خطبة عيد الفطر عام 1435هـ كيف نجعل العيد بداية بر وصلة..
عبد الله بن علي الطريف
1435/09/30 - 2014/07/27 23:54PM
خطبة عيد الفطر عام 1435هـ كيف نجعل العيد بداية بر وصلة..
الحمد لله كثيرًا، والله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا.. الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.. الله أكبر خلق الخلق وأحصاهم عددًا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا، الله أكبر عزّ سلطانُ ربنِا، وعمّ إحسان مولانا، خلق الجن والإنس لعبادته وعنت الوجوه لعظمته، وخضعت الخلائق لقدرته، الله أكبر عدد ما ذكره الذاكرون، الله أكبر عدد ما هلل المهللون وكبر المكبرون، الله أكبر عدد ما صام وأفطر الصائمون، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
أحمد لله وأشكره على عظيم فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله انفردَ بالخلق والتدبير، وكلُّ شيءٍ عنده بأجلٍ مُقدر.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضلُ من تعبد لله وصلى وزكى وصام وأفطر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه نعمَ الصحبُ والمعشر، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى واعرفوا فضلَه عليكم بعيد الفطرِ السعيد، وهو أول يومٍ من أيام الحج إلى بيته الحرام. وهذا العيد عظيم الشأن عند الله، ومما يدل على عظم شأنه أن الله قرنه بشعيرة عظيمة من شعائر الإسلام العامة التي لها جلالُها وروحانيتُها، وهي شهر رمضان؛ فجاء عيدُ الفطر مِسك ختامِه، وكلمة الشكر على تمامه.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
العيد معاشر الأحبة: مظهرٌ من مظاهر الدين، وشعيرةٌ من شعائره المعظمة وشعائر الدين: أي أعلامُه الظاهرة، التي تعبد الله بها عبادَه، وشعائر الدين، قد أمرنا الله تعالى بتعظيمها فقال: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]. إذن العيد شعيرةٌ تنطوي على حِكم عظيمةٍ، ومعانٍ جليلة، وأسرارٍ بديعة لا تعرفها الأمم في شتى أعيادها.. فهو موسمُ الفضل والرحمة وله معانٍ كثيرة منها..
فالعيد في معناه الديني شكرٌ لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب، ولكنها تعتلجُ في سرائرِه رضاً واطمئناناً، وتنبلجُ في علانيته فرحاً وابتهاجاً.. قال العلماء: "إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين"..
ويَظْهَرُ الفرحُ والسرور في العيد في أعمالٍ بدنيةٍ وماليةٍ ينبغي للمسلم عملها، تظهر وتبرز في المجتمع الإسلامي، وما اسْتحبابُ التكبير والتهليل والتحميد صبيحة العيد ورفع الصوت بها تعظيمًا وإجلالاً لله في كل مكان عند انتهاء صومهم إلا شيء من ذلك؛ فتمتلئ الآفاق تكبيرًا وتحميدًا وتهليلاً رجاءَ رحمةِ اللهِ، وخوفَ عذابه، وإحياءً لسنة نبيهم.
ومن معاني العيد الدينية أيضاً تقديم زكاة الفطر قبل صلاة العيد للفقراء والمحتاجين لتغنيهم عن السؤال في هذا اليوم، وحتى يشاركوا بقية المسلمين بالفرح في عيدهم، وقد رُويَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسند ضعيف: «أَغْنُوهُمْ عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ» وما تحريم صيام يوم العيد وفرض الاجتماع لصلاة العيد بالمصليات، وغيرها من الأعمال والمستحبات إلّا للتأكيد على أهميةِ إظهار العيد بمعناه الديني فلله الحمدُ ربِ العالمين..
ومن معاني العيد الدينية أنه يوم المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور وتبادل التهاني فيه، ويومُ الأصدقاء يجدد فيهم أواصر الحب ودواعي القرب، ويومُ النفوس الكريمة تتناسى أضغانَها، فتجتمع بعد افتراق، وتتصافى بعد كدر، وتتصافح بعد انقباض، ويجتمع الناس فيه في تواؤم على الطعام وهو من شعائر الإسلام التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال شيخ الإسلام.. وفي هذا كله تجديدٌ للرابطة الاجتماعية على أقوى ما تكون من الحب، والوفاء، الإخاء.
