خطبة عن اليتم والحرمان
د.صالح العبداللطيف
1437/12/22 - 2016/09/23 07:13AM
الحمد لله المحمودِ بجميع المحامد تعظيمًا وثناءً.. المتصفِ بصفات الكمال عزةً وكبرياءً..المستحق للحمد والثناء.. يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء.. نحمده سبحانه ونشكره.. ونتوب إليه ونستغفره.. أفاض علينا مِن جزيل آلائه أمنًا وإيمانًا.. وأسبغَ علينا من كريم ألطافه مَنًّا وإحسَانا.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له.. عزَّ ربًّا رحيمًا رحمانًا.. وجلّ إلهًا كريمًا منّانًا.. وأشهَد أنّ نبينا وسيدنا محمّدًا عبد الله ورسوله.. بعثه للعالمين رحمةً وأمانًا.. وأنار به الطريقَ هدًى وفرقانًا.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ وسلّم تسليمًا كثيرًا.. أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس: يا إيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا.. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم..ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً
إليك أيها اليتيم.. إليك أيها المحروم.. إليك أيها المكلوم.. إليك أيها المغترب.. إليك أيها المكترب.. إلى الأرامل والمطلقات.. إليكم جميعاً أبثُّ هذه الكلمات..
أعلموا أيها الأفاضل.. أن الحرمان والحاجة.. ليست عيباً بذاتها.. إنما العيب هو في التسليم لها.. والإذعان لأحكامها..
وإن المرء لتأخذه الشفقةُ والرحمة.. وهو يرى ذلك اليتيم.. يتهادى بين البيوت.. ويتقلبُ بين الأحضان.. تلسعُ قلبَه الصغيرَ.. كلماتُ التقريع.. وتجرح فؤادَه المكلومَ.. نظراتُ التحقير..
وإن القلب ليتقطع ألماً وهو يشاهد تلك الأرملة.. التي تقوم على صبية لها.. تعاني معهم الجوعَ والحرمان.. والتهميشَ والخذلان..
يخفِقُ قلبُها.. مع كل طارق يطرق بابَها.. ترجو من ورائه لقمة تسد جوعتَها.. وجوعةَ صبيتها.. وتأملُ بمحسنٍ يدفع عنها أذية مؤجرها..
أيها الكرام.. إن كل ما تقدم ليس هو المشكلةُ بذاتها.. فهذه أقدار الله على عباده.. ولا راد لقضائه جل جلاله..
إنما المشكلة في الاستسلام لهذه الحال.. والقبول بها.. وانتظار المشفق المحسن.
وإن المرء حينما ينظرُ في التاريخ.. ويتأملُ عبرَه وعظاتِه.. ودروسَه ودرَرَه.. ليعلم علماً يقينياً.. أن الفاقة والمعاناة.. تحمل في طياتها التفوقَ والنجاح.. ذلك لمن أراد أن يستفيدَ من دروس الأيام..
فعظماءُ العالم عبر التاريخ.. كثيراً ما يجمعهم اليتمُ والحرمانُ في بداية نشأتهم.. حيث لا عضيد ولا معين.. فينشأ المرء معتمداً بعد الله على نفسه.. يفجر طاقاتِها.. ويستغلُ إمكانياتِها..
ويأتي على قمة هؤلاء الأيتام.. رسولُ الرحمة ونبيُ الملحمة.. صلى الله عليه وسلم.. الذي قال الله عنه.. ألم يجدك يتيماً فآوى.. ووجدك ضالا فهدى.. ووجدك عائلاً فأغنى..
ولد هذا العظيمُ يتيماً.. حيث مات أبوه وهو في بطن أمه.. ثم أرضعته حليمةٌ السعدية.. ثم ذهبت به أمه لزيارة أخواله في المدينة.. وفي طريق العودة إلى مكة.. توفيت الأمُّ بالأبواء.. وهو ابنُ ست سنين.. ثم كفلَه جدُّه عبدالمطلب.. ثم مات الجدُّ وعمره ثمان سنين.. ثم كفله عمه أبوطالب..
