خطبة عن الابتلاء بالوباء وواجب المؤمن من التوكل على الله

محمد بن عبدالله التميمي
1441/07/10 - 2020/03/05 19:01PM

الخطبة الأولى

الحمد لله حقَّ حمده، تبارك اسمه وتعالى جدُّه، فلا رب سواه ولا إله غيرُه، أشهد ألا إله إلا الله وحدَه، فلا شريك له ولا نِدَّ ولا نضير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمدا عبدُ الله ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتدى بهم واقتفى أثرهم وسلَّم، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وقوموا حق القيام بدين الله. فمن اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه قائما بالأسباب النافعة كفاه، ومن اعتصم به وبحبله حفظه من الشرور وحماه.

عباد الله.. إن الله تعالى أوجب على عبادِه عبادتَه والاستعانةَ به: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وإنَّ النقص الذي يعتريهم، قد أُتُوا فيه من تقصيرهم، في العبادة والاستعانة والتوكل عليه، وتفويض الأمور إليه، وإن حققوا القولَ والعملَ به ظاهرا، إذ لابُدَّ من عَقْلِ معناها والعملِ بمقتضاها، فيعمروا الباطن بهذه المعاني الجليلة بالرب العظيم الجليل، ولذا تجد في واقع المسلمين تخبُّطا واضطرابا وقلقا، وإن المؤمن بربه حقا، متوكل عليه سبحانه صدقا، وقد قال جلَّ ذكره: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ذروة الإيمان: الاخلاصُ، والتوكلُ، والاستسلام للرب عز وجل"، وقال ابن عباس رضي الله عنه: "التوكلُ جِماعُ الإيمان" فنؤمن بأن الله الحافظُ الـمُعِينُ الناصر، وأنه الذي يَلْطُفُ بنا، ويَدْرأُ ويُبْعِدُ الشرورَ عنا، فهو حسبُنا وكافينا ونعمَ الوكيلُ سبحانه {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فبقدر إيمانهم تكون كفاية الله لهم، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} وقال: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } وكان ﷺ يقول كما في الصحيحين: "اللَّهُمَّ لكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وإلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خاصَمْتُ" فكان ﷺ لا يفتر أن يتوكل على الله في جميع أموره؛ وذلك لكمال إيمانه صلى الله عليه وسلم بقضاء الله وقَدَرِه، قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ ، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ ، وحديث جبريل  كما في الصحيحين: "وأن تؤمنَ بالقدَر خيرِه وشرِه"، وهكذا كانت وصية أصحابه رضوان الله عليهم لأهليهم، كما قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي».

وبنحو هذا جاء كلام السلف في بيان التوكل، ومن حَسُن إيمانُه بقضاء الله وقدره حَسُنَ ظَنُّه بربه، فأعقبه ذلك الرضا بما قدر الله وقضى، وإن كمال الإيمان بالله والعلمِ بأسمائه وصفاته وما لها من المعاني يُعظم توكَّلَ المؤمنِ بربِّه سبحانه وتعالى فهو اللهُ عالمُ الغيب والشهادة، فلا يخفى عليه شيء، وهو سبحانه قد سبقت رحمتُه غضبَه لذا قال: {عالمُ الغيبِ والشهادةِ هو الرحمنُ الرحيمُ} وهو سبحانه الْمَلِكُ، الْقُدُّوسُ، السَّلامُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، فما شاء الله كان وإن لم نشأ، وما لم يشأ ربنا لم يكن، فالذي يؤمن بهذا ويعلمه حقا هو المتوكل على الله، فالمطلوب هو رُسُوخ القلب في مقام التوحيد، وعلى قدر تجريد التوحيد وصحتِه تكون صحةُ التوكل، فيعتقد العبد أن كل ما يحصل له إنما هو بتدبير الله وإرادته: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.

وإذا صدَقَ اعتمادُ القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، أورثه ذلك طمأنينة القلب وسكينته، فلا تجده هلوعا، إذا مسَّه الشر جزوعا، وإذا مسَّه الخير منوعا، والصلاة أعظم ما يُطمأن النفس ويُسَكِّنها، إذا المرء بطمأنينة أتى إليها، وإذا هو اطمأن في أدائها، وإذا هو على هذا اطمأن فلم يَنكِص فيَنْقُض، بل واظب ودام وحافظ { إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.

عباد الله.. إنه إذا كانت الأخطار مُحدقة والنفوس للنجاة متلهّفة تكون الوصية بالتوكل متأكدة فإنه الحَسْبُ والكافي جل جلاله، فيقول سبحانه في سورة غزوة بدر –سورةِ الأنفال-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فأعقب إخباره عن زيادة الإيمان بالتوكل عليه سبحانه وهو الملك الديان، وقد جعل زيادة الإيمان: نتيجة ذكر الله وتلاوة آيات القرآن، التلاوة النافعة التي تَوْجل معها القلوب وتورث خشية علام الغيوب {وأهديك إلى ربك فتخشى}.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وسنة نبينا الكريم، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه.

الخطبة الثانية

عباد الله.. إن ثَمّت وصايا نبوية بالتوكل على رب البرية وهي تحصينات شرعية، فمن ذلك ما أخرج أبوداود من حديث أنس بن مالك أنه ﷺ قال: "إذا خرجَ الرَّجلُ من بيتِه فقال بسمِ اللَّهِ توَكلتُ على اللَّهِ لا حولَ ولا قوَّةَ إلّا باللَّهِ قال يقالُ حينئذٍ هُديتَ وَكُفيتَ ووُقيتَ فتَنحّى لهُ الشَّياطينُ قال فيقولُ شيطانٌ آخرُ كيفَ لَك برجلٍ قد هُديَ وَكُفيَ ووُقيَ"، ومِنَ التَّعَوُّذَاتِ وَالرُّقَى قِرَاءَةُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، وَمِنْهَا التَّعَوُّذَاتُ النَّبَوِيَّةُ، نَحْوَ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ» وَنَحْوَ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ»، ونحو: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ» يقول المسلم ذلك عائذا بالله، ملتجئا لمولاه، وهو سبحانه بيده ملكوتُ كلِّ شيء وهو يُجير ولا يُجار عليه.

عباد الله.. إن المتوكلَ على الله هو الآخذُ بالأسباب الأخذَ الشرعي، الذي لا يتناقض مع توحيدِ الربِّ العليّ، وإنه ترد من الجهات المختصة توجيهات في هذا الوباء النازل، فليُكن سمعٌ لهم وطاعة، فالمصلحة خاصة وعامة، والله سبحانه أعظم مسؤول وهو المُرجَّى المأمول أنْ للعباد يرحم، وللبلاء يرفع.

اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

المرفقات

خطبة-عن-الابتلاء-بوباء-كورونا-وواجب-ال

خطبة-عن-الابتلاء-بوباء-كورونا-وواجب-ال

المشاهدات 2328 | التعليقات 0