والعيد في معناه الزمني قطعةٌ من الزمن خُصصَت لنسيان الهموم، واطراحِ الكُلفِ، واستجمامِ القوى الجاهدة في الحياة.. مهما كانت ظروفُ الأمةِ؛ فالفرحُ بالعيدِ والأنسُ به تعبدٌ لله نحن مأمورون به.. ولا يعني نسيانَ قضاينا وجراحِنا النازفة، وهذا من عظمة هذا الدين وكماله...
الله أكبر
والعيد في معناه الاجتماعي: يومُ الوالدين يجدد فيه الأولادُ ما خبا من مظاهر البر، ويذكون في نفوسِهم مشاعرَ الامتنان؛ فقد قضى ربنا سبحانه قضاءً دينياً وأمر أمراً شرعياً أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا إِيَّاهُ، وقضى بالإحسان إلى الوالدين بجميعِ وجوهِ الإحسان القولي والفعلي لأنهما سببُ وجودِنا، ولهما من المحبة للولد والإحسانِ إليه والقربِ منه ما يقتضي تأكدَ الحقِ ووجوبَ البرِ...
ولقد أوضحَ اللهُ للأمةِ أهميةَ رابطةِ الأسرةِ ببذرتِها الأولى حيث جعلها الرابطةَ الثانيةَ بعد رابطةِ العقيدة، فقال محدداً لأهمها وهو برُ الوالدين: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..) [الإسراء:23]. وهذا الطلب للإحسان إليهما إعلانٌ لقيمة هذا البر عند الله..
وأكد هذا الإحسانَ بصورةٍ موحية فقال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) وهذا التعبيرُ الشفافُ اللطيفُ الذي يبلغُ شِغافَ القلب وحنايا الوجدان.. جعل الرحمةَ ترقُ وتلطفُ حتى لكأنها الذلُ الذي لا يرفعُ عيناً، ولا يرفضُ أمراً..! وكأنما للذلِ جناحٌ يخفضُه إيذاناً بالسلام والاستسلام. (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) نعم إنها الذكرى الحانيُة.. ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان.. وهما اليوم في مثلِها من الضعفِ والحاجةِ إلى الرعايةِ والحنان.. ومن أعظمِه التوجهُ إلى الله أن يرحمَهما؛ فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب، وهو أقدر على جزائهما بما بذلا مما لا يقدرُ على جزائِه الأبناء..
الله أكبر...
وجعل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البر بهما سببًا لدخول الجنة، فقَالَ: «رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ» قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ». رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِمْتُ، فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا.؟ قَالُوا: هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ" فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ" وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ. رواه أحمد وغيره عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وإسناده صحيح.
الله أكبر..
والعيد أيها الأحبة في معناه الاجتماعيُ كذلك: يومُ الأرحامِ يجمعُها على البرِ والصلة، بعدما قطعها بعضنا بسبب أمور دنيوية.! وكيف نقطعها ورَسُولُنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ" فماذا أجابَها.؟ "قَالَ: نَعَمْ".! نعم نَزَّلَهَا اللهُ مَنْزِلَةَ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ، وَأَدْخَلَهُا فِي ذِمَّتِهِ وَخِفَارَتِهِ، فما أعظمَهُ من منزل، وما أقواه من جوار؛ فَجَارُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْذُولٍ وَعَهْدُهُ غَيْرُ مَنْقُوضٍ.. وَلِذَلِكَ خَاطَبَها اللهُ فقَالَ: "أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ".. رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وقد أكد اللهُ بكبريائه وعظمته هذا الجوارَ والخفارةَ، ونادى نداءً عظيماً، يزلزلُ القلوبَ الواعيةَ ويُفزِعُها، ويوقظُ الأحاسيسَ الراقدةَ ويهزُها.. يقول الرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا اللَّهُ.. وَأَنَا الرَّحْمَنُ.. خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْماً مِنْ اسْمِي؛ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُه أَو قال: بَتَتُّهُ. رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.
ثم علقها الرحمنُ الرحيمُ بعرشِه الكريمِ وأذن لها أن تدعو «تَقُولُ: مَنْ وَصَلَني وَصَلَهُ اللهُ، ومن قَطَعَنِي قَطَعَهُ الله». أخرجه البخاري ومسلم.
أيها الأحبة: هل بعد هذا التحذيرِ والتهديدِ والوعيدِ الشديدِ من القطيعةِ يبقى لذي عقل من فسحةٍ.؟ وهل له من حجةٍ مقبولةٍ يحتجُ بها أمام ربه، ويخرج من هذا الجوارِ الرباني والخفارةِ الإلهية.؟
الله أكبر الله أكبر...
إذاً إئذنوا لي بهذا النداء.. أيها الإخوة، أيتها الأخوات، أيها الأبناء، أيتها البنات: أدعوكم وأناديكم في هذا اليومِ العظيمِ، ونحن على إثرِ عبادةٍ عظيمةٍ، وفي يومٍ عظيمٍ من أيامِ الله.. ومن هنا من منبرِ الحقِ منبرِ رسولِ الله، أدعوكم وأرجوكم، نعم أرجوكم -رجالاً ونساءً صغارًا وكبارًا- أن ترفعوا شعارًا في هذا العيدِ تبادرون به كلََّ أبٍ وأمٍ وكلَ ذي رحمٍ من الأولاد والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبناؤهم..
ليقل كلُ عاقٍ أو قاطعٍ أو مقصرٍ لأبيه: أبي أريدُ برك فسامحني وأعني.. وليقل لأمه: أمي أريدُ برَك فسامحيني وأعينيني.. وليقل لكلِ واحدٍ من قرابته أخي أختي عمي عمتي خالي خالتي ابن عمي أريد صلتكم فأعينوني وتَقَبْلُونِي.. عفوت عنكم لله فاعفوا عني لله.. رجاءَ عفوِ الله تعالى القائل: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40] عفوتُ وصفحتُ امتثالاً لأمرِ ربِنا، ورجاءَ مغفرتِه، فهو القائل: (..وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور:22] فمن كان بينه بين قريب له أي خلاف فليبادر بهذا العيد السعيد وليقل: عفوت، أنا أحب أن يغفر الله لي..
الله أكبر الله أكبر...
أما ما يتعللُ به بعضُنا من أعذارٍ مثل قولهم: كرامتي أهينت، أو أنا لا أستطيع غصبٍ عليَّ، ومستحيل أنسى.. إلى آخر القائمة السوداء من المعاذيرِ غيرِ الصحيحةِ..
أقول لكم بلا تحفظ: ألقوها في زبالةِ الماضي القاطعِ الآثم..
وابشروا بالعفوِ والمغفرةِ والرضوان.. والوصلِ من الرحيم الرحمن.. والأجور الكثيرة من الكريمِ ذي الامتنان.. والبركة في العمر والمال والأهل والأوطان.. فقد قال سيد الأنام: إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ؛ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ لِيَكُونُوا فَجَرَةً فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تَوَاصَلُوا، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَتَوَاصَلَونَ فَيَحْتَاجُونَ. رواه ابن حبان وقال الألباني حسن لغيره، وفي لفظ عند غيره: مَا مِنْ ذنبٍ أجدرُ أن يُعَجلَ اللهُ لصاحبِه العقوبةَ مع ما يدخرُ له في الآخرةِ من قطيعةِ الرحمِ والخيانةِ والكذبِ، وإن أَعجلَ البرِ ثواباً لصلةُ الرحمِ حتى إن أهلَ البيتِ ليكونوا فقراءَ فتنموا أموالُهم ويَكْثُرُ عددُهم إذا تواصلوا". وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. رواه البخاري.
الله أكبر الله أكبر
وفي العيد يُهدي الناسُ بعضُهم إلى بعضٍ هدايا القلوبِ المُخلصةِ المُحِبة، وكأنما العيدُ روحُ الأسرةِ الواحدةِ في الأمةِ كلِها.
في العيدِ تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلدُ العظيم وكأنه لأهله دارٌ واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي.
في العيد تنطلقُ السجايا على فطرتها، وتبرزُ العواطف والميولُ على حقيقتها.
