خطبة عن الهجرة ودروسها ، وعن التاريخ بها ، وفضل عاشوراء

عبدالرحمن اللهيبي
1445/01/03 - 2023/07/21 00:58AM

الحمد لله مدبر الشهور والأعوام , ومصرفِ الليالي والأيام ، نحمده على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم الغفار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمةِ الأخيار .

أما بعد افتقوا الله ..

أيها المسلمون:
قبل ألفٍ وأربعِمائة وأربعٍ وأربعين عام كانت هذه الأرض المباركة على موعد مع حادثة عظيمة وقصة جليلة ، نصر الله بها الدين ، وقلب بها الموازين .
تلكم يا عباد الله هي حادثة الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم

فإلى تـفاصيل تلك القصة العجيبة والحادثة العظيمة.

مكث ﷺ ثلاثة عشر عاماً بمكةَ يدعو إلى التوحيد ، عاش فيها سنوات طويلة من التعذيب والإيذاء .. والتشريد والابتلاء ، وبعد اشتداد الأذى ينام عليه الصلاة والسلام في ليلة من الليالي على فراشه فيرى دار الهجرة وإذا هي أرضٌ ذاتُ نخل بين لابتين .. إنها طيبة الطيبة .

فتشعر قريش بالخطر الذي يهدد كيانها بهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ونشوء دولة الإسلام

فتعقد قريشٌ مؤتمراً عاجلاً في دار الندوة للقضاء على محمد ﷺ قبل أن يقيم دولة الإسلام

فيتفقون على قتله ﷺ بعد تداولهم لعدد من الآراء ((وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)
وحينها ينزل جبريلُ فيخبرَ النبيَ ﷺ بتلك المؤامرة ويقول : يا محمد لا تبِت في فراشك الليلة .
وبينما كان أبو بكر جالساً مع أهله في الظهيرة ، إذ أقبل النبي عليه الصلاة والسلام متقنعاً مغطياً رأسه ، فقال له: إني قد أذن لي في الخروج . فقال أبو بكر : الصحبةَ بأبي أنت وأمي يا رسول الله .

فقال : نعم . فبكى أبو بكر فرحا بصحبته لرسول الله ﷺ رغم إدراكه لما فيها من المخاطر العظام ، وفي تلك الليلة الحرجة التي سيجتمع فيها أعداءُ الإسلام لمحاصرة منزله عليه الصلاة والسلام.
في تلك الليلة الحرجة يأمر النبيُ ﷺ علياً أن يبيت في فراشه.. وينفِّذ عليٌ أمرَ رسول الله دون خشية أو تردد.

فقررت التدابيرُ الأرضية وقدَّرتْ وخطَّطتْ لاغتياله ﷺ

لكن للإرادة الإلهية قضاء آخر، وقضاء الله نافذٌ ونَاجِزٌ.

وَإِذا العِنَايةُ لَاحَظَتْكَ عُيُونُها ** نَمْ فَالْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ

وحانت ساعةُ تنفيذِ الجريمةِ الكبرى ، ووقَفَ المجرمون على باب منزله ﷺ، فخرج إليهم  -صلى الله عليه وسلم-وقد غطَّى الله أسماعَهم وأبصارَهم، وَغَشِيَهُم النُّعاس فلم يروه، ثم يخرج -صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر ، حتى إذا بَلَغَا أطرافَ مكةَ، التفتَ إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد جاشت نفسه، وخنقته عبرته، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "والله، إنَّك لأحبُّ البِقاع إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ".

وعندما علمت قريشٌ بخبر خروج النبي ﷺ جن جنونُها ، وثارت ثائرتها ، وأعلنت حينها عن جائزةٍ كبرى قدرُها مائةَ ناقة لمن يعيد محمداً حيا أو ميتا .

