خطبة عن القسط والعدل المأمور به

أيوب بن عبدالرحمن الثنيان
1444/07/12 - 2023/02/03 10:18AM
الحمدلله أحكم الحاكمين وأعدلهم وأقسط المقسطين ورب الخلائق أجمعين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين حكم فعدل ودل على النور المبين وحثّ على سلوك درب الصالحين وعلى آله الغرّ الميامين ومن تبعهم بإحسان وعلينا معهم إلى يوم الدين أما بعد :  فاتقوا الله عباد الله فالتقوى يأمر بكل رشدٍ وخير وينهى عن كل إثمٍ وشر ويُقرّب البرّ من ربه ويبعدّ الفاجر من مولاه الذي توّلاه واعلموا رحمكم الله أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار والزموا جماعة المسلمين فإن الله يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .  عباد الله : يقول الحق تبارك وتعالى : ( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولوا على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تُعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) وهذه الآية تدل على قاعدة من الثوابت العظيمة في هذا الدين ومن أصول اتباع الشريعة والقيام بها في جوانب الحياة المختلفة على صعيد النفس ودائرة الأسرة وعالم المجتمع من حولنا فلا بدّ أن يكون الرجل من أهل القسط والعدالة ومن مروّجي العدل والآمرين به في كل حين وذلك حيث أن الله تعالى استخدم صيغة المبالغة في قوله ( قوّامين ) أي قائمين على الدوام وذلك يقتضي أن يُراعي العبد القسط والعدل في أحواله كلّها ، بل وفي قرارة نفسه التي منها تصدر النية ويكون مقاصد العمل في العبادات والمعاملات على وجه العمموم .  وأصل هذه الآية نزلت عامة بسبب خاص وهو النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه غني وفقير فكان ضِلَعه مع الفقير - أي كان يميل مع الفقير على الغني - وكان يرى عليه الصلاة والسلام أن الفقير لايظلم الغني كما أورد ذلك ابن جرير في تفسيره " جامع البيان " فأمره الله نبيه وغيره من المؤمنين أن يعدلوا مع الفقراء والأغنياء وكأن الحقّ يُشير إلى أن ظلم الفقير للغني وارد وليس كما يظن الناس أن الغني هو الذي يظلم الفقير دائماً ، وعقّب على ذلك ابن جير بقوله : " وهذه الآية عندي تأديب من الله جل ثناؤه لعباده المؤمنين أن يفعلوا مافعله الذين عذروا بني أًبيرق - وهم فخذٌ من الأنصار - في سرقتهم ماسرقوا وخيانتهم ماخانوا من ذكر ماقيل عند رسول الله وشهادتهم لهم عنده بالصلاح فقال لهم : " إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه فقولوا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآباءكم وأمهاتكم وأقربائكم ولا يحملنّكم غنى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحِمُه منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها "  .  عباد الله : إن العدل من أعظم القيَم التي يتحلى بها المسلم الصادق والذي لايصلح الشأن العام بدونه وعكسه الظلم الذي هو مقوّض للممالك ومسقط للدول ولا يصلح أمر كل أمة إلا بالعدل والقسط ونشره والأمر به والقيام بالواجب وخصوصاً من أصحاب المناصب في أي قطاع من القطاعات ، فهذا واجب متحتم مع القريب والبعيد والصديق والعدو غير المحارب فلنتق الله تعالى لنتأمل تلك الآية المشابهة للآية التي ذكرنا وهي قوله تعالى في سورة المائدة : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على أن لاتعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون )  فالقسط يكون عاماً شاملاً حتى مع من تكرههم وتبغضهم وهذا من أعظم صفات المؤمنين ولا يقدر عليه إلا من وفقه الله وسدّده وأعانه وقرّبه لتقواه - سبحانه - وأبعده من شهوته وهواه ولهذا قال : ( ولا يجرمنكم شنئان قوم ) أي لايحملكم بغض وكراهية قوم ( على أن لاتعدلوا ) أي على ترك العدل وارتكاب الظلم معهم ، ثم قال بعدها : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أي أبعد عن الهوى وأقرب للإلتزام بما أمر الله تعالى ونبذ ٌ لشهوات النفس وإخراجٌ لدنس الباطل من النفوس .  أيها المؤمنون : والأمر بالقسط تعدّى ليشمل حتى الكافر ولو كان الناس في زمن شدّة فإن الله تعالى أنزل قولَه سبحانه : ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إن الله يُحب المقسطين ) أنزل تلك الآية والناس في عهد النبي في زمن حرب ووقت شدّة وابتلاء من المشركين ، لكيلا يُحارَب غير المُحارب ولا يُعتدى على أحدٍ بدون حقٍ ظُلماً وعدوانا بل أمر سبحانه في معرض الآية بالعدل والبر والإحسان وفي المُقابل ينهى الله عن الإحسان إلى المحاربين من الكفرة من أهل الكتاب أن يُحسن إليهم لأن ذلك ذلّ للإسلام وأهله ومناقضة لعلاقة الولاء والبراء المأمور بها قال جل جلاله ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون )  عباد الله : إن من القوامة بالقسط نبذ العصبية التي تجرّ للظلم فلا يجتمع العدل والعصبية في شخصٍ أبداً فلابد إن استقر العدل في النفس أن يُخرجها من قلبه أو تكون الأخرى فتخرجُ العدل والقسط من النفوس والنبي صلى الله عليه وسلم قال : " ومن دعا بدعوى الجاهليه فهو من جُثى جهنم " قالوا : يارسول الله وإن صلى وصام ؟ قال : " وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم " . ومن القوامة بالقسط ياعباد الله : عدم ظلم من كان تحت اليد من عامل أو خادمة أو سائق او غير ذلك خصوصاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إخوانكم خولُكم - أي مخوّلين ومسخرين للعمل تحت أيديكم - جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تُكلفوهم من العمل مايغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم " رواه الشيخان البخاري ومُسلم .  أيها المؤمنون : إن مما يلزم لإقامة القسط والعدل ونشر قيمة الإنصاف أن يُناصح كل من له ولاية في أمر يخصّ عامة الناس عموماً لأن السكوت على الباطل إعانة عليه والتخاذل عن الحق يُسوّد الباطل وينشره في نفوس الناس فيستمرونه وينشأؤون عليه ولذا كان حقاً علينا جميعاً أن نسعى للتصدي لإنتشار الفساد في البلاد سواءً كان ذلك في القيم والمبادئ أو كان ذلك في الولايات العامة أو الخاصة فإن ذلك أمرٌ يجب أولاً على العلماء وأهل الحلّ والعقد وعلى من يستطيعُه من عامة الناس إبراءً للذمة فاللهم إنا نسألك أن تحشرنا في زمرة المقسطين وأن تجعلنا من حزبك المفلحين وأوليائك المتقين يارب العالمين ، هذا واستغفروا ربكم وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم . 