والعيد مع ذلك كله ميدانُ استباقٍ إلى الخيرات، ومجالُ منافسةٍ في المكرمات.
إذا السرُّ في العيد ليس في يومِهُ الذي يبتدئُ بطلوع الشمس وينتهي بغروبها، وإنما السرُّ فيما يُعْمَرُ به ذلك اليومِ من أعمالٍ، وما يَغْمُرُه من إحسانٍ وأفضالٍ، وما يغشى النفوسَ المستعدَّةَ للخير فيه من سموَّ وكمال؛ فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في العيد, لا اليومُ نفسُهُ.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله...
أيها الأحبة: عيدكم مبارك وعيدكم سعيد، افرحوا بعيدكم أفراحًا كثيرة؛ فرحة بفضل الله ورحمته، وكريم إنعامه، ووافر عطائه، وفرحة بالهداية يوم ضلت فئام من البشر عن صراط الله المستقيم، وللعيد فرحةٌ بتوفيق الله وعونه على ما يسر من صيام وقيام وصدقة وتلاوة للقرآن.
الله أكبر الله أكبر...
أيها الإخوة والأخوات: يأتي العيدُ وأمتُنا تعاني من جراحاتٍ غائرة وأزماتٍ حالكة وأحوالٍ قاهرة.. فكم في أمتنا من شريدٍ وطريد، وكَمِدٍ كئِيب، قد افترش الهم وتوسد القلق، وحسيرٍ وكسير قد غصَ بريقِه وخنقتُه عبرته.. قد ادلهمَ بنا الخطبُ وهُنَّا على الناس هواناً عظيماً.. وتداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلُة على قصعتها..
ومع ذلك كلِه نحن متعبدون بأن نفرح بعيدنا ونبتهج به.. ولن نتلقاه بهممٍ فاترةٍ، ولا حسٍّ بليد، ولا شعورٍ بارد، ولا أسَارِيرَ عابسة، ففي ديننا ولله الحمد فسحةٌ وللعيد صبغةٌ روحيَّة تؤثِّر ولا تتأثَّر.
ولئن كان من حق العيد أن نَبْهَج به ونفرح، ونتبادل به التهاني، ونطّرحَ الهموم، ونتهادى البشائر.. فإن حقوقَ إخواننا المشردين المعذبين شرقاً وغرباً تقضى أن نحزن لمحنتهم ونغتم، ونُعْنَى بقضاياهم ونهتم؛ فالمجتمع السعيدُ الواعي هو ذلك الذي تسمو أخلاقُه في العيد، إلى أرفع ذروة، ويمتدُ شعوره الإنساني إلى أبعد مدى، وذلك حين يبدو في العيد متماسكاً متعاوناً متراحماً، حتى لَيَخْفِقُ فيه كلُ قلب بالحب والبر والرحمة، ويذكرُ فيه أبناؤه مصائب إخوانهم في الأقطار حين تنزل بهم الكوارث والنكبات.
ولا يراد منا تَذْراف الدموع، ولبس ثياب الحداد في العيد، ولا يراد منا أن نعتكف مرزوئين بفقد إخواننا، ونمتنع عن الطعام، كما يفعل الصائم.
وإنما يراد منا أن تظهر أعيادُنا بمظهر الأمة الواعية، التي تلزم الاعتدال في سَرَّائِها وضَرَّائِها؛ فلا يَحُوْلُ احتفاؤها بالعيد دون الشعورِ بمصائبها التي يرزح تحتها فئامٌ من أبنائها.
هكذا أُمِرنا يا أهلنا في غزة وسوريا وبروما والعراق ويا كلَ أخٍ لنا في شدة وضيق.. فأفق الإسلام أوسع من آفاقنا ولا سواء بيننا وبين أعداءنا.. (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) [النساء:104] وقتلانا إن شاء الله من شهداء وقتلاهم في النار ومصابنا مأجور ومصابهم معذب مقهور..
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وأتبعوا صيام رمضان بست من شوال؛ فقد حث على ذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله".
ومن جاء مع طريق يشرع له أن يعود مع طريق آخر كما هي سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم إن هؤلاء عبيدك أتوك راغبين بعفوك، اللهم لا تفض جمعهم إلا بمغفرة ذنوبهم، وحقق لكل واحد منا ما تمنى من خيري الدنيا والآخرة من غير إثم أو قطيعة رحم.
[/font][/size]
الحمد لله كثيرًا، والله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا.. الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.. الله أكبر خلق الخلق وأحصاهم عددًا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا، الله أكبر عزّ سلطانُ ربنِا، وعمّ إحسان مولانا، خلق الجن والإنس لعبادته وعنت الوجوه لعظمته، وخضعت الخلائق لقدرته، الله أكبر عدد ما ذكره الذاكرون، الله أكبر عدد ما هلل المهللون وكبر المكبرون، الله أكبر عدد ما صام وأفطر الصائمون، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
أحمد لله وأشكره على عظيم فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله انفردَ بالخلق والتدبير، وكلُّ شيءٍ عنده بأجلٍ مُقدر.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضلُ من تعبد لله وصلى وزكى وصام وأفطر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه نعمَ الصحبُ والمعشر، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى واعرفوا فضلَه عليكم بعيد الفطرِ السعيد، وهو أول يومٍ من أيام الحج إلى بيته الحرام. وهذا العيد عظيم الشأن عند الله، ومما يدل على عظم شأنه أن الله قرنه بشعيرة عظيمة من شعائر الإسلام العامة التي لها جلالُها وروحانيتُها، وهي شهر رمضان؛ فجاء عيدُ الفطر مِسك ختامِه، وكلمة الشكر على تمامه.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
العيد معاشر الأحبة: مظهرٌ من مظاهر الدين، وشعيرةٌ من شعائره المعظمة وشعائر الدين: أي أعلامُه الظاهرة، التي تعبد الله بها عبادَه، وشعائر الدين، قد أمرنا الله تعالى بتعظيمها فقال: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]. إذن العيد شعيرةٌ تنطوي على حِكم عظيمةٍ، ومعانٍ جليلة، وأسرارٍ بديعة لا تعرفها الأمم في شتى أعيادها.. فهو موسمُ الفضل والرحمة وله معانٍ كثيرة منها..
فالعيد في معناه الديني شكرٌ لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب، ولكنها تعتلجُ في سرائرِه رضاً واطمئناناً، وتنبلجُ في علانيته فرحاً وابتهاجاً.. قال العلماء: "إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين"..
ويَظْهَرُ الفرحُ والسرور في العيد في أعمالٍ بدنيةٍ وماليةٍ ينبغي للمسلم عملها، تظهر وتبرز في المجتمع الإسلامي، وما اسْتحبابُ التكبير والتهليل والتحميد صبيحة العيد ورفع الصوت بها تعظيمًا وإجلالاً لله في كل مكان عند انتهاء صومهم إلا شيء من ذلك؛ فتمتلئ الآفاق تكبيرًا وتحميدًا وتهليلاً رجاءَ رحمةِ اللهِ، وخوفَ عذابه، وإحياءً لسنة نبيهم.
ومن معاني العيد الدينية أيضاً تقديم زكاة الفطر قبل صلاة العيد للفقراء والمحتاجين لتغنيهم عن السؤال في هذا اليوم، وحتى يشاركوا بقية المسلمين بالفرح في عيدهم، وقد رُويَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسند ضعيف: «أَغْنُوهُمْ عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ» وما تحريم صيام يوم العيد وفرض الاجتماع لصلاة العيد بالمصليات، وغيرها من الأعمال والمستحبات إلّا للتأكيد على أهميةِ إظهار العيد بمعناه الديني فلله الحمدُ ربِ العالمين..
ومن معاني العيد الدينية أنه يوم المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور وتبادل التهاني فيه، ويومُ الأصدقاء يجدد فيهم أواصر الحب ودواعي القرب، ويومُ النفوس الكريمة تتناسى أضغانَها، فتجتمع بعد افتراق، وتتصافى بعد كدر، وتتصافح بعد انقباض، ويجتمع الناس فيه في تواؤم على الطعام وهو من شعائر الإسلام التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال شيخ الإسلام.. وفي هذا كله تجديدٌ للرابطة الاجتماعية على أقوى ما تكون من الحب، والوفاء، الإخاء.
والعيد في معناه الزمني قطعةٌ من الزمن خُصصَت لنسيان الهموم، واطراحِ الكُلفِ، واستجمامِ القوى الجاهدة في الحياة.. مهما كانت ظروفُ الأمةِ؛ فالفرحُ بالعيدِ والأنسُ به تعبدٌ لله نحن مأمورون به.. ولا يعني نسيانَ قضاينا وجراحِنا النازفة، وهذا من عظمة هذا الدين وكماله...
الله أكبر
والعيد في معناه الاجتماعي: يومُ الوالدين يجدد فيه الأولادُ ما خبا من مظاهر البر، ويذكون في نفوسِهم مشاعرَ الامتنان؛ فقد قضى ربنا سبحانه قضاءً دينياً وأمر أمراً شرعياً أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا إِيَّاهُ، وقضى بالإحسان إلى الوالدين بجميعِ وجوهِ الإحسان القولي والفعلي لأنهما سببُ وجودِنا، ولهما من المحبة للولد والإحسانِ إليه والقربِ منه ما يقتضي تأكدَ الحقِ ووجوبَ البرِ...
ولقد أوضحَ اللهُ للأمةِ أهميةَ رابطةِ الأسرةِ ببذرتِها الأولى حيث جعلها الرابطةَ الثانيةَ بعد رابطةِ العقيدة، فقال محدداً لأهمها وهو برُ الوالدين: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..) [الإسراء:23]. وهذا الطلب للإحسان إليهما إعلانٌ لقيمة هذا البر عند الله..
وأكد هذا الإحسانَ بصورةٍ موحية فقال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) وهذا التعبيرُ الشفافُ اللطيفُ الذي يبلغُ شِغافَ القلب وحنايا الوجدان.. جعل الرحمةَ ترقُ وتلطفُ حتى لكأنها الذلُ الذي لا يرفعُ عيناً، ولا يرفضُ أمراً..! وكأنما للذلِ جناحٌ يخفضُه إيذاناً بالسلام والاستسلام. (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) نعم إنها الذكرى الحانيُة.. ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان.. وهما اليوم في مثلِها من الضعفِ والحاجةِ إلى الرعايةِ والحنان.. ومن أعظمِه التوجهُ إلى الله أن يرحمَهما؛ فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب، وهو أقدر على جزائهما بما بذلا مما لا يقدرُ على جزائِه الأبناء..
الله أكبر...
وجعل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البر بهما سببًا لدخول الجنة، فقَالَ: «رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ» قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ». رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِمْتُ، فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا.؟ قَالُوا: هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ" فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ" وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ. رواه أحمد وغيره عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وإسناده صحيح.
الله أكبر..
والعيد أيها الأحبة في معناه الاجتماعيُ كذلك: يومُ الأرحامِ يجمعُها على البرِ والصلة، بعدما قطعها بعضنا بسبب أمور دنيوية.! وكيف نقطعها ورَسُولُنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ" فماذا أجابَها.؟ "قَالَ: نَعَمْ".! نعم نَزَّلَهَا اللهُ مَنْزِلَةَ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ، وَأَدْخَلَهُا فِي ذِمَّتِهِ وَخِفَارَتِهِ، فما أعظمَهُ من منزل، وما أقواه من جوار؛ فَجَارُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْذُولٍ وَعَهْدُهُ غَيْرُ مَنْقُوضٍ.. وَلِذَلِكَ خَاطَبَها اللهُ فقَالَ: "أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ".. رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وقد أكد اللهُ بكبريائه وعظمته هذا الجوارَ والخفارةَ، ونادى نداءً عظيماً، يزلزلُ القلوبَ الواعيةَ ويُفزِعُها، ويوقظُ الأحاسيسَ الراقدةَ ويهزُها.. يقول الرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا اللَّهُ.. وَأَنَا الرَّحْمَنُ.. خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْماً مِنْ اسْمِي؛ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُه أَو قال: بَتَتُّهُ. رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.
ثم علقها الرحمنُ الرحيمُ بعرشِه الكريمِ وأذن لها أن تدعو «تَقُولُ: مَنْ وَصَلَني وَصَلَهُ اللهُ، ومن قَطَعَنِي قَطَعَهُ الله». أخرجه البخاري ومسلم.
