خطبة عن حسن الخاتمة -رزقنا الله إياها-

عبدالرحمن السحيم
1444/11/12 - 2023/06/01 16:39PM

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذَ به أعاذ. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا مزيدا. أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللَّهَ –عباد الله- حَقَّ التَّقْوَى، فَأَعْمَارُكُمْ تَمْضِي، وَآجَالُكُمْ تَدْنُو (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) . (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)

أيها المسلمون: إن الله -تعالى- جعل لكل إنسان عمراً واحداً من عمر هذا الزمن الدنيوي، وأبهم عنه مقدارَ نصيبِه من هذه الحياة الموقوتة؛ ولهذا يظل المسلم اليقظ دائمَ الانتباه، حاضر الاستعداد لملاقاة أجله، واستيفاء عمره على هذه الدنيا فيما ينفعه حين رجوعه إلى ربه.

هذا الحس الساهر يبعده عن سِنة الغفلة، والقعود عن التهيؤ ليوم المعاد؛ فيكون عند ذلك من المسارعين على الصراط المستقيم.

عباد الله: إن الحديث عن الخاتمة حديث تشرئبُّ إليه الأعناق المؤمنة، وتقف له القلوب الحية؛ لأنه حديث عن النهاية، وحديث عن المرحلة الأخيرة من سفر الدنيا، وحديث عن الحال التي سيقابل بها كل إنسان ربه، فهي الصفحة الأخيرة من دفتر الحياة، وعليها ختم السعادة أو الشقاوة.

فلأجلها ولما بعدها بقيت سبلُ الخيرِ آهلةً بالعاملين، وظل المؤمنُ قريباً من ربه يتقرب إليه، ويتضرع بين يديه، ولأجلها شمّر المشمرون، وجدّ العابدون

أيها المسلمون: إن أعمال الإنسان في حياته -صالحة كانت أم سيئة- تظهر نتائجها واضحة جلية عند مماته، فمن عاش على شيء مات عليه، ويمنّ اللهُ بالستر على كثير من الخلق، وقد أثر عن كثير من السلف -رحمهم الله- الخوف من الخاتمة. كان سفيان الثوري يشتد قلقه فيبكي ويقول: "أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت".

عباد الله: إن الأعمالَ بالخواتيم، والأيامَ بالعواقب، وإن الخواتيمَ ميراثُ السوابق، فمن أدمن على معصية خُشي أن تُقبض روحه وهو مواقعها.

أخرج البخاري من حديث سهل قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالخواتيم"، قال ابن رجب -رحمه الله-: أي: "صلاحها وفسادها، وقبولها وعدمه، بحسب الخاتمة". (ومن مات على شيء بعث عليه) كما جاء في الحديث ولهذا كانت قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم يقولون: بماذا يختم لنا؟!

فالحذر الحذر -عباد الله- من الذنوبِ صغيرِها وكبيرِها حتى لا يخذل العبد عند موته،   

خَلِّ الذُنُوبَ صَغِيرَها، وَكَبِيرَهَا؛ ذَاكَ التُّقَى!     وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أرْضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى؛           لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى

قال ابن أبي جمرة عن الخاتمة: "هذه هي التي قطعت أعناق الرجال، مع ما هم فيه من حسن الحال؛ لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم".

وقال الحافظ عبدالحق الأشبيلي -رحمه الله-: "واعلم أن لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسبابًا، ولها طرق وأبواب، أعظمها الانكباب على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والإقدام والجرأة على معاصي الله -عز وجل ".

وقال -رحمه الله-: "واعلم أن سوء الخاتمة إنما تكون لمن له فساد في الأصل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غَلب عليه ذلك، حتى ينزل به الموتُ قبل التوبة، فيأخذَه قبل إصلاح الطوية، ويصطلم قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله".

أيها المؤمنون: هناك أمور تدعو وتدفع إلى التقوى وإصلاح الحال مع الله والمسارعة إلى الخيرات ومجانبة المحرمات، ومن هذه الأمور: محبة الله والحياء منه وتعظيمه ومعرفته ورجائه والخوف منه، ومن ذلك: الخوف من الخاتمة، فيخشى المرء أن تُقبض روحه على حال لا ترضيه يوم لقاء الله.

قال عبد العزيز بن أبي داود: "حضرت رجلاً عند الموت يلقن الشهادة، لا إله إلا الله، فقال آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر". وكان عبد العزيز يقول: "اتقوا الذنوب؛ فإنما هي التي أوقعته".

وآخر قبضت روحه وهو في جريمة الزنا، وآخر قبضت روحه وهو سكران، فشتان شتان بين هؤلاء وبين المستعدين للآخرة طول حياتهم! فإذا جاءهم الموت خُتم لهم بخير ، كمن قبضت روحه وهو ساجد لله تعالى، ومن قبضت روحه وهو صائم، ومن قبضت روحه وهو يلهج بذكر الله،

وإن الناظر إلى حال بعض الناس ليرى الغفلة المطبقة عن الاهتمام بالخاتمة الحسنة، فهناك لتضييع وهجران لأعمال الآخرة، مع جد ونصب وحرص على أعمال الدنيا وملهياتها.  

عباد الله: إن الأعمال الصالحة هي الدليل إلى حسن الخاتمة، وعلى العكس إن الأعمال السيئة هي الدليل إلى الخاتمة السيئة، والعياذ بالله.

وإن من علامات خذلان الله للعبد: أن يسمع العبد بمثل هذه القصص، وتقع أمام ناظريه، ثم لا يتوب ولا يتذكر، أين نحن من عباد الله المخلصين، الذين صدقوا الله في حياتهم، فثبتهم الله عند مماتهم –كما نحسِبهم-؟! فها هو طاوس بن كيسان -رحمه الله- يموت وهو حاج يلبي، وها هو مجاهد بن جبر -رحمه الله- يموت وهو ساجد في مصلاه، ولما حضرت زكريا بن عدي الوفاة، رفع يديه وقال: "اللهم إني إليك لمشتاق".وها هو يحيى بن عمار يموت وهو يفسر سورة القيامة. وهذه من المبشرات، ولا نجزم بشيء لمعين، لكننا نرجو للمحسن، ونخشى على المسيء، روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبدا عسَّله" قالوا: ما عسَّله؟ قال:"يفتح الله عليه عملا صالحا ثم يقبضه عليه". نسأل الله من واسع فضله ورحمته، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأتباعه إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. 

أمّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله حقَّ تقوَاه، وسَارِعوا دائمًا إلى مَغفرتِه ورِضاه، فقَد فَاز وسَعدَ من أقبَلَ على مولاَه، وخَابَ وخسِر مَن اتَّبَعَ هَواه وأعرَض عَن أُخراه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

أيها المسلمون: حسن الخاتمة لا يُشترى بالمال، ولا يُنال بمجرد الآمال، من أراد حسن الخاتمة، وطيَّ آخر صفحة من صحيفة العمر ليلقى ربه سعيداً؛ فليكن صافي العقيدة، خالص النية، صالح القلب. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار" متفق عليه. ومن أراد حسن الخاتمة فليحرص على الاستقامة والإيمان وليداوم على الأعمال الصالحة من بر وصلاة وصدقة وذكر وإحسان، ليحرص على عبادات الخفاء، وليكن صادقًا مع الله دائم الصلة به، وليقلع عن الأعمال السيئة بدون تسويف، فإن جاءه الموت أتاه على خير حال، وانتقل إلى ربه أحسن انتقال.  من أراد حسن الخاتمة فليحرص على أعمال القلوب وحسن الظن بالله الرؤوف، وليكثر من الدعاء بالثبات على دين الله، والدعاء بحسن الخاتمة، (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)

وبعدُ يا كرام: فهناك الكثير يرجون حسن الخاتمة، ويدعون بذلك، ولكن؛ كيف يرجو حسن الخاتمة من هو منهمك في الخطايا مستهين بها، بل ويجاهر بها ويدعو إليها؟!  وهو مع هذا مضيعٌ للفرائض والواجبات.

إن الإصرارَ على الذنوبِ قد يحول بين المسلم وبين حسن الخاتمة، فالمعصية قد تخون صاحبها في أحلك الظروف وأشد المواقف، ولا أضرَّ على العبد من حضورها حين مغادرة الحياة الدنيا إلى الآخرة.

كيف يرجو حسن الخاتمة من طال أمله وساء عمله، وهو يمنِّي نفسه بالعمل الصالح، والأوبة إلى الله من العمل السيئ عندما يشيب، أو يتزوج، فمن يضمن للإنسان أن يصل إلى هذه الأماني؟ فإن المنيةَ كثيراً ما تسبق الأُمنية. ولنا في من مات من أقراننا عظة وعبرة.

كيف يرجو حسن الخاتمة من يتكل على رحمة الله دون أن يعمل ويقول: الله غفور رحيم، وينسى أن عذابه هو العذاب الأليم! وأن أسعد الناس برحمته أهل طاعته، كما قال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) 

ولا يعني هذا يا عباد الله أن الإنسان يصبح من المعصومين، إنما المراد أن يجاهد نفسه في البعد عن المعصية، وألا يستهين بها، فإذا وقع فليسارع بالتوبة النصوح، والعمل الصالح، وليكرر التوبة الصادقة كلما عاد إلى المعصية. يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف ** ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف

أبشر بقول الله في آياته ** (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً.  اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،

اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..

عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

1685626747_حسن-الخاتمة.doc

1685626755_حسن-الخاتمة.pdf

المشاهدات 1493 | التعليقات 0