================= الخطبة الثانية ===============
الحمدلله حكم فعدل وأعطى فأجزل أحمده وهوالحكيم العدل وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وآله وصحبه أهل المكارم والفضل وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الفصل أما بعد : 
عباد الله : إن مما أعدّه لعباده المُقسطين العادلين في الآخرة منزلةٌ يغبطهم عليها  النبيون والشهداء يوم القيامة وذلك أنه روى عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن المُقسطين عند الله على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه وهذا الحديث مُحفّز على عمل الآخرة ويبعث في النفس الهمة والعمل الحثيث لنيل تلك الدرجة الرفيعة والمنزلة العالية عند الله ، فلا عجب أن يكون ذلك لأن أهل القسط والعدل محبوبون من الله ومن أهل السماء ومن أهل الأرض من الناس والخلائق أجمعين وأهل الظلم واستلاب الحقوق مبغوضون من الله ومن ثمّ من أهل السماء والأرض فهل نتوقّى ذلك ، ولنظفر بمحبة الله أولاً التي من حازها حاز محبة بقية الخلائق كلهم استناداً لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله إذا أحب العبد دعا جبريل فيقول : إن الله يحب فلاناً فأحببْه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ثم يوضع له القبول في الأرض " 
ولا شك أن من أسباب ذلك القسط واتباع ماأمر الله والتزامه وتتبّع أسباب محبة الرب الذي من أسمائه الودود والودّ من أرفع أنواع المحبة التي يكتبها الله لعباده المؤمنين الذي يعملون الصالحات ، ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا )   . 
عباد الله : إن مما ينبغي التنبيه عليه هو معرفة الفرق بين المُقسط والقاسط فالمقسطون هم العادلون والقاسطون هم الظالمون ، فإن الله تعالى قال في شأن المقسطين (( إن الله يحب المقسطين )) كررها بهذا اللفظ ثلاث مرات في سورة المائدة والحجرات والممتحنة للتأكيد ولزوم انتشار ضرورة القسط في المجتمع المسلم وأما القاسطون وهم الظالمون فإنه قال فيهم سبحانه في سورة الجن :
(( وأما القسطون فكانوا لجهنم حطبا )) . 
أيها المؤمنون : ضرورة القسط وانتشار العدل والإنصاف والمساواة في بلدنا أمان عند الله من ذهاب الممالك والدول وذلك يتجلى بإقامة الحدود وتطبيق شريعة الله وفي ذلك يقول الله تعالى : (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) وهذا في حقّ من استحل ذلك ولم يعمل به فجمع بين الخطيئتين والكبيرتين العظيمتين وأما من لم يستحل الحكم بغير ماأنزل الله ولكن لم يطبق ويحكم بما أنزل الله لهوىً في نفسه ولشهوة يتبعها أو مجاراة لأهل الهوى من مسؤول أو غيره فقد ظلم وفسق قال سبحانه : (( ومن لم يحكم بغير ماأنزل الله فأولئك هم الفاسقون )) وقال جل وعلا : 
(( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )) ويستلزم ذلك تطبيق الحدود وعدم قبول الشفاعة فيها ، والشاهد في ذلك حديث المخزومية التي سرقت وأهمّ قريشً شأنها فقالوا : ومن يُكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا  : " ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتشفع في حدّ من حدود الله " ثم قام فاختطب - أي خطب خطبة - قال فيها : " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " رواه البخاري ومسلم . 
فلله درّ نبينا الذي أرسى العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع كلهم فقيرهم وغنيهم قويهم وضعيفهم، صغيرهم وكبيرهم ، فاللهم اهدنا سواء السبيل وأقمنا على صراطك المستقيم بالحق والدليل واشف منّا السقيم والعليل ياعليم ياجليل . 
هذا وصلو على محمد بن عبدالله كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه .
المشاهدات 547 | التعليقات 0