خطبة عنْ صاحب الجَنَّتين

محمد بن عبدالله التميمي
1446/06/17 - 2024/12/19 18:15PM

 

الخطبة الأولى

الحمد لله ربِّنا الأعلى، خلَقَ فسوَّى، وقدَّر فهدى، أحمده سبحانه على ما أَوْلَى، وأشهدُ ألَّا إله إلا اللهُ الوليُّ المولى، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله المصطفى، صلّى عليه الله ما هبَّ الصَّبَا وانْهَلَّ الحَيَا، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:

فاتَّقوا الله الَّذِي إِن قُلْتُمْ سمع، وَإِن أَضْمَرْتُم عَلِم، ولَا تكونوا مِمَّن يَرْجُو الْجنَّة من غير عمل، وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ لِطُولِ الأَمَل، { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ}.

عباد الله.. هذا الحقُّ الذي جاء به الوحيُ أَبْلَج، فيه الفلاحُ والرَّشَد، والنجاحُ والسَّعَد، وقد أوضح اللهُ للإنسانَ، وهَدَى وأَبَان {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وهو محاسَبٌ على اختياره ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، لِذا أَنْذَرَ اللهُ وخوَّف من الكفر، وما ينتظرُ الكافرَ الظالمَ -الظلمَ الأكبر- من سوء العقاب وسوءِ المنقَلَبْ، فقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾، ثم ثَنَّى بذكر جزاء من اختار الهدى ودين الحق، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾.

وزيادةً في الإيضاح ضَرَبَ الله مثَلًا يبين عاقبة من غَرَّهُ مالُه وأعماه سلطانُه، ولم يستجب لنصح الناصحين، ويذكر المثَلُ اعتزازَ المؤمنِ بِدينِه، واستعلاءَه على ملذَّاتِ الحياة وبهجتِها بإيمانه. فقال عزَّ مِنْ قَائِل: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} صاحبُ الجَنَّتَيْن كان كافرًا وله صاحبٌ مؤمن، وكان حالُ الكفَّارِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ شَبِيْهًا بِحَالِ صَاحِبِ الجَنَّتَيْن، وحَالِ رسولِ اللهِ ﷺ والمؤمنين شَبِيْهًا بِحَالِ الرَّجُلِ المؤمن الذي اجتهد في نصيحة هذا الرجل الكافر.

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا} وهو الكافر {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي: بُستانَينِ، وأحَطْنا هذين البُستانَينِ بنَخلٍ فحصل فيه من حسنِ المنظر، وبروزِ النخل الشجر، للشمس والرياح، فتَكْمُلُ وتَنْضَجُ الثمار، {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} أعلَمَ اللهُ سُبحانَه وتعالى أنَّ عِمارتَهما كامِلةٌ متَّصِلةٌ، فليس بين الجنَّتينِ مَوضِعُ خَرابٍ، فلم يَبْقَ إلا أنْ يُقال: كيف ثمارُ هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء يكفيهما؟ قال اللهُ عزَّ شأنه: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} أي: لم تنقص من ثمرها أدنى شيء، {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} فله ثمارٌ أُخَر وأموال كُثُر، {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أي: فقال مالِكُ الجَنَّتَينِ الكافِرُ لصاحِبِه المؤمِنِ تكبُّرًا وافتخارًا عليه: لي من المالِ أكثَرُ مِمَّا تَملِكُ، وأنا أكثَرُ منك أُناسًا يَنصُرونَني مِن الوَلَد والأَتْبَاع.

{وَدَخَلَ} الرَّجُلُ {جَنَّتَهُ} بُستانَه {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بالكُفرِ {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ} تفنى جنَّتي {هَذِهِ أَبَدًا} ؛ فهو مُنكِرٌ لِفَناءِ الدُّنيا وأنه لا بَعْثَ ولا حساب ولا جَزاء على كُفْرِهِ وتَكَبُّرِهِ والافتراء، لذا قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ومِنْ غُرُورِه أنْ قالَ: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} أي: ولو قُدِّرَ وافتُرِضَ أنَّني رُجِعْتُ إلى ربِّي فبعَثَني بعد موتي، لَأُعطَيَنَّ في الآخرةِ جَنَّةً خَيرًا مِن هذه الجنَّةِ التي أعطانيها في الدُّنيا، وهذا قاله تَهكُّمًا بصاحبه، وإلا فهو مكذِّبٌ بالبعث والجزاء.

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} المؤمِنُ {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} خلقَ أصلَك آدَمَ {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} عَدَلَك وكَمَّلَك، فصَيَّرك رجُلًا سَوِيًّا مُعتَدِلَ القامةِ والخِلْقةِ، صحيحَ الأعضاءِ، فالذي خلَقَك كذلك قادِرٌ على البَعثِ الذي أنت تُنكِرُه. {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: لكِنْ أنا لا أكفُرُ ولا أقولُ مِثلَ قَولِك، بل أقولُ: الذي يستَحِقُّ العبادةَ وَحدَه، هو الله ربِّي، ولا أعبُدُ أحدًا غَيرَه.

