خطبة عيد الأضحى 1440

عبدالله البصري
1440/12/07 - 2019/08/08 13:18PM
خطبة عيد الأضحى 1440
الخطبة الأولى :
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ ...
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم - أَيُّها النَّاسُ - وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّنَا في يَومٍ عَظِيمٍ وَعِيدٍ كَريمٍ ، جَعَلَهُ اللهُ أَعظَمَ الأَيَّامِ عِندَهُ ، وَخَتَمَ بِهِ عَشرًا مَعلُومَاتٍ ، هِيَ أَفضَلُ أَيَّامِ العَامِ ، وَبَدَأَ بِهِ أَيَّامَ العِيدِ الأَربَعَةَ ، الَّتي جَعَلَ فِيهَا شَعَائِرَ وَحَثَّ عَلَى تَعظِيمِهَا ، وَجَعَلَهُ عَلامَةً عَلَى تَقوَى القُلُوبِ ، قَالَ - سُبحَانَهُ - : " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ " وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " أَيَّامُ التَّشرِيقِ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ وَذِكرٍ للهِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " أَعظَمُ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ يَومُ النَّحرِ ، ثُمَّ يَومُ القَرِّ " رَوَاهُ أَبُودَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ . اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّنَا في دَارِ امتِحَانٍ وَاختِبَارٍ ، أَوجَدَنَا اللهُ - تَعَالى - فِيهَا لِغَايَةٍ شَرِيفَةٍ ، أَرسَلَ إِلَينَا مِن أَجلِهَا الرُّسُلَ ، وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكُتُبَ ، وَقَامَ مِن أَجلِهَا سُوقُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَانقَسَمَ النَّاسُ بها إِلى مُتَّقِينَ وَفُجَّارٍ ، قَالَ - سُبحَانَهُ : " وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونَ " وَقَالَ - تَعَالى - : " وَلَقَد بَعَثنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعبُدُوا اللهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ "
أَجَل - أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَا خَلَقَ اللهُ الخَلقَ إِلاَّ لِعِبَادَتِهِ ، وَمَا أَوجَدَهُم عَلَى هَذِهِ الأَرضِ إِلاَّ لِتَوحِيدِهِ " أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ " وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ ، كَانَ المُوَفَّقُ مِنَ الخَلقِ مَن سَلَّمَ الأَمرَ لِلخَالِقِ ، وَقَصَرَ نَفسَهُ عَلَى عِبَادَتِهِ وَحدَهُ مُخلِصًا لَهُ الدِّينَ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ نُصبَ عَينَيهِ في كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ ، وَدَامَ عَلَيهِ حَتى يَلقَى رَبَّهُ الَّذِي إِلَيهِ يُرجَعُونَ " قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ " وَلَكِنَّ الشَّيطَانَ الرَّجِيمَ قَد أَخَذَ عَلَى نَفسِهِ عَهدًا أَن يُضِلَّ بَنِي آدَمَ وَيَصرِفَهُم عَمَّا خُلِقُوا لَهُ ، وَأَن يُوقِعَهُم في أَلوَانٍ مِنَ المَيلِ وَالانحِرَافِ " قَالَ فَبِمَا أَغوَيتَنِي لأَقعُدَنَّ لَهُم صِرَاطَكَ المُستَقِيمَ . ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِن بَينِ أَيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمَانِهِم وَعَن شَمَائِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكثَرَهُم شَاكِرِينَ "
وَإِنَّ مِن كَيدِهِ أَن يَتَّخِذَ لَهُ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَعوَانًا مِنَ المُجرِمِينَ ، يَتَآمَرُونَ لإِخرَاجِ النَّاسِ مِن عُبُودِيَّتِهِم لِرَبِّ العَالَمِينَ ، وَيَتَعَاوَنُونَ على إِيقَاعِهِم في عُبُودِيَّاتٍ شَيطَانِيَّةٍ مُختَلِفَةٍ ، تَكتَنِفُهَا الشُّبُهَاتُ ، وَتَجُرُّ إِلَيهَا الشَّهَوَاتُ ، وَتُغرِقُ النَّاسَ فِيهَا المُلهِيَاتُ ، فَيَنصَرِفُونَ عَنِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، وَيَأخُذُونَ عَنهُ يَمِينًا وَشِمَالاً مُتَفَرِّقِينَ ، مَاضِينَ في بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ المُختَلِفَةِ ، آخِذِينَ بِمَسَالِكِ الضَّلالِ المُلتَوِيَةِ . وَأَنتُم تَرَونَ هَذَا - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَتَلحَظُونَ تَرَاجُعَ النَّاسِ وَتَقصِيرَهُم حِينًا بَعدَ حِينٍ ، وَفُتُورَهُم وَضَعفَ تَمَسُّكِهِم بِالدِّينِ ، يُقَلِّدُ بَعضُهُم بَعضًا في التَّفَلُّتِ مِمَّا يُرِيدُهُ اللهُ ، وَيَتَتَابَعُونَ في التَّسَاقُطِ فِيمَا يُرِيدُهُ الشَّيطَانُ وَأَعوَانُهُ ، غَافِلِينَ أَو مُتَغَافِلِينَ عَن كَونِ كُلِّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت رَهِينَةٌ ، وَأَنَّ كُلَّ مُسلِمٍ مُلزَمٌ بَأَن يَأتِيَ بِمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ وَأَن يَكُفَّ عَمَّا نَهَاهُ عَنهُ ، وَأَنَّ مَن أَحسَنَ فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا ، وَأَنَّ تَفرِيطَ الآخَرِينَ وَغَفلَتَهُم مَهمَا طَالَت أَو كَثُرَت ، وَجَهلَهُم بِرَبِّهِم وَمُخَالَفَتَهُم لِلحَقِّ مَهمَا عَظُمَت وَاشتَدَّت ، فَلَيسَ ذَلِكَ عُذرًا لأَحَدٍ في أَن يُفَرِّطَ في وَاجِبٍ أَو يَقَعَ في مَنهِيٍّ عَنهُ استِئنَاسًا بِهِم ، وَلا مُسَوِّغًا لَهُ لِيَحِيدَ عَنِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ تَشَبُّهًا بِهِم ، فَكُلٌّ سَيُوضَعُ في قَبرِهِ وَحدَهُ ، وَلَن يَجِدَ أَمَامَهُ إِلاَّ مَا عَمِلَتهُ يَدُهُ ، وَكُلٌّ سَيُبعَثُ وَحِيدًا فَرِيدًا ، وَسَيُحَاسَبُ عَمَّا اكتَسَبَ وَاقتَرَفَ ، وَمَهمَا كَثُرَتِ الشُّبُهَاتُ ، أَو غَلَبَتِ الانحِرَافَاتُ ، أَو رُوِّجَ لِلفَتَاوَى البَاطِلَةِ وَأُبرِزَتِ الآرَاءُ السَّاقِطَةُ ، أَو حُرِّضَ عَلَى التَّمَرُّدِ عَلَى أَحكَامِ الشَّرعِ ، وَمُكِّنَ مَن لا يَعلَمُ مِنَ الحَدِيثِ في الدِّينِ ، فَإِنَّ الحَقَّ وَاضِحٌ لِلمُوَفَّقِينَ ، وَأَهلُ الذِّكرِ مَا زَالُوا مَوجُودِينَ مَعرُوفِينَ ، وَاللهُ قَد أَمَرَ أَن يُسأَلُوا وَتُؤخَذَ عَنهُم أَحكَامُ الدِّينِ ، فَيَتَبَيَّنُ مَا يَجِبُ لِيُفعَلَ ، وَمَا يَجُوزُ لِيُؤتَى ، وَمَا يَحرُمُ لِيُجتَنَبَ ، وَتَستَبِينُ سَبِيلُ المُجرِمِينَ وَالمُضِلِّينَ لِتُحذَرَ . أَجَل - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - لَيسَتِ العِبرَةُ بِانتِشَارِ البَاطِلِ وَشُيُوعِهِ وَكَثرَةِ ارتِكَابِ النَّاسِ لَهُ ، وَلَكِنَّ العِبرَةَ بِالحَقِّ في ذَاتِهِ وَبِمَا دَلَّ عَلَيهِ الدَّلِيلِ ، قَالَ - سُبحَانَهُ - : " وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصتَ بِمُؤمِنِينَ " وَقَالَ – تَعَالى - : " وَإِن تُطِعْ أَكثَرَ مَن في الأَرضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ " ثم إِنَّ إِيمَانَ العَبدِ بِرَبِّهِ وَعُبُودِيَّتَهُ لِخَالِقِهِ ، لَيسَت لُعبَةً يُجَرِّبُ فِيهَا الرِّبحَ أَوِ الخَسَارَةَ ، وَلَكِنَّهَا نِعمَةٌ مِنَ اللهِ وَهِبَةٌ وَمِنَّةٌ " بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَن هَدَاكُم لِلإِيمَانِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ " وَمِن ثَمَّ كَانَ الوَاجِبُ شُكرَ هَذِهِ النِّعمَةِ ، وَبَذلَ مَا يُثَبِّتُهَا وَيُقَوِّيهَا مِن عِلمٍ نَافِعٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ وَتَقوَى للهِ ، وَلَيسَ البَحثَ عَمَّا يُزِيلُهَا أَو يُضعِفُهَا مِن شُبُهَاتٍ يَبُثُّهَا المُنحَرِفُونَ وَالمُنَافِقُونَ ، أَو شَهَوَاتٍ يُسَهِّلُ الوُصُولَ إِلَيهَا الفُسَّاقُ وَالمُنحَلُّونَ ؛ فَإِنَّ أَعظَمَ الخَسَارَةِ خَسَارَةُ الدِّينِ " فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَحْ صَدرَهُ لِلإِسلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجعَلْ صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجعَلُ اللهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَالحَذَرَ الحَذَرَ مِن مُجَانَبَةِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ أَو تَركِ شَيءٍ مِنَ الدِّينِ ، اغتِرَارًا بِتَميِيعٍ يَفرِضُهُ طَوَاغِيتُ العَالَمِ بِدَعوَى العَولَمَةِ أَوِ الانفِتَاحِ عَلَى الآخَرِ ، أَو رَدَّةَ فِعلٍ مُعَاكِسَةً لِغُلُوِّ مَن تَشَدَّدَ ، أَوِ اتِّبَاعًا لِهَوَى النَّفسِ وَمُجَارَاةً لِلمُتَسَاهِلِينَ وَالمُفَرِّطِينَ . إِنَّ التَّوَسُّطَ مَطلُوبٌ ، وَنَحنُ أُمَّةٌ وَسَطٌ " وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " وَلَكِنَّ الوَسَطِيَّةَ لَيسَت خِيَارًا يَأخُذُ بِهِ المَرءُ مِن تِلقَاءِ نَفسِهِ تَشَهِّيًّا ، أَو طَرِيقَةً يَختَارُهَا لَهُ أَقزَامُ الإِعلامِ وَمُهَرِّجُو وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ ، أَو سَبِيلاً يُحَدِّدُ مَعَالِمَهُ مَن بَاعُوا دِينَهُم طَمَعًا في حَفنَةٍ مِنَ الدُّنيَا أو رضًا بِشُهرَةٍ ، وَلَكِنَّهَا في اتِّبَاعِ الشَّرعِ المُبِينِ ، القَائِمِ عَلَى الدَّلِيلِ مِن الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهمِ الرَّاسِخِينَ ، الَّذِينَ تَعَلَّمُوا العِلمَ لِلعَمَلِ ، وَعَرَفُوا الخِلافَ لِلأَخذِ بِالرَّاجِحِ وَمَا دَلَّ عَلَيهِ الدَّلِيلُ ، وَعُرِفُوا في أَنفُسِهِم بِخَشيَةِ اللهِ وَالخَوفِ مِنهُ ، وَأَمَّا المُتَسَلِّقُونَ عَلَى الإِفتَاءِ ، الَّذِينَ يَعرِضُونَ الخِلافَاتِ لِيُضَيِّعُوا الأَحكَامَ الشَّرعِيَّةَ ، فَلا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ يَخشَى اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ أَن يَأخُذَ عَنهُم ، كَيفَ وَقَد أَخبَرَنَا بِهِم وَحَذَّرَنَا مِنهُمُ الصَّادِقُ المَصدُوقُ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - حَيثُ قَالَ : " سَيَكُونُ في آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُم بمَا لم تَسمَعُوا أَنتُم وَلا آبَاؤُكُم ، فَإِيَّاكُم وَإِيَّاهُم " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " ثم جَعَلنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهوَاءَ الَّذِينَ لا يَعلَمُونَ . إِنَّهُم لَن يُغنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَاللهُ وَليُّ المُتَّقِينَ " اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
الخطبة الثانية :
 
اللهُ أَكبرُ كَبِيرًا ، وَالحَمدُ للهِ كَثِيرًا ، وَسُبحَانَ اللهِ بُكرَةً وَأَصِيلاً .
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، واعلَمُوا أَنَّكُم في أَيَّامِ عِيدٍ وَبِرٍّ وَتَوَاصُلٍ وَتَرَاحُمٍ ، فَبَرُّوا وَالِدِيكُم وَصِلُوا الأَرحَامَ ، وَأَفشُوا السَّلامَ وَأَطعِمُوا الطَّعَامَ ، وَأَحسِنُوا إِلى جِيرَانِكُم وَإِخوَانِكُم ، جَمِّلُوا عِيدَكُم بِالتَّصَافُحِ وَتَصَالَحُوا ، وَاقضُوا حُقُوقَ بَعضِكُمُ اليَومَ وَتَسَامَحُوا ، قَبلَ أَن تَقضُوهَا غَدًا مِن حَسَنَاتِكُم رُغمًا عَنكُم " يَومَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعذِرَتُهُم " ثم تَذَكَّروا - رِجَالاً وَنِسَاءً - أَنَّ مِن أَجَلِّ غَايَاتِ الإِسلامِ أَن يُقِيمَ مُجتَمَعًا طَاهِرًا ، لا تُهَاجُ فِيهِ الشَّهَوَاتُ وَلا تُستَثَارُ الغَرَائِزُ ؛ وَمِن ثَمَّ جَاءَ بِتَنظِيمِ عِلاقَةِ الرَّجُلِ بِالمَرأَةِ ، وَاعتَنى بِشَأنِ زِينَتِهَا ، وَحَرَّمَ عَلَيهَا التَّبَرُّجَ وَالسُّفُورَ ، وَنَهَاهَا عَن بُرُوزِ رَائِحَةِ الطِّيبِ المُؤَثِّرَةِ ، وَحَذَّرَهَا مِنَ الخُضُوعِ بِالقَولِ وَمِنَ المِشيَةِ المُتَكَسِّرَةِ ؛ لأَنَّهُ مَتى استُثِيرَتِ الغَرَائِزُ وَهُيِّجَتِ الشَّهَوَاتُ ، فَلَن تَنتَهِيَ إِلاَّ إِلى سُعَارٍ شَهوَانيٍّ لا يَرتَوِي وَلا يَنطَفِئُ . وَمَيلُ الرُّجُلِ إِلى المَرأَةِ وَمَيلُهَا إِلَيهِ أَمرٌ فِطرِيٌّ ، وَالجَذبُ بَينَهُمَا مُستَمِرٌّ لا يَنقَطِعُ وَلا يَنتَهِي ، وَلِذَا فَإِنَّ مِن أَكذَبِ الكَذِبِ وَأَكبَرِ المَكرِ وَالخِدَاعِ ، أَن يُدَّعَى أَنَّ خُرُوجَ المَرأَةِ مِن بَيتِهَا ، وَاختِلاطَهَا بِالرَّجُلِ في السُّوقِ وَالعَمَلِ ، وَالمُسَاوَاةَ بَينَ الجِنسَينِ وَإِزَالَةَ الفَوَارِقِ بَينَهُمَا ، يُزِيلُ هَذَا التَّعَلُّقَ مِنَ القُلُوبِ ، أَو يُبَرِّدُ حَرَارَةَ الشَّوقِ في الصُّدُورِ ، فَانتَبِهُوا لِهَذِهِ الخَدعَةِ الصَّلْعاءِ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الإِسلامَ لم يُعَاكِسْ فِطرَةَ المَرأَةِ في حُبِّهَا التَّزَيُّنَ ، وَلم يَقِفْ دُونَ خُرُوجِهَا إِلى مَا تَحتَاجُ إِلَيهِ ، وَلَكِنَّهُ حَدَّدَ مَا يُبدَى مِنَ الزِّينَةِ وَلِمَن يَكُونُ التَّزَيُّنُ ، وَوَضَعَ لِخُرُوجِهَا مِن بَيتِهَا شُرُوطًا وَقُيُودًا ، فَإِذَا تَفَلَّتَت مِن هَذِهِ الشُّرُوطِ وَالقُيُودِ ، وَتَعَدَّتِ الأَحكَامَ الشَّرعِيَّةَ وَالحُدُودَ ، وَخَرَجَت سَافِرَةً مُتَبَرِّجَةً مُتَعَطِّرَةً ، وَخَالَطَتِ الرِّجَالَ وَتَمَرَّدَت عَلَى وَلِيِّهَا ، وَسَافَرَت بِلا مَحرَمٍ ، كَانَ ذَلِكَ مِن أَعظَمِ أَسبَابِ الفِتنَةِ لها وَبها .
وَقَد عَلِمَ أَعدَاؤُنَا أَنَّ صِيَانَةَ المَرأَةِ مِن أَعظَمِ أَسبَابِ قُوَّةِ المُجتَمَعِ ، وَأَنَّ فَسَادَهَا مِن أَخطَرِ وَسَائِلِ هَدمِهِ وَتَدمِيرِهِ ، فَرَاحُوا يُخَطِّطُونَ لإِفسَادِهَا وَتَدمِيرِ أَخلاقِهَا ، وَنَزعِ الحَيَاءِ عَن وَجهِهَا لِتَتَمَرَّدَ عَلَى مُجتَمَعِهَا ، وَاستَغَلُّوا لِذَلِكَ مُختَلِفَ الوَسَائِلِ وَالمَحَافِلِ ، تَحتَ شِعَارَاتٍ خَدَّاعَةٍ ، بِاسمِ الدِّفَاعِ عَن حُقُوقِ المَرأَةِ ، وَالدَّعوَةِ إِلى حُرِّيَّتِهَا وَمُسَاوَاتِهَا بِالرَّجُلِ ، وَنَصرِهَا أَوِ الانتِصَارِ لها ،، وَيَا للهِ ! مَا أَعظَمَ كَذِبَهُم وَتَلبِيسَهُم وَخِدَاعَهُم ! وَهَل ذَاقَتِ المَرأةُ الحُرِّيَّةَ في غَيرِ الإِسلامِ ؟! فَالإِسلامُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ النِّسَاءَ شَقَائِقَ الرِّجَالِ ، وَقَدَّرَ المَرأَةَ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً ، وَأُمًّا وَزَوجَةً وَبِنتًا ، وَقَدَّمَ بِرَّ الأُمَّهَاتِ عَلَى بِرِّ الآبَاءِ ، وَجَعَلَ عَائِلَ البَنَاتِ رَفِيقًا لِلنَّبيِّ في الجَنَّةِ ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " اِستَوصُوا بِالنِّسَاءِ خَيرًا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمُ . وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " أَكمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحسَنُهُم خُلُقًا ، وَخِيَارُكُم خَيَارُكُم لِنِسَائِهِم " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " مَن عَالَ جَارِيَتَينِ حَتى تَبلُغَا ، جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَينِ ، وَقَرَنَ بَينَ أَصبُعَيهِ السَّبَابَةِ وَالوُسطَى " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