أيها الأحبة: هل بعد هذا التحذيرِ والتهديدِ والوعيدِ الشديدِ من القطيعةِ يبقى لذي عقل من فسحةٍ.؟ وهل له من حجةٍ مقبولةٍ يحتجُ بها أمام ربه، ويخرج من هذا الجوارِ الرباني والخفارةِ الإلهية.؟
الله أكبر الله أكبر...
إذاً إئذنوا لي بهذا النداء.. أيها الإخوة، أيتها الأخوات، أيها الأبناء، أيتها البنات: أدعوكم وأناديكم في هذا اليومِ العظيمِ، ونحن على إثرِ عبادةٍ عظيمةٍ، وفي يومٍ عظيمٍ من أيامِ الله.. ومن هنا من منبرِ الحقِ منبرِ رسولِ الله، أدعوكم وأرجوكم، نعم أرجوكم -رجالاً ونساءً صغارًا وكبارًا- أن ترفعوا شعارًا في هذا العيدِ تبادرون به كلََّ أبٍ وأمٍ وكلَ ذي رحمٍ من الأولاد والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبناؤهم..
ليقل كلُ عاقٍ أو قاطعٍ أو مقصرٍ لأبيه: أبي أريدُ برك فسامحني وأعني.. وليقل لأمه: أمي أريدُ برَك فسامحيني وأعينيني.. وليقل لكلِ واحدٍ من قرابته أخي أختي عمي عمتي خالي خالتي ابن عمي أريد صلتكم فأعينوني وتَقَبْلُونِي.. عفوت عنكم لله فاعفوا عني لله.. رجاءَ عفوِ الله تعالى القائل: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40] عفوتُ وصفحتُ امتثالاً لأمرِ ربِنا، ورجاءَ مغفرتِه، فهو القائل: (..وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور:22] فمن كان بينه بين قريب له أي خلاف فليبادر بهذا العيد السعيد وليقل: عفوت، أنا أحب أن يغفر الله لي..
الله أكبر الله أكبر...
أما ما يتعللُ به بعضُنا من أعذارٍ مثل قولهم: كرامتي أهينت، أو أنا لا أستطيع غصبٍ عليَّ، ومستحيل أنسى.. إلى آخر القائمة السوداء من المعاذيرِ غيرِ الصحيحةِ..
أقول لكم بلا تحفظ: ألقوها في زبالةِ الماضي القاطعِ الآثم..
وابشروا بالعفوِ والمغفرةِ والرضوان.. والوصلِ من الرحيم الرحمن.. والأجور الكثيرة من الكريمِ ذي الامتنان.. والبركة في العمر والمال والأهل والأوطان.. فقد قال سيد الأنام: إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ؛ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ لِيَكُونُوا فَجَرَةً فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تَوَاصَلُوا، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَتَوَاصَلَونَ فَيَحْتَاجُونَ. رواه ابن حبان وقال الألباني حسن لغيره، وفي لفظ عند غيره: مَا مِنْ ذنبٍ أجدرُ أن يُعَجلَ اللهُ لصاحبِه العقوبةَ مع ما يدخرُ له في الآخرةِ من قطيعةِ الرحمِ والخيانةِ والكذبِ، وإن أَعجلَ البرِ ثواباً لصلةُ الرحمِ حتى إن أهلَ البيتِ ليكونوا فقراءَ فتنموا أموالُهم ويَكْثُرُ عددُهم إذا تواصلوا". وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. رواه البخاري.
الله أكبر الله أكبر
وفي العيد يُهدي الناسُ بعضُهم إلى بعضٍ هدايا القلوبِ المُخلصةِ المُحِبة، وكأنما العيدُ روحُ الأسرةِ الواحدةِ في الأمةِ كلِها.
في العيدِ تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلدُ العظيم وكأنه لأهله دارٌ واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي.
في العيد تنطلقُ السجايا على فطرتها، وتبرزُ العواطف والميولُ على حقيقتها.
والعيد مع ذلك كله ميدانُ استباقٍ إلى الخيرات، ومجالُ منافسةٍ في المكرمات.