وكان في صغره يرعى الغنم لأهل مكة.. فرغم هذه النشأة القاسية.. وما فيها من الفقر واليتم.. إلا أنه أصبح بعد ذلك..
صلباً لا يحيد عن هدفه ورسالته.. حتى لو تواطأت الدنيا عليه..
يكبر هذا اليتيم.. ثم يبعث نبياً إلى الناس كافة.. فلا يدع ميداناً إلا عرض فيه دعوته ورسالته.. تهون الصعابُ عنده.. في سبيل دعوة الناس إلى توحيد ربهم.
يصبر على المشاق.. ولا يأبه للصعاب.. يَكثرُ أذى قومِه له.. ويشتدُ ذلك عليه بعد وفاة عمه أبي طالب.. فيخرج إلى الطائف.. يعرض نفسه على بعض كبارهم.. رجاء أن يؤوه ويعينوه على تبليغ دعوته.. فيردوا عليه أقبح رد ويسلطوا عليه سفهاءهم.. فيخرج من الطائف هائماً على وجهه.. فلا يفيقُ إلا بقرن الثعالب.. وإليكم بقية هذه القصة كما تحكيها أمنا عائشة رضي الله عنها.. عندما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقالت: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ "، قَالَ: " فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ "، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» رواه الشيخان.. إنها الثباتُ على الهدف..
والصلابةُ وقوةُ العزيمة.. من هذا النبي الكريم.. الذي عانى في صغره من اليتمَ والفقرَ والحرمان.. صلى الله عليه وسلم
ويأتي بعده من عظماء الدنيا.. ممن ذاقوا البؤسَ والفاقةَ في بداياتهم..
كثيرٌ لا يمكن حصرهم.. من علماءَ وقادةٍ ومفكرين.. كان لهم تأثيرٌ بالغ في أمتهم.. وسطروا حياتهم في مداد التاريخ.. وحفروا أسماءهم في جدار الزمن..
فمن علماء الإسلام.. الأئمة الكبار الشافعيُ وأحمدُ.. والبخاريُ وسفيانُ الثوري.. والغزاليُ وابنُ الجوزي وغيرُهم كثير.. وقادة عظام في الإسلام كصقر قريش عبدِالرحمن الداخل.. كل هؤلاء عانوا في صغرهم الحرمان والفقر واليتم.. فكان في ذلك دافعٌ لهم لينطلقوا في أفق النجاح.. ويحطموا ما يعترضهم من مشاق........ والبارزون من الأيتام أيها الكرام.. ليسوا في إمة الإسلام فحسب.. بل هناك عظماءُ في أمم الشرق والغرب.. نشأوا نشأة مليئة بالقسوة والضياع.. يتقلبون بين ملاجئ الأيتام.. ويعانون التشريد والتضييق.. ثم تحولوا بعد ذلك إلى رموز وأساطير.. لا يستطيع أن يدانيهم من ولدوا في قلب النعيم.. ونشأوا في مِعطف الترف..
والسر في هذا بعد توفيق الله.. أن الدافعَ للنجاح والكفاح.. لدى اليتيم والمحروم.. يكون في غاية من القوة والوضوح.. فلا يدٌ حانية يمكن أن تعينَه وتدافعَ عنه.. ولا أبٌ مترف يغدق عليه الهباتِ والأموالَ كلَّ حين.. فلذا قلما يفلح ابناءُ الأغنياء والمترفين.. فدافع الجد والاجتهاد عندهم ضعيف.. حيث تمهد لهم السبل وتقرب لهم الغايات..
نسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه..
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد ألا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمد عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه..
وبعد: فاعلموا أيها الكرام.. أن اليتيم وإن كانت فرصةُ النجاح لديه أكبرَ من غيره.. لما عنده من دافع يدفعه نحو النجاح.. ولكونه معتمداً بعد الله على نفسه.. فهو مع ذلك عرضةٌ للوقوع في شراك أهل الانحراف.. لما فيه من ضعف.. ولما يعانيه من فاقة وحاجة.. وخاصة في بداية نشأته.. فيحتاج لمن يحنوا عليه.. ويرعاه ويدفعُ عنه الأذى.. ويحققُ له أساسياتِ الحياة..
وقد حثنا هذا الدين العظيم.. على رعاية الأيتام وحسن كفالتهم.. حتى لا يكونوا نقطة ضعف في المجتمع.. فقال الله سبحانه ((وما أدراك ما العقبة.. فك رقبة.. أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة.. يتيماً ذا مقربة.. أو مسكيناً ذا متربة)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. اللهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ.. رواه أحمد وأبوداود بإسناد صحيح.. ومعنى أحرج: أي أضيق وأشدد على الناس في تضييع حقهما.. وقال عليه الصلاة والسلام: وَأَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا» وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.. رواه البخاري..
فاعلم يامن ابتلاك الله باليتم.. وتجرعت آلام الفقر.. أن الله سبحانه حكيم فيما يقدره على عباده.. فتجنب التسخط على أقدار الله جل جلاله.. واعلم أن الله سبحانه وتعالى.. كثيراً ما يجعلُ المنحَ في طياتِ المحن..
فاعتمد بعد الله على نفسك.. ولا تنتظرِ العون من الآخرين..
فالآخرون لا يملكون النفع لأنفسهم.. فكيف يملكونه لغيرهم..
واليتم والفقر كثيراً يحملان النجاح والفلاح.. لمن أحسن استغلالهما.. ولم يخضعْ لضغوطاتهما.. ولك في دروس التاريخ شواهدُ وعبر.. فانظر لما حولك. وتأمل في أحوال كثير من الناجحين والبارزين.. تجد كثيراً منهم.. عانى في بداياته معاناة لا يُتصور تحقيقُ نجاح معها.. ولكنها كانت البدايةُ الحقيقية لنجاحه ونبوغه..
نسأل الله أن يجعلنا من أهل النجاح والفلاح.. وأن يهدينا ويسددنا..
اللهم اعز الإسلام والمسلمين.. وأذل الشرك والمشركين.. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان.. اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين.. اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك ياارحم الراحمين.. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا..ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.اللهم صل على نبينا محمد
إليك أيها اليتيم.. إليك أيها المحروم.. إليك أيها المكلوم.. إليك أيها المغترب.. إليك أيها المكترب.. إلى الأرامل والمطلقات.. إليكم جميعاً أبثُّ هذه الكلمات..
أعلموا أيها الأفاضل.. أن الحرمان والحاجة.. ليست عيباً بذاتها.. إنما العيب هو في التسليم لها.. والإذعان لأحكامها..
وإن المرء لتأخذه الشفقةُ والرحمة.. وهو يرى ذلك اليتيم.. يتهادى بين البيوت.. ويتقلبُ بين الأحضان.. تلسعُ قلبَه الصغيرَ.. كلماتُ التقريع.. وتجرح فؤادَه المكلومَ.. نظراتُ التحقير..
وإن القلب ليتقطع ألماً وهو يشاهد تلك الأرملة.. التي تقوم على صبية لها.. تعاني معهم الجوعَ والحرمان.. والتهميشَ والخذلان..
يخفِقُ قلبُها.. مع كل طارق يطرق بابَها.. ترجو من ورائه لقمة تسد جوعتَها.. وجوعةَ صبيتها.. وتأملُ بمحسنٍ يدفع عنها أذية مؤجرها..
أيها الكرام.. إن كل ما تقدم ليس هو المشكلةُ بذاتها.. فهذه أقدار الله على عباده.. ولا راد لقضائه جل جلاله..
إنما المشكلة في الاستسلام لهذه الحال.. والقبول بها.. وانتظار المشفق المحسن.
وإن المرء حينما ينظرُ في التاريخ.. ويتأملُ عبرَه وعظاتِه.. ودروسَه ودرَرَه.. ليعلم علماً يقينياً.. أن الفاقة والمعاناة.. تحمل في طياتها التفوقَ والنجاح.. ذلك لمن أراد أن يستفيدَ من دروس الأيام..
فعظماءُ العالم عبر التاريخ.. كثيراً ما يجمعهم اليتمُ والحرمانُ في بداية نشأتهم.. حيث لا عضيد ولا معين.. فينشأ المرء معتمداً بعد الله على نفسه.. يفجر طاقاتِها.. ويستغلُ إمكانياتِها..
ويأتي على قمة هؤلاء الأيتام.. رسولُ الرحمة ونبيُ الملحمة.. صلى الله عليه وسلم.. الذي قال الله عنه.. ألم يجدك يتيماً فآوى.. ووجدك ضالا فهدى.. ووجدك عائلاً فأغنى..
ولد هذا العظيمُ يتيماً.. حيث مات أبوه وهو في بطن أمه.. ثم أرضعته حليمةٌ السعدية.. ثم ذهبت به أمه لزيارة أخواله في المدينة.. وفي طريق العودة إلى مكة.. توفيت الأمُّ بالأبواء.. وهو ابنُ ست سنين.. ثم كفلَه جدُّه عبدالمطلب.. ثم مات الجدُّ وعمره ثمان سنين.. ثم كفله عمه أبوطالب..
وكان في صغره يرعى الغنم لأهل مكة.. فرغم هذه النشأة القاسية.. وما فيها من الفقر واليتم.. إلا أنه أصبح بعد ذلك..
صلباً لا يحيد عن هدفه ورسالته.. حتى لو تواطأت الدنيا عليه..
يكبر هذا اليتيم.. ثم يبعث نبياً إلى الناس كافة.. فلا يدع ميداناً إلا عرض فيه دعوته ورسالته.. تهون الصعابُ عنده.. في سبيل دعوة الناس إلى توحيد ربهم.
يصبر على المشاق.. ولا يأبه للصعاب.. يَكثرُ أذى قومِه له.. ويشتدُ ذلك عليه بعد وفاة عمه أبي طالب.. فيخرج إلى الطائف.. يعرض نفسه على بعض كبارهم.. رجاء أن يؤوه ويعينوه على تبليغ دعوته.. فيردوا عليه أقبح رد ويسلطوا عليه سفهاءهم.. فيخرج من الطائف هائماً على وجهه.. فلا يفيقُ إلا بقرن الثعالب.. وإليكم بقية هذه القصة كما تحكيها أمنا عائشة رضي الله عنها.. عندما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقالت: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ "، قَالَ: " فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ "، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» رواه الشيخان.. إنها الثباتُ على الهدف..
والصلابةُ وقوةُ العزيمة.. من هذا النبي الكريم.. الذي عانى في صغره من اليتمَ والفقرَ والحرمان.. صلى الله عليه وسلم
ويأتي بعده من عظماء الدنيا.. ممن ذاقوا البؤسَ والفاقةَ في بداياتهم..
كثيرٌ لا يمكن حصرهم.. من علماءَ وقادةٍ ومفكرين.. كان لهم تأثيرٌ بالغ في أمتهم.. وسطروا حياتهم في مداد التاريخ.. وحفروا أسماءهم في جدار الزمن..
فمن علماء الإسلام.. الأئمة الكبار الشافعيُ وأحمدُ.. والبخاريُ وسفيانُ الثوري.. والغزاليُ وابنُ الجوزي وغيرُهم كثير.. وقادة عظام في الإسلام كصقر قريش عبدِالرحمن الداخل.. كل هؤلاء عانوا في صغرهم الحرمان والفقر واليتم.. فكان في ذلك دافعٌ لهم لينطلقوا في أفق النجاح.. ويحطموا ما يعترضهم من مشاق........ والبارزون من الأيتام أيها الكرام.. ليسوا في إمة الإسلام فحسب.. بل هناك عظماءُ في أمم الشرق والغرب.. نشأوا نشأة مليئة بالقسوة والضياع.. يتقلبون بين ملاجئ الأيتام.. ويعانون التشريد والتضييق.. ثم تحولوا بعد ذلك إلى رموز وأساطير.. لا يستطيع أن يدانيهم من ولدوا في قلب النعيم.. ونشأوا في مِعطف الترف..
والسر في هذا بعد توفيق الله.. أن الدافعَ للنجاح والكفاح.. لدى اليتيم والمحروم.. يكون في غاية من القوة والوضوح.. فلا يدٌ حانية يمكن أن تعينَه وتدافعَ عنه.. ولا أبٌ مترف يغدق عليه الهباتِ والأموالَ كلَّ حين.. فلذا قلما يفلح ابناءُ الأغنياء والمترفين.. فدافع الجد والاجتهاد عندهم ضعيف.. حيث تمهد لهم السبل وتقرب لهم الغايات..
نسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه..
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد ألا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمد عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه..
وبعد: فاعلموا أيها الكرام.. أن اليتيم وإن كانت فرصةُ النجاح لديه أكبرَ من غيره.. لما عنده من دافع يدفعه نحو النجاح.. ولكونه معتمداً بعد الله على نفسه.. فهو مع ذلك عرضةٌ للوقوع في شراك أهل الانحراف.. لما فيه من ضعف.. ولما يعانيه من فاقة وحاجة.. وخاصة في بداية نشأته.. فيحتاج لمن يحنوا عليه.. ويرعاه ويدفعُ عنه الأذى.. ويحققُ له أساسياتِ الحياة..
وقد حثنا هذا الدين العظيم.. على رعاية الأيتام وحسن كفالتهم.. حتى لا يكونوا نقطة ضعف في المجتمع.. فقال الله سبحانه ((وما أدراك ما العقبة.. فك رقبة.. أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة.. يتيماً ذا مقربة.. أو مسكيناً ذا متربة)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. اللهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ.. رواه أحمد وأبوداود بإسناد صحيح.. ومعنى أحرج: أي أضيق وأشدد على الناس في تضييع حقهما.. وقال عليه الصلاة والسلام: وَأَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا» وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.. رواه البخاري..
فاعلم يامن ابتلاك الله باليتم.. وتجرعت آلام الفقر.. أن الله سبحانه حكيم فيما يقدره على عباده.. فتجنب التسخط على أقدار الله جل جلاله.. واعلم أن الله سبحانه وتعالى.. كثيراً ما يجعلُ المنحَ في طياتِ المحن..
فاعتمد بعد الله على نفسك.. ولا تنتظرِ العون من الآخرين..
فالآخرون لا يملكون النفع لأنفسهم.. فكيف يملكونه لغيرهم..
واليتم والفقر كثيراً يحملان النجاح والفلاح.. لمن أحسن استغلالهما.. ولم يخضعْ لضغوطاتهما.. ولك في دروس التاريخ شواهدُ وعبر.. فانظر لما حولك. وتأمل في أحوال كثير من الناجحين والبارزين.. تجد كثيراً منهم.. عانى في بداياته معاناة لا يُتصور تحقيقُ نجاح معها.. ولكنها كانت البدايةُ الحقيقية لنجاحه ونبوغه..
نسأل الله أن يجعلنا من أهل النجاح والفلاح.. وأن يهدينا ويسددنا..
اللهم اعز الإسلام والمسلمين.. وأذل الشرك والمشركين.. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان.. اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين.. اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك ياارحم الراحمين.. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا..ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.اللهم صل على نبينا محمد
المرفقات
خطبة عن اليتم والحرمان 21 ذي الحجة.docx
خطبة عن اليتم والحرمان 21 ذي الحجة.docx