خطبة عن الوحي وصفته والرد على منكري وحي السنّة

 إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسِانٍ إلى يوم الدين أما بعد :

فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )   ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) .

واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .

عباد الله : الوحي من الله لأنبيائه نعمة عظيمة لإخراج الناس من الضلال وهدايتهم لطريق النور والهدى يختص الله بها من يشاء من عباده ، والوحي معناه : الإعلام بخفاء ، وهو نوعان : وحي حق من الله لايأتيه الباطل ، ووحي شياطين يوحون إلى أوليائهم بما يصدهم عن الحق ، فيقول الحق تبارك وتعالى في وحي الحق : ( قل إنما يوحى إليّ أنّما إلهكم إلهٌ واحد فهل أنتم مسلمون ) وقال لموسى جل وعلا : ( وأنا اخترتك فاستمع لما يُوحى )  وقال في الوحي الباطل : ( . . وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليُجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) والله جل وعلا أوحى إلى الأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام وأوحى جلّ وعلا لرسل لم يقصصهم ، ولم يذكرهم في القرآن العظيم : ( إنَّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده وأوحينا ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلاً قد قصصناهم عليك ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) .

عباد الله : الوحي من الله جل وعلا يوصف بأنه كجرِّ السلسلة على صفوان - أي حجر أملس - فله صوت مُفزع شديد وقد روى أبوخزيمة في كتاب التوحيد والطبري وأبوداود في سننه وابن حِبّان في صحيحه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله إذا تكلّم بالوحي سمِع أهل السماوات للسماء صلصلة كجرّ السلسلة على الصفا ، فيصعقون فلا يزالون كذلك جتى يأتيهم جبريل فإذا جاءهم جبريل فزّع عن قلوبهم - أي زال الفزع عنهم - قال : فيقولون : ياجبريل ، ماذا قال ربك ؟ قال : الحق " وفي رواية يقولون : الحق وهو العلي الكبير "

وهو مصداق قول الله تعالى : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن اذن له حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) .

 وأما الوحي للنبي فله صور ذكرها حديث عائشة رضي الله عنها حينما سألت النبي َ صلى الله عليه وسلم وقالت : " يارسول الله ، كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشدُّه عليّ ، فيُفصم عني وقد وعيت عنه ماقال ، وأحياناً يتمثَّل لي المَلك رجلاً فيُكلّمني فأعي مايقول " قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيُفصم عنه وإن جبينَه ليتفصّد عرقاً " والحديث متفق عليه .

  ولهذا كان الأنبياء من أقوى الناس جسماً وأكملهم عقلاً لكي يقوى على تحمّل ماينزل عليه من الوحي ، ففي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عند البُخاري رحمه الله أن رسول الله صلى الله أملى عليه : ( لايستوي القاعدون من المؤمنين . . والمُجاهدون في سبيل الله . . ) قال : فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُملُّها عليّ ، فقال : " يارسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان رجلاً أعمى - فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفخِذُه على فخذي ، فتقُلت عليّ حتى خفت أن تُرضَّ فخذي ، ثمّ سُرّي عنه ، فأنزل الله عز وجل : ( غيرُ أولي الضرر ) فكانت الآية :

(  لايستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر والمُجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة . . . ) الآية

عباد الله : قد يكون الوحي رؤيا يراها النبي صلى الله عليه وسلم في منامه ولها حكم الوحي وأحكامها وأخبارها حقٌ لكنها تختلف عن الرؤيا التي يراها غير الأنبياء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رؤيا الأنبياء في المنام وحي " رواه ابن عباس رضي الله عنه وأخرجه ابن أبي حاتم والترمذي معلقاً ، وأخرج البخاري رحمه الله عن عُبيد بن عُمير يقول : " إن رؤيا الأنبياء وحيٌ " ثم قرأ قول الله عن ابراهيم خليل الرحمن عليه السلام لابنه اسماعيل :

( يابني إني أرى في المنام أنّي أذبحُك قال يا أبتي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) .

 عباد الله : لمّا يتأمل المسلم قول الله تعالى : ( وماكان لبشر أن يُكلّمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحيَ بإذنه مايشاء إنه عليٌ حكيم ) يجد أن الله جل وعلا لايتجلّى لأحد ولم يتجلّى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به فكيف بمن دونه من البشر ، ولّما طلب موسى عليه الصلاة والسلام رؤيته أمره الله أن ينظر إلى الجبل فإن استقر فسوف يراه فدُك الجبل لمّا تجلّى منه ماتجلّى وخرّ موسى مغشياً عليه مصعوقاً بما رأى ، وفي ذلك دليلٌ واضح جلي أن الله مهما كلّم وأوحى للرسل فإنه لايتجلّى لهم في هذه الحياة الدُنيا أبداً لأحد ، وأما ماكان من تجليّه لعبدالله بن حرام الأنصاري الذي استُشهد في أحد ، وهو أبو جابر بن عبدالله الصحابي الجليل فإنه كان في دار البرزخ بعد الموت ولم يكن في هذه الحياة الدنيا ، وهي له كرامة ورفعة . . أكرمنا الله وإياكم بفضله ، ولطف بنا وعامَلنا برحمته ورفعنا منازلاً في دار كرامته . . أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .

====================== الخطبة الثانية =======================

 الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن لدينه اقتفى وبهديه اهتدى أما بعد:  

فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أنه كما أن القرآن وحي من الله جل وعلا فإن السنّة وحي من ربنا جل وعلا مرتبطة بالقرآن ومفسرة له لاتنفك عنه كما قال جل وعلا : ( وأنزلنا إليك الذكر لتُبيّن للناس مانزّل إليهم ولعلهم يتفكرون ) وكذا قول الله تبارك وتعالى : ( وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدىً ورحمة لقومٍ يؤمنون ) ، ولا يُعلم البيان ولا مراد الله ولا أحكامه إلا ببيان رسوله ، بل إن في السنة مايقوله الله جل وعلا ولكن ليس مثل القرآن فلا يتعبّد بتلاوته كالقرآن كالأحاديث القدسية التي قالها ربُنا جل وعلا وبلغ بها نبي الأمة عليه الصلاة والسلام ، كقول الله في الحديث القدسي : " يابن آدم إنك مادعوتني غفرت لك على ماكان منك ولا أبالي . . " وقوله تعالىفي حديثٍ آخر  : " العز إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني بشيء منهما عذّبتُه " وغيره من الأحاديث  .

عباد الله : إن كثيراً من أعداء دين الله ومن سلك سبيلهم يلقون بالشُبه لشككوا الناس بعقيدتهم ،  ويحاولوا أن يُقصوا السنة عن القرآن لكي يجعلوا هذا الدين عضينَ ، ومقسّماً فيحزّبوا بذلك المسلمين ، ويجعلونهم فرقاً متناحرين ، قاتلهم الله أجمعين ، هم طائفة حذّر الرسول منهم ومن نهجهم وبيّن أن منهم من ينتسب إلى الإسلام ، فيأتيه الأمر من قول رسول الله فيرُدّه بحجة أنه ليس في القرآن ، وأنّه لايأخذُ إلا بالقرآن ، فذلك الضلال البعيد والرأي المحيد عن الحق والقول السديد فقال صلى الله عليه وسلم : " لا ألفينَّ أحدَكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أُمرت به أو نهيتُ عنه ، فيقول : لاأدري ، ماوجدنا في كتاب الله اتبعناه " أخرجه ابن ماجه ، وفي لفظٍ آخر عند الترمذي : " ألا هل عسى رجلٌ يبلُغه الحديثُ عنّي ، وهو متكئٌ على أريكته ، فيقول : بننا وبينكم كتابُ الله ، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه ، وإنَّ ماحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرّم الله " . . نعوذ بالله من مضلات الفتن ماظهر منها وما بطن ، ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . .

المشاهدات 388 | التعليقات 0