إذا السرُّ في العيد ليس في يومِهُ الذي يبتدئُ بطلوع الشمس وينتهي بغروبها، وإنما السرُّ فيما يُعْمَرُ به ذلك اليومِ من أعمالٍ، وما يَغْمُرُه من إحسانٍ وأفضالٍ، وما يغشى النفوسَ المستعدَّةَ للخير فيه من سموَّ وكمال؛ فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في العيد, لا اليومُ نفسُهُ.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله...
أيها الأحبة: عيدكم مبارك وعيدكم سعيد، افرحوا بعيدكم أفراحًا كثيرة؛ فرحة بفضل الله ورحمته، وكريم إنعامه، ووافر عطائه، وفرحة بالهداية يوم ضلت فئام من البشر عن صراط الله المستقيم، وللعيد فرحةٌ بتوفيق الله وعونه على ما يسر من صيام وقيام وصدقة وتلاوة للقرآن.
الله أكبر الله أكبر...
أيها الإخوة والأخوات: يأتي العيدُ وأمتُنا تعاني من جراحاتٍ غائرة وأزماتٍ حالكة وأحوالٍ قاهرة.. فكم في أمتنا من شريدٍ وطريد، وكَمِدٍ كئِيب، قد افترش الهم وتوسد القلق، وحسيرٍ وكسير قد غصَ بريقِه وخنقتُه عبرته.. قد ادلهمَ بنا الخطبُ وهُنَّا على الناس هواناً عظيماً.. وتداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلُة على قصعتها..
ومع ذلك كلِه نحن متعبدون بأن نفرح بعيدنا ونبتهج به.. ولن نتلقاه بهممٍ فاترةٍ، ولا حسٍّ بليد، ولا شعورٍ بارد، ولا أسَارِيرَ عابسة، ففي ديننا ولله الحمد فسحةٌ وللعيد صبغةٌ روحيَّة تؤثِّر ولا تتأثَّر.
ولئن كان من حق العيد أن نَبْهَج به ونفرح، ونتبادل به التهاني، ونطّرحَ الهموم، ونتهادى البشائر.. فإن حقوقَ إخواننا المشردين المعذبين شرقاً وغرباً تقضى أن نحزن لمحنتهم ونغتم، ونُعْنَى بقضاياهم ونهتم؛ فالمجتمع السعيدُ الواعي هو ذلك الذي تسمو أخلاقُه في العيد، إلى أرفع ذروة، ويمتدُ شعوره الإنساني إلى أبعد مدى، وذلك حين يبدو في العيد متماسكاً متعاوناً متراحماً، حتى لَيَخْفِقُ فيه كلُ قلب بالحب والبر والرحمة، ويذكرُ فيه أبناؤه مصائب إخوانهم في الأقطار حين تنزل بهم الكوارث والنكبات.
ولا يراد منا تَذْراف الدموع، ولبس ثياب الحداد في العيد، ولا يراد منا أن نعتكف مرزوئين بفقد إخواننا، ونمتنع عن الطعام، كما يفعل الصائم.
وإنما يراد منا أن تظهر أعيادُنا بمظهر الأمة الواعية، التي تلزم الاعتدال في سَرَّائِها وضَرَّائِها؛ فلا يَحُوْلُ احتفاؤها بالعيد دون الشعورِ بمصائبها التي يرزح تحتها فئامٌ من أبنائها.
هكذا أُمِرنا يا أهلنا في غزة وسوريا وبروما والعراق ويا كلَ أخٍ لنا في شدة وضيق.. فأفق الإسلام أوسع من آفاقنا ولا سواء بيننا وبين أعداءنا.. (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) [النساء:104] وقتلانا إن شاء الله من شهداء وقتلاهم في النار ومصابنا مأجور ومصابهم معذب مقهور..
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وأتبعوا صيام رمضان بست من شوال؛ فقد حث على ذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله".
ومن جاء مع طريق يشرع له أن يعود مع طريق آخر كما هي سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم إن هؤلاء عبيدك أتوك راغبين بعفوك، اللهم لا تفض جمعهم إلا بمغفرة ذنوبهم، وحقق لكل واحد منا ما تمنى من خيري الدنيا والآخرة من غير إثم أو قطيعة رحم.
[/font][/size]
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق