خطبة عيد الفطر" أخلاقُنا يومَ العيدِ"
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، شرعَ لعبادهِ أسبابَ الفرحِ والسعادةِ والحمدِ والشكرِ في يومَيِ العيدين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ، عزيزٌ عليهِ عَنَتُ المؤمنينَ، حريصٌ عليهِم، وهو بهِم رؤوفٌ رحيم.
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ الميامين، وعلى التابعين، ومن تبعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد
فيا عبادَ الله: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ وعبادَتِهِ، والمداومةِ على طاعتهِ، ومجانبةِ معصيتهِ ومُحَادَّتِه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله، واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
معاشِرَ المؤمنين: يومُ العيدِ يومٌ مِنْ أيَّامِ اللهِ المباركة، تتجَلَّى فيهِ أخلاقُ المسلمِ الحَقَّة، وتبرُزُ فيهِ النُّفُوُسُ السَّامِيَةُ، وتنكَشِفُ معادنُ الأرواحِ الأصيلةِ.
يومُ العيدِ يومُ امتحانِ القلوبِ التي يَتَبَيَّنُ لَيِّنُهَا مِنْ قاسِيها، ورحيمُهَا مِنْ غَليظِها، وسليمُها مِنْ سَقِيمِها.
ففي يومِ العيدِ يظهرُ التواضعُ ذلكمُ الخُلُقُ الذي يعتَزُّ من يتصِفُ بهِ، ويعلو شأنهُ، وترتفعُ مكَانَتَهُ، ففي يومِ العيدِ يتواضعُ المسلمونَ لبعضِهِم، ويكونونَ بمستوىً واحدٍ، يبادرونَ بعضَهُم بالمحبَّةِ واللقاءِ، والسلامِ والدعاءِ؛ وهكذا هو المسلِمُ ينبغي أنْ يكونَ ذلِيلًا لإخوانِهِ المسلمينَ، كما قالَ جلَّ شأنُهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ
لَائِمٍ) ففي تفسيرِ " أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " مَعَانِي الرأفةِ والرحمةِ واللِّين، قال بن عبَّاسٍ –رضيَ اللهُ عنهما: (هم للمؤمنينَ كالوالِدِ للوَلدِ والسَّيِدِ للعَبد).
وكانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم يدعو ويقولُ: "اللهمَّ أحيِنِي مِسكِينًا وأمِتنِي مِسكِينًا واحشُرنِي في زُمرَةِ المساكِين" رواهُ الحاكمُ عن أبي سعيد رضي الله عنه وصححه الألبانيُّ.
وفي يومِ العيدِ يسقُطُ إِعجَاب كلِّ امرئٍ بنفسِهِ، وينبُذُ الأنانيةَ وحُبَّ النَّفْسِ، ويَمْتثِلُ كلَّ خُلُقٍ مُنْجٍ، ويَدَعُ كلَّ خُلُقٍ مُهْلِكٍ، قالَ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: (فأمَّا المُهْلِكَاتِ: فشُحٌّ مطاعٌ، وهوىً مُتَّبعٌ، وإعجابُ
المرءِ بنَفْسِه" رواه البَزَّارُ وغيره عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنهُ وحسَّنَهُ الألبَانيُّ.
وفي يومِ العيدِ يظهرُ الحُبُّ والتآخِي بينَ المسلمينَ؛ لأنَّ لُحمَتَهُم العقيدةُ؛ واللهُ يقول: (وكُونُوا عِبادَ اللهِ إِخوانًا) ويقولُ جلَّ شأنُه: (إنَّمَا المؤمِنُونَ إِخوَةٌ) وهذا الخُلُقُ من الغِرَاسِ الذي غَرَسَهُ وسَقَاهُ محمدٌ صلى الله عليهِ وسلَّمَ في أُمَّتِه، وبَيَّنَ صورتَهُ فقالَ: (مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهِم وتراحُمِهِم وتَعَاطُفِهِم مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشتكى منهُ عضوٌ تداعى لَهُ سائِرُ الجسدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى) رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
وفي يومِ العيدِ يكونُ التكافلُ ظاهراً جليّاً بأحسَنِ صُوَرِهِ، وأجملِ أحوَالِهِ، فالكلُّ يُطعِمُ الفقيرَ والمسكينَ بزكاةِ الفطرِ قبلَ صلاةِ العيدِ، وحتى في زمنِ كورونا، وامتثالِنا بالاجراءاتِ الاحترازيةِ والتعليماتِ التنظيميةِ؛ امتدتْ أيادي المسلمينَ عبر المنصّاتِ الالكترونيةِ؛ يُفرِّجونَ كُرْبةً، ويخرجونَ زكاةً، ويطرقونَ كلَّ أبوابِ الخيرِ ببهجةٍ وانشراحِ صدرٍ وفرح، فلا مُحتَاجٌ ولا مَعُوزٌ، ولا مدفوعٌ بالأبوابِ ولا ممنوعٌ من كلَّ ما لذَّ وطاب.
وفي يوم العيد تكونُ التهاني وتُتَبادلُ الدعواتُ، وقد يسَّرها اللهُ عبرَ أجهزةِ الاتصالِ في هذه الأوقات، فهذه الأيامُ استثنائيةٌ حتّى تنفرجَ كُربةُ كورونا، وتنكشفَ غُمّتُها بإذن الله، وبهذا التواصلِ تتقاربُ النفوسُ المتباعدةُ، وتلتئمُ الأرواحُ المتنافرةُ، ويأخذُ الحديثُ مجرَاهُ وشؤونَهُ، وتُتَنَاقَلُ الأخبارُ والأوضاع، وتُعرَفُ الأَحوَالُ والحَوائِج، فكم من حاجَةٍ قُضِيَت بعدَ تواصلِ العيدِ، وكمْ من شَفَاعةٍ حصَلَت، وكم من كُربَةٍ نُفِّسَت، وكم من مُشكِلَةٍ حُلَّت، ألا ما أعظمكَ من يومٍ مباركٍ، فحَقًّا إنَّ يومَ العيدِ يومُ التعاونِ والتآزرِ، والمجتمعُ الذي يفشُو فيهِ التعاونُ ويظهرُ؛ لا يضيعُ ولا يَفْشَلُ، وتَقِلُّ فيهِ أحوالُ الشَّاكِينَ، وتّضْمَحِلُّ القلاقِلَ والشدائد، وصدقَ اللهُ إذْ يقولُ: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وصَدَقَ رَسُولَهُ الكريم صلى الله عليهِ وسلَّم إذْ يقولُ: (المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيان يشدُّ بعضَهُ بَعضًا) رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ والسنةِ، ونفعَنَا بما فيهما مِنْ الآياتِ والحِكْمَةِ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من جميعِ الذنوبِ والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّ ربي لغفورٌ رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على نِعَمِه المتتاليةِ، والشكرُ له على فضائله السابقةِ والتاليةِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ أما بعدُ:
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر المؤمنين: وفي يومِ العيدِ يأتي وقتُ العفوِ والصفحِ والتسامحِ والتنازلِ، ودمحِ الزَّلَّاتِ، ونسيانِ الأخطاءِ والخطيئاتِ يقولُ الحقُّ تعالى:(وليعفو وليصفحوا ألا تحبُّون أنْ يغفر الله لكم) ويقولُ جلَّ شأنُه:( الذين ينفقون في السراءِ والضراءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافين عن الناسِ والله يُحبُ المحسنين) ويقولُ عزَّ مِنْ قائل:(وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها فَمَنْ عفا وأصلحَ فأجرُه على اللهِ إنّه لا يُحبُّ الظالمين)
وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ : (وما زاد اللهُ عبداً بعفوٍ إلا عِزَّا) رواه مسلم، وقيل لأبي الدَّرداءِ رضي الله عنه: مَنْ أعزُّ الناسِ؟ فقالَ: " الذين يعفون إذا قَدِروا، فاعفوا يُعِزُّكم اللهُ تعالى" وقالَ الحسنُ بنُ عليٍّ رضي اللهُ عنهما: " لو أنَّ رجلاً شتمني في أُذني هذه واعتذر لي في أُذني الأُخرى لقبلتُ عُذْرَه" وعنه أيضاً قالَ " أفضلُ أخلاقِ المؤمنِ العفو"
وفي العفوِ ــ عبادَ الله ــ رحمةٌ بالمسيءِ، وتقديرٌ لِجَانِبِ ضَعْفِه البَشرِيِّ، وامتثالٌ لأمرِ اللهِ، وطلبٌ لعفوِه وغفرانِه، وفيه توثيقٌ للروابط الاجتماعيةِ التي تتعرضُ إلى الوهنِ والانفصامِ بسببِ إساءةِ بعضهمِ إلى بعضٍ، وجنايةِ بعضِهم على بعضٍ، كما أنَّ العفوَ والصفحَ سببٌ لنيل مرضاتِ الله سبحانه وتعالى، وهو سببٌ للتقوى: (وأنْ تعفوا أقربُ للتقوى) بل هو مِنْ صفاتِ المتقين، وفيه راحةٌ نفسيَّةٌ، وطمأنينةٌ داخليَّةٌ، وبِهِ تُنالُ العِزَّةُ والثِّقةُ بالنَّفسِ، ويَحْصُلُ شَرَفُها ورِفْعتُها ومحبتُها عند اللهِ وعندَ الناسِ.
وفي يومِ العيدِ تَعْظُم الأُلْفةُ بين المسلمين؛ تلكمُ النِّعْمَةُ التي امتنَّ اللهُ بها عليهم إذْ يقولُ: (واذكروا إذْ كنتم أعداءً فألّفَ بينَ قلوبِكم فأصبحتم بنعمتِه إخوانا) وهذه الألفةُ هي الركيزةُ التي تجعلُ المجتمعَ واثقاً بأبنائه ورجالِه، ومستعدّاً للعَمِلِ الجماعيِّ، وللعطاءِ والإنتاج، والمؤمنُ من طبعِه أنْ يكونَ أليفاً مألوفاً، قالَ عليه الصلاة والسلامُ: (المؤمنُ يَألفُ ويُؤلفُ، ولا خيرَ فيمن لا يَألفُ ولا يُؤلفُ، وخيرُ الناسِ أنفعُهُم للناسِ) صححه الألباني.
إنَّ العيدَ ــ عبادَ الله ــ حقّاً يُظهرُ أخلاقَنا، ويُجلِّي حقائقَنا، فَمَنْ مرَّ عليه العيدُ ولم يُظْهِرْ أخلاقَ الإسلامِ؛ فقد فَقَدَ شيئاً عظيماً من تعاليمِ دينه العظيمِ.
وإلى أخوتي المسلماتِ أتوجّه أسوةً بالحبيبِ صلواتُ ربي وسلامُه عليه فأقولُ: أنتنَّ حصنٌ حصينٌ للمجتمعِ المسلم، أنتنَّ نصفُ المجتمعِ، وولدتنَّ نِصْفه، وأنتنَّ ترعينَ المجتمعَ كلَّه؛ فأنتنَّ الأمهاتُ والبناتُ والأخواتُ والزوجاتُ، حفظَ كرامَتَكنَّ الإسلامُ يومَ أنْ ضَيْعَتَها البَشريةُ، وأعلى شأنَكُنَّ الإسلامُ يومَ أنْ وَضَعَكُنَّ أهلُ الجاهليةِ، وصانَكنَّ شرعُ اللهِ يومَ أنْ أهانَكُنَّ أهلُ الشهواتِ والأغراضِ الدنيَّةِ، فلكُنَّ في شرعِ الله مكانةٌ عليّةٌ، وقيمةٌ لا تدانيها قيمةٌ، فاللهَ اللهَ ارْعيْنَ هذه النِّعْمَةِ، واحفظنَ هذه القيمةَ، فما تخلّتْ عنها امرأةٌ إلا ذلّتْ، ولا فرّطتْ بها فتاةٌ إلا احْتُقِرَتْ وازدُريتْ، والواقعُ شاهدٌ، والتاريخُ يحكي لكنَّ خبرَ الماضياتِ، ومصيرَ المُتنكِّفاتِ.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
(إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)
حسام بن عبدالعزيز الجبرين
خطبة رائعة.. جزاكم الله خيراً
تعديل التعليق