك إلى رحمة للعالمين) وتستمر إلى ملاطفة الأطفال بله الحيوان، بل حتى الجمادات.
فالأمر بالمعروف رحمة، والنهي عن المنكر رحمة، وإقامة الشرائع والحدود رحمة، يقول تعالى: " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ".
أما الرحمة التي تؤول إلى فساد المرحوم وهلاكه، فهذه ليست رحمةً محمودة، بل مذمومة لا تُقرُّها أصول الشريعة ومقاصدها.
اللهم ارحمنا برحمتك ..
اللهم أنزل علينا رحمةً من رحماتك
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ..

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
ألا فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى. ((إنَّه مَنْ يتقِ ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)).
معاشر المؤمنات الطاهرات..
المرأة هي ينبوع الرحمة، ورَحِم المرأة تحمَّل المشاق والمتاعب، فصدرها منبع الحنان.
المرأة هي الأم .. والمرأة هي الأخت .. والمرأة هي البنت.
تلك الرحمة التي وضعها الله في الأم على أولادها قد تكون سبباً في دخولها الجنة، هذه أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها تقول:
جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتُها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فِيهَا تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرةَ التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ((إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار)) رواه مسلم.
للمرأة قدرة عجيبة في إيجاد الرحمة في بيت الزوجية؛ والرحمة هي سعادة الأسرة المسلمة وقد امتنَّ الله على عباده حين قال: (( وجعل بينكم مودَّة ورحمة )).
المرأة العاقلة ترحم زوجها في أحنك الظروف، بل ربما تقود الأزمة بحبِّها ورحمتها وحنانها.
معاشر المؤمنين والمؤمنات:
منْ أراد أن ينظر إلى وجود صفة الرحمة في قلبه، فلينظر إلى مدى حبه لنفع الآخرين، إذْ حقيقة الرحمة هي إرادة المنفعة للآخرين، وهي علامة الإيمان، ومن لا رأفة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شَقِي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تُنزَع الرحمة إلا مِنْ شَقِي).
إنَّ (الرحمة) مزيجٌ من العبادات القلبية العظيمة، فحسن الظن من الرحمة، والعفو من الرحمة، والصفح من الرحمة، والتغاضي من الرحمة.
وكلما حقَّق المسلم في قلبه هذه المعاني كلما كان أكثر رحمةً بإخوانه.

" لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع، ولا مغبون، ولا مهضوم، ولأقفرت الجفون من المدامع، ولاطمأنت الجنوب في المضاجع، ولَمَحَتِ الرحمةُ الشَّقاءَ من المجتمع، كما يمحو لسانُ الصبحِ مدادُ الظلام "([5]).
أيا سعداء العيد .. عيشوا معي الرحمة في هذا العيد بالإحسان إلى الفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
إلى كل متشاحنين .. أناشدكم الله أن تتراحموا وكونوا عباد الله إخواناً.
إلى كل زوجين مختلفين .. ليكن هذا العيد عيدُ رحمةٍ وتآلف، وليرحم كل منكما الآخر، عسى الله أن يكتب بينكما المودة والرحمة.

أيا صغير العيد:
إن الرحمة بك، ومعانقتَك وتقبيلَك قُربَة من القُرَب الإلهية، وبابٌ من أبواب الرحمة، ألا ترون إلى قوله عليه السلام للأقرع بن حابس حين ذَكَر عند النَّبي صلى الله عليه وسلم أن له عشرة من الولد ما قبل منهم أحدًا، فقال له صلى الله عليه وسلم (( مَن لا يرحم لا يرحم)).
أيا صغير العيد .. لم يفتأك والدك بالرحمة بك صغيراً .. فرِّدد وأنت كبير (( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً).

أيها الإخوة والأخوات:
لتكن صور الرحمة حاضرةً في هذا العيد، فصلة الرحم من الرحمة، والتهنئة الصادقة بالعيد من الرحمة، والإحسان إلى المسكين والفقير بالابتسامة والصدقة اليسيرة كل ذلك من الرحمة.
استعيذوا بالله من نزع الرحمة من قلوبنا، هناك مَنْ نُزِعَت منه الرحمة وهو يحسب أنه يُحسِن صُنْعَاً.
بالله عليكم .. أي رحمةٍ بالتخريب والتدمير في مدينة المبعوث رحمة للعالمين، طيبة الطيبة، في شهر عظيم، ومكانٍ عظيم، وزمان عظيم، وقتلٍ لنفس معصومة ؟!
" المدينةُ حَرَمٌ، مَنْ أحدَثَ فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
العقيدة الصحيحة والعلم الشرعي هدى ورحمة، فلا يُنتِج ضلالاً وإنحرافاً (هو الذي رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)
(ونزلنا عليك الكتاب تبيناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين).

فاللهم ارحمنا برحمتك، اللهم اشملنا برحمتك، اللهم اهدِ ضال المسلمين، اللهم مَنْ أرادنا وأراد إيماننا وأمننا بسوء فاللهم رُدَّ كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمور، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وَفِّقْه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين.
اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا، واملأ قلوبنا رحمةً بالمسلمين.
اللهم إن رحمتك وسعتك كل شيء، فاللهم ارحم إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أنزل عليهم من بركات السماء، وأخرج لهم من خيرات الأرض.
اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.



([1]) المنفلوطي.

([2]) الرحمة في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم ص(2).

([3]) ينظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها. عبد الرحمن الميداني 2/17.

([4]) المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر الدينوري 4/43.

([5]) المنفلوطي. عيد
المرفقات

الرحمة مظاهر وأخبار.doc

الرحمة مظاهر وأخبار.doc

الرحمة مظاهر وأخبار.pdf

الرحمة مظاهر وأخبار.pdf

المشاهدات 2177 | التعليقات 1

دائمًا متميز ياشيخ هشام أيها القاضي الشريف،