وكان الرسول ﷺ يعلم أن قريشاً ستجِدُّ في الطلب شمال مكة باتجاه المدينة ..فاتجه هو وصاحبه جَنوباً إلى غار ثور
فاستنفرت قريش رجالها وانتشر المطاردون في أرجاء مكة كلها... كلهم يسعى للحصول على الجائزة الكبرى ,, لم يتركوا مكانا لم يبحثوا فيه حتى وصل بعض المطاردين إلى جبل ثور ووقفوا على باب الغار ، فلما رآهم أبو بكر قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا

فيأتيه الجوابُ المليءُ بالسكينةِ والتفاؤل واليقين:  مَا ظَنّك بِاثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثُهُما" (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)
ثم مكث ﷺ وصاحبُه في الغار ثلاثة أيام حتى يئست قريش وخَمَدت نارها في الطلب، ثم ارتحل ﷺ وصاحبه

وبينما هم في الطريق فإذا بسراقة يبصر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويلتفت أبو بكر فيرى سراقةَ فيقول : يا رسول الله أُتينا . فيرفع النبي ﷺ يديه وهو ماضٍ في طريقه لا يلتفت ويقول : اللهم اكفناه بما شئت .. اللهم اصرعه . وكان سراقة يجري بفرسه على أرض صُلبة فساخت قدما فرسه في الأرض فسقط عن فرسه ، ثم قام وحاول اللحاق بهما فسقط مرة أخرى ، فعرف أن في ذلك معجزة من الله وأنها لا تكون إلا لنبي، فنادى بالأمان فأمنه رسول الله ﷺ، ثم قال له : كيف بك يا سراقة وفي يدك سواري كسرى

فيا عجبا .. يبشره ﷺ بسواري كسرى وهو شريد مطارد. فرجع سراقة كلما لقي أحداً من المشركين رده وقال : قد كفيتكم ما ههنا . فكان سراقة أول النهار محاربا ملاحقا وفي آخر النهار ذابا مدافعاً ، فسبحان مقلب القلوب ومغير الأحوال  ، وقد تحققت بشرى النبوة لسراقة وذلك حين فتح المسلمونَ المدائن وجيء بسواري كسرى ، فدعا عمرُ سراقةَ وألبسَهُ سِوَارَيْ كسرى ملك الفرس، (واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(

وأما الحال في المدينة فقد سمع الأنصار بخروجه ﷺ ، فكانوا لشدة تعظيمهم له وفرحهم به وشوقهم إليه  يترقبون قدومه ، فيخرجون كل يوم بعد صلاة الفجر إلى الحرة ، فإذا اشتد حر الظهيرة عادوا إلى منازلهم

فخرجوا ذات يوم ثم رجعوا عند الظهيرة إلى بيوتهم .

وكان أحد اليهود يطل في هذه الأثناء من أطم من آطام المدينة فرأى رسولَ الله ﷺ مقبلا نحو المدينة فلم يملك اليهودي إلا أن صاح بأعلى صوته : يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون .

فكبر المسلمون فرحاً بقدومه وأقبلوا إليه مسرعين وحيوه بتحية النبوة ، ومتعوا أعينهم برؤية نبي الله، والسكينة تغشاه,,, فكان يوما عظيما مشهودا ، أضاءت فيها المدينة برسول الله ﷺ

هذا وفي حادثة الهجرة الكثير من القصص والأحداث التي لا يتسع المقام لذكرها فاقتصرنا على ما ذكرنا

هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.....

 

عباد الله: كانت هذه الهجرة المباركة فيصلًا بين الإسلام والكفر، أعزَّ الله بها الإسلام ، وأذلَّ بها الكفر، وانتهى بها عهدٌ من الأذى والبلاء والعذاب الذي لقيه المسلمون بمكة، فدالت الدولة للإسلام بعد الهجرة، وجُعلت كلمةُ الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى

وهكذا جاءت أحداث الهجرة لتعلمنا بأن الشدائد لا تدوم، وأن الاصطفاء قرين الابتلاء، وأن المكارم منوطة بالمكاره، وأن الفَرَج مع الصبر، وأن النصر مع الكَرْب، وأن مع العسر يسرًا.

حتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ المجرمين

 

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: وفي بِدَايَةِ كُلِّ عَامٍ هِجرِيٍّ جَدِيدٍ، يَتَذَكَّرُ المُسلِمُ ذلك اليَوم المُبَارَك الَّذِي وَطِئَت فِيهِ قَدَمُ المُصطَفَى -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- أَرضَ طَيبَةَ مُهَاجِرًا، حَيثُ بَدَأَ بِذَلِكَ اليَومِ العَظِيمِ تَأرِيخٌ عَرِيقٌ، هُوَ لِلمُسلِمِينَ عَلامَةٌ فَارِقَةٌ، وَشَامَةٌ في جَبِينِ الزَّمَانِ وَاضِحَةٌ، وَحَضَارَةٌ عَرِيقَةٌ مُمتَدَّةٌ، تَمَيَّزَت بِهَا أُمَّةُ الإِسلامِ عَن سَائِرِ الأُمَمِ ، الَّتي كَانَت وَمَا زَالَت تُؤَرِّخُ لأَنفُسِهَا بِأَحدَاثٍ مَرَّت بِهَا، أَو بِعَظِيمٍ مِن عُظَمَائِهَا

فجاء التأريخ بالهجرة النبوية مظهرا من مظاهر تميز الأمة المسلمة وفخرها بهجرة نبيها ﷺ.

حيث ألهم الله الفاروق أن يجعل للأمة تأريخاً يميزها عن الأمم الكافرة ، فهداه الله تعالى إلى اختيار الهجرة منطلقاً للتأريخ الإسلامي

عباد الله: إِنَّ التَّأرِيخَ الهِجرِيَّ يُمَثِّلُ لِلمُسلِمِينَ ذَاكِرَةً عَظِيمَةً سُجِّلَت فِيهَا كُلُّ حَرَكَةٍ في تاريخ الإِسلامِ من مَعَارِكِهِم وَغَزَوَاتِهِم، وَفُتُوحَاتِهِم وَانتِصَارَاتِهِم، وَدُوَلِهِم وَأَيَّامِهِم .. 

وَلَقَد أَدرَكَ أَعدَاءُ الإِسلامِ أَهمِيَّةَ تَمَسُّكِ المُسلِمِينَ بِالتَّأرِيخِ الهِجرِيِّ، وَأَثَرَهُ في رَبطِهِم بِدِينِهِم وعباداتهم وَحَضَارَة أُمَّتِهِم فَسَعَوا بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِن دَهَاءٍ وَمَكرٍ لِلعُدُولِ بِالأُمَّةِ عَن تَأرِيخِهَا الهِجرِيِّ ، إِلى التَّأرِيخِ المِيلادِيِّ ، لِيَعزِلُوا الأُمَّةَ عَن تَأرِيخِهَا وحَضَارَتها ..

 أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَلنَعتَزَّ بِثَقَافَتِنَا وحضارتنا ، وَلْنَتَمَسَّكْ بِتَأرِيخِنَا ..

 

ولنعلم أيها المسلمون أنه-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- حِينَمَا قَدِمَ المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يصومون يَومَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "نَحنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنكُم" فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.

وجعل من فَضِيلَة صيام يَومِ عَاشُورَاءَ أنه يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَةٍ قَبَلَهُ، أَلا فَصُومُوا هَذَا اليَومَ العظيم، وَمُرُوا بِذَلِكَ نِسَاءَكُم وَأَبنَاءَكُم ، وَاحرِصُوا عَلَى أَن تُخَالِفُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى كَمَا هُوَ هَديُ نَبِيِّكُم، فقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "لَئِن بَقِيتُ إِلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ".

 

 

المشاهدات 934 | التعليقات 0