{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} يعني: أيُّ شَيءٍ شاء اللهُ كان {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} أي: لا قُوَّةَ لي على شَيءٍ إلَّا بإعانةِ اللهِ، ومِن ذلك إنشاءُ الجنَّتَينِ وعِمارتُهما، وتدبيرُ أمرِهما. فأرشده الله إلى أنْ يَخرُجَ مِنْ حَولِه، ويُوقِنَ أنَّ القوةَ لله، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يَشَأْ لَمْ يَكُن.

وبعضُ الناس إذا أعجبه شيء قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ولا صلَةَ للحسد بالآية، وإنما أهلك الله جَنَّتَيْهِ بِسَبَبِ كُفْرِه وطُغْيَانِه. بل المشروعُ هو ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذا رأى أحدُكمْ منْ نفسِه أو مالِه أو منْ أخِيِهِ ما يعجِبُه فليدعُ له بالبركةِ، فإنَّ العينَ حقٌّ" فيقول مَنْ رأى شيئا يُعجبه: أسأل الله لك البركة، بارك الله لك، بارك عليك، بارك فيك.

ثمَّ لَمَّا عَلَّم المؤمنُ صاحب الجنَّتين الكافر: الإيمانَ وتفويضَ الأمورِ إلى اللَّهِ سبحانَه؛ أجابَه على افتخارِه بالمالِ والنَّفَرِ، فقالَ: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} أي: احتقَرْتَني لمَّا رأيتَني أقَلَّ منك مالًا وأولادًا.

{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} أي: فلعَلَّ اللهَ ربِّي أن يَرزُقَني خَيرًا مِن بُستانِك الذي تفتَخِرُ به عليَّ  {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا}  أي: على جنتك وبُستانِك {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} عَذابًا من السَّماءِ، فتُصبِحَ أرضًا مُسْتويةً، جَرداءَ لا نباتَ فيها، ملساءَ لا تَثبُتُ عليها قَدَمٌ {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا} ماءُ النَّهرِ الذي يَسْقي بستانَك {غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} غائرًا ذاهبًا في الأرضِ، فلن تَقدِرَ على طَلَبِ الماءِ واستِخراجِه.

أسأل الله تعالى أن يُوزعَنا شُكرَ نِعَمِه، وحُسنَ عبادته، وأسْتغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمين أجمعين، وهو أرحم الراحمين.  


 

الخطبة الثانية

الحمد لله وليِّ المؤمنين، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له من العالَمين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فلَمْ يَمْضِ وقتٌ طَوِيْلٌ حتى تَحَقَّقَ ما خوَّف منه الرجلُ الصالح، قال الله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}، فتَلِفَت أشجارُه، وزُروعُه، وثِمارُه، فنظر هذا الرجل الكافرُ نظرة الآسِف الحزين: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} حَسرةً وندامةً {عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ واقفٌ يَنْدَمُ على ما كان منه ويقول: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾.

ولَمَّا افتخر الكافرُ بكثرةِ مالِه، وعِزَّةِ نَفَرِه؛ أخبرَ الله تعالى عنه فقال {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فلم تكُنْ له جماعةٌ تنصُرُه، ولا كانَ هو مُنتَصِرًا ومُمتَنِعًا بنفسِه مِن عذابِ اللهِ؛ لأن الله هو القوي القادر.

لَمَّا أنتج هذا المثَلُ قَطعًا أنَّه لا أمرَ لغيرِ الله المرجوِّ لنَصرِ أوليائه بعد ذُلِّهم، ولإذلالِ أعدائِه بعدَ عِزِّهم وكِبرِهم، قال الله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} في ذلك المقامِ، وتلك الحالِ، النُّصرةُ لله المعبودِ الحَقِّ وَحدَه، لا يملكُها غيرُه.

{هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} فاللهُ أفضَلُ جَزاءً لأهلِ طاعتِه في الدُّنيا وفي الآخرةِ، وعاقِبةُ طاعتِه خيرٌ مِن عاقبةِ طاعةِ غيرِه.

وفي هذه القِصَّةِ العَظيمةِ اعتِبارٌ بحال الذي أنعم اللهُ عليه نِعَمًا دُنيويَّةً، فألهَتْه عن آخِرتِه وأطغَتْه، وعصى اللهَ فيها؛ أنَّ مآلَها الانقِطاعُ والاضمِحلالُ، وإنَّ ما فيه الكفارُ مِن النعيم المعجَّل ليس أهلًا لأن يُفتخرَ به؛ لأنَّه إلى زوالٍ.

المرفقات

1734621293_خطبة عن صاحب الجنتين.docx

1734621294_خطبة عن صاحب الجنتين.pdf

المشاهدات 541 | التعليقات 0