خطبة عن عمارة المساجد حسياً ومعنوياً
أيوب بن عبدالرحمن الثنيان
إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : إن من شعائر الله هذه المساجد التي أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه وإن تعظيمها وعمارتها علامة على الإيمان بالله واليوم الآخر ( إنما يعمُر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) ونفى سبحانه أن يبني هذه المساجد غير المؤمنين بناءاً حسياً ومعنوياً ( ماكان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ) .
عباد الله : عمارة المساجد معنوياً بالذكر والدعاء أهم من عمارتها بأدوات البناء والله امتدح سبحانه رجالاً بالتعبد بها وترك لهو الدنيا من أجل عمارتها طلباً لمرضاته ولما عنده من الثواب العظيم ( في بيوتٍ أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه يُسبح له فيها بالغدو والآصال رجالٌ لاتلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار * ليجزيهم الله أحسن ماعملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب )
ومن السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله رجلٌ قلبه معلّقٌ بالمساجد وهذا فضل ٌ كبير وأجرٌ وفير بعملٍ يسير .
عباد الله : وإن عمارة المساجد حسيّاً ببناءها وإعادة ترميمها وتسهيل السبُل لإقامتها وإصلاح المتهدم أو المتهالك منها من أجلّ الأعمال وهو من أسباب دخول الجنّة وفي حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من بنى مسجداً لله كمَفْحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتاً في الجنّة " أخرجه ابن ماجه ، والمراد بمفْحَص القطاة : أي مثل عشّ القطاة وهو نوع من الحمام لايبني عشّه إلا على بسيط الأرض بعكس الطيور الأخرى التي تبني أعشاشها على مرتفع من الأرض أو على التلال والأشجار وفي الصحيحين أن عثمان بن عفان أراد بناء وتوسيع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعَه على هيئته ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من بنى مسجداً لله بنى الله له في الجنة مثلُه " متفق عليه ، ولكن المكروه في عمارتها زخرفتها وتزيينها وعدّ ذلك النبيُ صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة ففي الحديث : " من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد " أخرجه الإمام النسائي وابن خُزيمة ، وفي حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لاتقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " أخرجه الإمام أحمد وأبوداود .
ومانُهي عن الزخرفة والتباهي بتزويقها وتزيينها إلا لمقصد شرعي وهو عدم إشغال المصلي بهذه الزخارف والنقوش التي تُشغله عن جوهر العبادة وهو الخشوع أو تصرف بصره للتأمل في هذه الزخارف والتزيينات على الجدران والأعمدة والمحاريب ، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " ماساء عمل قومٍ قط إلا زخرفوا مساجدهم " ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه : " يتباهون ثم لايعمرونها إلا قليلا " .
عباد الله : كان المسجد في صدر الإسلام هو مكان الصلاة والعلم والمعرفة والمدرسة والجامعة ومنطلق إرسال الجيوش في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومأوى للوفود والضعفة فكان كل شيء في حياة الرعيل الأول ولذا كانت أهميته عالية الشأن ، يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : " وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده على التقوى ، ففيه الصلاة والقراءة والذكر وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء وفيه يجتمع المسلمون لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم " بل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد كما ورد في الصحيحين ، وهذه سنّة مهجورة قلّ من يفعلُها في هذا الزمان .
عباد الله : إن من تعظيم المساجد عدم إلقاء المخلفات فيها ولو في حرم المسجد الخارجي وأحواشه فإن في ذلك امتهان لها وقلة حياء مع الله جل وعلا أو ترك مايجب إخراجه من قوارير وبواقي طعام ونفايات وغيرها ، وإننا وجدنا مع الأسف من يستخفي من الناس ولا يستخفي من الله فتجد أنه يتحايل لكي يدس مناديل حول المساند أو تحت الفرْش متعاجزاً ومتضايقاً ان يضع مخلفاته في جيبه الذي ضاق عنها ، وما ضاقت بيوت الله عنها ، فهل هذا عمل مسلم يخشى الله في السر والعلانية ، فهل يمثتل من يصنع هذا الصنيع لقول الله تعالى : ( فلا تخشوا الناس واخشون . . ) وإن الإتيان بالأطفال للمساجد ممن دون السابعة هو في الواقع من أذيّة المصلين فينبغي أن لايؤتى بالطفل ممن كان دون السابعة إلا من اضطر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بأن يؤمر الطفل بالصلاة إلا إذا بلغ السابعة ففي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عند أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع " فيؤمر إذا أتمّ السابعة وليس إذا دخل السابعة من عمُره وهذا ملحظٌ مهم للتمييز والفهم لمعنى الصلاة وإدراكها لدى الطفل .. فاللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا وذرياتنا ياسميع يامجيب أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
============== الخطبة الثانية ===============
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وأشهد أن لاإله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي لرضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه من أمته ون كان على ملته أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن تطييب المساجد وصيانتها من الأقذار والأوساخ سنة قائمة دعا لها المصطفى عليه السلام ففي حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تُنظّف وتُطيب " اخرجه أبودود والترمذي ، وفي حديث سمُرة بن جندب رضي الله عنه قال : " أمرنا رسول الله أن نتخذ المساجد في دارنا وأمرنا أن ننظفها " أخرجه الإمام أحمد رحمه الله ، والمقصود بالدور أي الأحياء والحارات في المدينة أياً كانت .
عباد الله : من عمارة المساجد المكوث فيها قبل وبعد الصلوات وكثرة الدعاء والذكر والتبكير للصلاة فيها والمسابقة على الصف الأول ، وهذا الأمر مع الأسف نشاهده بعض الأحيان في رمضان ، وتجد من عباد الله من آخر من يأتي للصلاة وأول من ينصرف وكأنه داخل المسجد في سجن وكبت والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم الناس مافي النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه ولو يعلمون مافي التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون مافي العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً " وهذا الحديث يبّيّن فضل التبكير للصلاة وإجابة النداء وإدراك الصف الأول حتى أنه لو علموا مافيه من الأجر والكرامة لتخاصموا حتى تُقام بينهم القُرعة لمن يكون الأجر والفضيلة ، وكذلك فضل التهجير والمراد به التبكير في الذهاب للمسجد وكذلك فضل صلاة العشاء والفجر خاصة فحُجب فضل هاتين الصلاتين عن الناس ليفوز المؤمن الصادق المُخلص الذي يرجو ما عند الله بقلبٍ راغب ونفسٍ مُجاهدة على الطاعة والخير ، فهل هناك وصفٌ للحرص على الشيء إذا عُرف ، أن يأتي طالبُه يحبو حبواً لنيله ، وهذا دليلٌ على أن تلك الكرامة والأجر فوق مايُتوقع ، وكما وصف الله جنته على لسان رسوله بوصفٍ لا أبلغ منه : " فيها مالاعينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر " فهل من مشمّر لتلك الكرامة الكبرى والأمنية الأسمى
دار السلام لها وصفٌ بتبيان * فازوا بها أهل إيمانٍ وإحسان
ينافسون لها والناس غافلةٌ * قد آثروا لذة الباقي على الفاني
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليما : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليما )