خطبة عن حفظ القلب [من مدارج السالكين لابن القيم عدا ما بين معقوفتين]

محمد بن عبدالله التميمي
1444/05/21 - 2022/12/15 21:44PM

الخطبة الأولى

الحمد لله العظيم الجليل، أقام على معرفته أوضحَ دليل، وعرَّف السالكين إليه أهدى سبيل، ومنَّ علينا بالفضل العظيم والعطاء الجزيل، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله نزل على قلبه الروحُ الأمين جبريل، فأسمعه كلامَ ربِّه القرآنَ هدًى للناس من التضليل، وشفاءً لما في الصدور من الشرك والشك والتجهيل، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وكلِّ تابعٍ على الأثر يسير، أما بعد:

[فاتَّقُوا الله عباد الله، وتحققوا بما به تُنالُ التقوى وتَنبُت، وتَرسُخ وتَثبُت، وتزيد درجات، وتسلم من الآفات، إنه بتلاوة الآيات، وتدبُّرِ المعاني والاعتبار بالعظات]، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقربُ إلى نجاته من تدبُّر القرآن وإطالة التأمُّل له، وجَمْعِ الفكرِ على معاني آياته، فإنها تُطْلِعُ العبدَ على معالم الخير والشرِّ بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتَتُلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبِّت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيِّد بُنيانه وتوطِّد أركانه، وتريه صورة الدُّنيا والآخرةِ والجنةِ والنارِ في قلبه، وتُحْضِرُه بين الأمم وتُرِيْه أيّام الله فيهم، وتُبصِّرُه مواقعَ العِبَر، وتُشهده عدلَ الله وفضلَه، وتُعرِّفَه ذاتَه وأسماءَه وصفاتِه وأفعالَه، وما يحبُّه وما يبغضه، وصراطَه الموصلَ إليه، وما لسالكيه بعد القدوم عليه، وقواطعَ الطريق وآفاتِها، وتعرِّفه النفسَ وصفاتِها، ومفسداتِ الأعمال ومصحِّحاتها، وتعرِّفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالَهم وأحوالهم وسيماهم، ومراتبَ أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسامَ الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه وافتراقهم فيما يفترقون فيه.

وبالجملة تُعرِّفُه الربَّ المدعوَّ إليه، وطريقَ الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.

وتُعرِّفُه في مقابل ذلك ثلاثةً أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

عباد الله.. [إنه القرآن الكريم والذكر الحكيم] لا تزال معانيه تُنهضُ العبد إلى ربِّه بالوعد الجميل، وتحذِّره وتخوِّفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثُّه على التخفُّف للقاء اليوم الثقيل، وتَهديه في ظُلَمِ الآراءِ والمذاهبِ إلى سواء السبيل، وتَصدُّه عن اقتحام طرقِ البدعِ والأضاليل، وتَبْعَثُه على الازدياد من النِّعم بشكر ربِّه الجليل، وتُبَصِّرُه بحدود الحلال والحرام وتَقِفُه عليها لئلَّا يتعدَّاها فيقع في العناء الطَّويل، وتُثبِّت قلبه عن الزيغ والميل عن الحقِّ والتّحويل، وتسهِّل عليه الأمور الصِّعاب والعقبات الشاقَّة غاية التسهيل، وتناديه كلَّما فترت عزَمَاتُه وَوَنَى في سيره: تقدَّم الرّكبُ وفاتَك، فاللَّحاقَ اللَّحاق، والرحيلَ الرحيل! وتحدو به وتسير أمامه سيرَ الدليل، وكلَّما خرج عليه كمينٌ من كمائن العدوِّ أو قاطعٌ من قطّاع الطّريق نادَتْه: الحذرَ الحذر! فاعتصِمْ بالله واستعن به وقُل: حسبي الله ونعم الوكيل.

[اعلموا عباد الله] أنّه لا نعيمَ ولا لذّةَ ولا ابتهاجَ ولا كمالَ إلَّا بمعرفة الله ومحبَّته، والطُّمأنينةِ بذكره، والفرحِ والابتهاج بقُربه، والشَّوقِ إلى لقائه؛ فهذه جنَّته العاجلة، كما أنَّه لا نعيم له في الآخرة ولا فوز إلَّا بجواره في دار النعيم في الجنَّة الآجلة؛ فله جنّتان لا يدخل الثانية منهما إن لم يدخل الأولى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.

عباد الله.. [هذا الهدى لا يَسْلَمُ صاحبُه من الزيغ والردى، إلا بتوثيق الحِمَى، مما يُكدِّرُ الصفو، ويُبهتُ الزَّهْو، من مفسداتٍ للقلب تَعْطُب على المدى، فالشيطان يتدرج بالمرء خطواتٍ تُوهن القُوى، { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}] فأول ذلك: كثرةُ الخُلْطَة، فإن امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم يوجب له تشتُّتًا وتفرُّقًا، وهمًّا وغمًّا وضعفًا، وحملًا لما يعجِز عن حمله من مؤنة قرناء السُّوء، وإضاعةِ مصالحه والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسيمِ فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟

هذا، وكم جلبت خُلطة الناس مِن نقمة، ودفعت من نعمة، وأحلَّت من رزيَّة، وأوقعت في بليَّة؟ وهل آفة النّاس إلَّا الناس؟ وهل كان على أبي طالبٍ عند الوفاة أضرُّ من قرناء السُّوء؟ لم يزالوا به حتَّى حالوا بينه وبين كلمةٍ واحدةٍ توجب له سعادة الأبد.

وهذه الخلطة التي تكون على نوعِ مودَّةٍ في الدُّنيا وقضاءِ وَطَرِ بعضهم من بعضٍ تنقلب إذا حقَّت الحقائق عداوةً، يَعَضُّ الـمُخالطُ عليها يديه ندمًا، {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.

والضابط النافع في أمر الخلطة أن يخالط الناس في الخير، ويعتزلهم في الشّرِّ وفضول المباحات، فإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشرِّ فالحذرَ الحذرَ أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعةً لله إن أمكنه، وليستعن بالله تعالى ويؤثِّر فيهم من الخير ما أمكنه. فإن عجَّزته المقادير عن ذلك، فليَسُلَّ قلبه من بينهم كسَلِّ الشعرة من العجين، وما أصعبَ هذا وأشقَّه على النُّفوس، وإنَّه ليسير على من يسَّره الله عليه، فبين العبد وبينه أن يَصدُقَ الله ويديم اللَّجأ إليه، ويُلقي نفسه على بابه طريحًا ذليلًا. ولا يعين على هذا إلّا المحبَّةُ الصادقة والذِّكرُ الدّائم بالقلب واللِّسان.

[هذا وإن الخُلطة عباد الرحمن في هذا الزمان قد تعددت صورها وكَثُرَت أحوالها، فما مواقع التواصل التي يتحول أحدنا فيها من موقع لآخر، ومن حساب لثانٍ، إلا كمجالس يحضرها، واجتماعات يشهدها، بما فيها من خيرٍ وشر، ونفعٍ وضُر، بل يَجْرُأُ الواحد عبر مواقع التواصل على ما لا يجرُأُ عليه لو كان ببدنه مما يخالف أمرا، أو يرتكب فيه نهيا، أو يخدشُ حياءً، أو يُخلُّ بمروءة، فذلك مؤثِّرٌ على القلب ومُفسدٌ له ومغيِّرٌ ومكدِّر، والله تعالى بكل شيء عليم، وعلى كل شيء شهيد، والواجب أن يتخلق مريدُ الرضوان بصفات عباد الرحمن، والتي منها: { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}].

اللهم اجعلنا من أهل القرآن، واحفظ قلوبنا من الزيغ يا حفيظ يا منان، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا رحيم يا رحمن.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أنعم علينا بالنعمة السابغة فأنزل القرآن، هدًى للناس وبينات من الهدى والفرقان، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بلغ ودعا قولا وفعلا فكان خُلُقُه القرآن، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، وأعظموا الصلة بالله، والتعلق به، والحذرَ الحذرَ من التعلُّق بغير الله، فذلك أعظم مفسدات القلب، فإنَّه إذا تعلَّق بغير الله وَكَله الله إلى من تعلَّق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله بتعلُّقه بغيره والتفاته إلى سواه، فأعظم الناس خِذلانًا من تعلَّق بغير الله، ومثل المتعلِّق بغير الله كمثل المستظلِّ من الحرِّ والبَرْد ببيت العنكبوت أوهن البيوت.

[وإن من المفسدات، ركوب بحرِ الأمنيات]، الذي يركبه مفاليس العالم، وبضاعة ركَّابه مواعيد الشياطين وخيالات المحال والبهتان، وكلٌّ بحسب حاله، مِن مُتمنٍّ للقدرة والسُّلطان، أو للضّرب في الأرض والتَّطواف في البلدان، أو للأموال والأثمان.

وصاحبُ الهمَّة العليَّة أمانيه حائمةٌ حول العلم والإيمان، والعملِ الذي يقرِّبه من ربِّه ويُدْنِيه من جواره، فأمانيُّ هذا إيمان ونور، وأمانيُّ أولئك خَدْعٌ وغرور.

المرفقات

1671129872_خطبة عن حفظ القلب.docx

1671129873_خطبة عن حفظ القلب.pdf

المشاهدات 1629 | التعليقات 0