فَيَا أَهلَ الإِسلامِ ، وَاللهِ مَا أَرَادَ الإِسلامُ لِلمَرأَةِ إِلاَّ العِفَّةَ وَالسِّترَ وَالحَيَاءَ ، وَلا حَرَّمَ عَلَيهَا التَّبَرُّجَ وَالسُّفُورَ ، وَفَرَضَ عَلَيهَا الحِجَابَ وَالقَرَارَ في البَيتِ ، إِلاَّ لِصِيَانَتِهَا وَحِمَايَتِهَا وَحِفظِهَا ، وَلِئَلاَّ تَتَطَلَّعَ إِلَيهَا الأَعيُنُ الخَائِنَةُ ، وَلا تُدَنِّسَ عِرضَهَا الأَيدِي النَّجِسَةُ ، إِنَّهَا لُؤلُؤَةٌ مَكنُونَةٌ وَدُرَّةٌ مَصُونَةٌ ، أَفَيَلِيقُ بها أَن تُلقَي في الطُّرُقَاتِ وَالشَّوَارِعِ عَامِلَةً كَادِحَةً ، أَو تُخَالِطَ العُمَّالَ في المَتَاجِرِ مُبتَذَلَةً مُهَانَةً ، تَبِيعُ حَيَاءَهَا وَهِيَ العَفِيفَةُ ، وَتُزَاحِمُ الرِّجَالَ وَهِيَ الضَّعِيفَةُ ، وَتَترُكُ حِفظَ بَيتِهَا وَهُوَ لها أَعظَمُ وَظِيفَةٍ ؟!
إِنَّ قَرَارَ المَرأَةِ في بَيتِهَا هُوَ صَلاحُهَا ، وَإِنَّ صَلاحَهَا هُوَ صَلاحُ المُجتَمَعِ ، وَأَمَّا التَّبَرُّجُ وَإِبرَازُ المَفَاتِنِ وَالتَّمَرُّدُ ، فَهُوَ عَلامَةُ غَضَبٍ وَسَخَطٍ مِنَ اللهِ ، وَلَمَّا عَصَى آدَمُ وَزَوجُهُ رَبَّهُمَا عَاقَبَهُما بِأَنْ بَدَت لَهُمَا سَوءَاتُهُمَا ، وَإِبلِيسُ هُوَ دَاعِيَةُ السُّفُورِ الأَوَّلُ ، وَاللهُ قَد حَذَّرَنَا مِنهُ فَقَالَ : " يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيطَانُ كَمَا أَخرَجَ أَبَوَيكُم مِنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوآتِهِمَا " وَمَا أَشَدَّ خَسَارَةَ المُجتَمَعِ إِذْ تَخرُجُ نِسَاؤُهُ مِنَ البُيُوتِ ، وَيُزَاحِمنَ الرِّجَالَ في الأَسوَاقِ وَأَمَاكِنِ العَمَلِ ، فَيُضِعْنَ الأَبنَاءَ ، وَيُقَلِّلْنَ فُرَصَ العَمَلِ عَلَى الشَّبَابِ ، وَتَحتَاجُ البُيُوتُ إِلى الخَدَمِ ، وَتَنقَطِعُ عُرَى التَّوَاصُلِ بَينَ أَفرَادِ الأُسرَةِ ، وَيَعِيشُ كُلٌّ لِنَفسِهِ عَبدًا لِدُنيَاهُ . وَمُجتَمَعَاتُ الغَربِ وَالشَّرقِ شَاهِدَةٌ بِالآثَارِ السَّيِّئَةِ لِخُرُوجِ النِّسَاءِ مِن بُيُوتِهِنَّ ، وَالسَّعِيدُ مَن وُعِظَ بِغَيرِهِ ، فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلْنَتَّعِظْ قَبلَ أَن يَحِلَّ بِنَا مَا حَلَّ بِالقَومِ فَنَندَمَ ، وَلاتَ سَاعَةَ مَندَمٌ ، اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .
المرفقات

عيد-الأضحى-1440

عيد-الأضحى-1440

عيد-الأضحى-1440-2

عيد-الأضحى-1440-2

المشاهدات 4593 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا