خطبة عن أصحاب الأخدود وقصة الغلام والملك

الحمدلله الذي منّ على عباده بإرسال الرسل ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ، وأنزل الكتب - سبحانه - ليُعلّم أهل الجهالة فيتقون ، وأهل الزيع فيهتدون ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد الذي فضلّه وأمته على سائر الأمم ليشكرون ومن حمده يُكثرون ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم يبعثون . . أما بعد : 

عباد الله : اتقوا الله تعالى فكل عزٍّ بتقواه وكل ذُلٍّ بالإعراض عن سبيله وهداه ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقْه من حيث لايحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبُه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيءٍ قدرا ) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتُها وكل محدثة في دين الله بدعة وكلُ بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار . 

عباد الله : يجب على المسلم أن يوطّنَ نفسَه ويُلزمَها الرضا بما يقضي به الله تعالى من سنن وحكم في الحياة ومن تلك السنن تعرّض المسلم والمؤمن للإبتلاء والفتنة والله جل وعلا عتب على أناسٍ يظنون أنهم سينجون بإيمانهم من الفتنة والإبتلاء وأخبر أن سنّة الإبتلاء ماضية إلى قيام الساعة مادام الإسلام في الأرض ( أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لايُفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) . 

عباد الله : قد قص الله علينا في كتابه العزيز بعضٌ مما حلّ به البلاء والفتنة في الدين من الأمم السابقة ، ومنهم قصة أصحاب الأخدود التي وقعت في نجران ، حيث ذكر ابن الأثير في كتابه ( الكامل في التاريخ ) وغيره من المؤرخين خبرهم وأورد عن ابن عباس أنه قال : " كان بنجران ملكٌ من ملوك حِميَر ، يُقال له ذو نوّاس واسمُه : يوسف بن شُرحبيل ، وكان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة "  ثم ساق القصة رضي الله عنه وعن أبيه وهي قصة أوردها الإمام مسلم في صحيحه وارتبطت قصة أصحاب الأخدود بقصة الغلام مع الساحر والملك ،  ففي حديث صهيب الرومي رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام : " كان ملكٌ فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلمّا كَبِر قال للملك : إني قد كبِرتُ فابعث لي غلاماً أعلّمُه السحر ، فبعث إليه غلاماً يُعلّمه ، وكان في طريقه إذا سلك راهب ، فقعد إليه وسمع كلاماً فاعجبَه ، وكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه ، فإذا أتى الساحر ضربه ، فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيت الساحر فقُل حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل حبسي الساحر ، فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال اليوم أعلم الساحر أعلم أم الراهب أفضل ؟ فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتُل هذه الدابّة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها ومضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره ، فقال له الراهب : أي بُني ، أنت اليوم أفضلُ مني ، قد بلغ من أمرك ماأرى ، وإنّك ستُبتلى ، فإن ابتُليت فلا تدلّ عليّ ، وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص ، ويُداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمِع جليسٌ للملك قد عمِي فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : ماهاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : " إني لاأشفي أحداً إنما يشفي الله ، فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك " فآمن بالله تعالى ؛ فشفاه الله تعالى ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من رد إليك بصَرك ؟ قال : ربي ، قال : ولك ربٌّ غيري ؟ قال : ربّي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يُعذّبه حتى دلّ على الغُلام ؛ فجيء بالغلام ، فقال له الملك : قد بلغ من سحرك ماتبرئ الأكمه والأبرص وتفعلُ وتفعل ، فقال : إتي لاأشفي أحداً ، إنما يشفي الله تعالى ، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلّ على الراهب ، فجيء بالراهب ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدعا بالمنشار فوضع المنشار على مفرِق رأسه ، فشقه به حتى وقع شقّاه ، ثمّ جيء بالغلام ، فقيل له ارجع عن دينك فأبى ، فدفعَهُ إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتُم ذِرْوَته ؛ فإن رجع عن دينه وإلا فاطرَحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل ، فقال : " اللهم اكفنيهم بما شئت " فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : مافعل أصحابُك ؟ فقال : كفانيهم الله تعالى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور - أي سفينة كبيرة - وتوسّطوا به البحر ؛ فإن رجع إلى دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به ، فقال : " اللهم اكفنيهم بما شئت " فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك . فقال له الملك : مافعلَ أصحابُك ، فقال : " كفانيهم الله تعالى " .  فقال للملك : " إنك لست بقاتلي حتى تفعل ماآمرُك به " . قال : ماهو ؟ قال : " تجمعُ الناس في صعيدٍ واحد ، وتصلُبُني على جذع ، ثم خذ سهماً من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبِد القوس ، ثم قل : بسم الله رب الغُلام ، ثم ارمني ، فإنك إن فعلتَ ذلك قتَلْتَني . فجمع الناس في صعيدٍ واحد وصلَبَه على جذع ، ثم أخذَ سهماً من كنانته ، ثمّ وضع السهم في كبِد القوس ، ثم قال : بسم الله ربِّ الغُلام ، ثم رماه فوقع السهم في صُدغِه ، فوضع يدَهُ في صُدغه فمات ، فقال الناس : آمنّا برب الغلام ، فأُتي الملك فقيل له : أرأيت ماكُنتَ تحذَر ؛ قد والله نزل بكَ حذرُكْ . قد آمن الناس . فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخُدّت وأُضرم فيها النيران ، وقال :  من لم يرجع عن دينِه فأقحموه فيها ، أو قيل له : اقتحم ، ففعلوا حتى جاءت امراة ومعها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : " ياأماه اصبري فإنّك على الحق " .

فثبت الله ممن ابتُلي على الحق حتى لقي الله صابراً محتسباً ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضل الله الظالمين ويفعلُ الله مايشاء ) فليس أعداء الله عذابهم مثل عذاب الله ولا يُقاربُه ، ولذا من الجهل أن يعتقد البعض أن مايملكُه أعداء هذا الدين وأعداء أهله من السطوة والتعذيب وإن طال ذلك أنه يستحق أن يرجع المرء عن دينه بسببه يقول جل وعلا : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصرٌ من ربك ليقولُّن إنا كنّا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 

=============== الخطبة الثانية ============== 

الحمدلله له حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على المبعوث بالبرّ والتقوى ، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه ، ومن على الحق استقام ومن معينه ارتوى .. أما بعد : 

عباد الله : العدوان والظلم ليس هو حصرٌ من طرف الكفار والمشركين على المؤمنين فقط ولكنه يكون بين الكفار أنفسهم ، والواقع والتأريخ يشهد ويروي ، والمؤرخون يدونون ويكتبون ، وكلٌ لربهم يبعثون ويحاسبون ، والله قد تكفل بالنصرة لعباده وأوليائه وهو عزيزٌ ذو انتقام ( أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيزٍ ذي انتقام ) والله يُدافع عن الذين آمنوا كما أخبر في كتابه ومن اعتدى على ولي من أولياء الله فقد آذنه ربه بالحرب ، وذلك نص الحديث القدسي : " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب . .. " والله قد توعّد من يفتن المؤمنين في دينهم بالعذاب الشديد والنكال ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذابُ جهنّم ولهم عذاب الحريق ) ومن فتنة المؤمنين ظُلمهم وأذيتهم فاحذر أن تقع في مثل ذلك بأي سبيل . . ومن المبشرات لهذه الأمة مع وجود الفتن ماروى الإمام أحمد في مسنده وأبوداود في سننه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أمتي أمّةٌ مرحومة ، ليس عليها في الآخرة عذاب ، إنما عذابُها في الدنيا القتل والبلابل والزلازل " قال أبو النضر : " بالزلازل والقتل والفتن " أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه الحاكم والذهبي . 

وقد أخبر بعض أهل العلم  بأن الحديث مصحح وأنه يجرى مجرى الغالب في هذه الأمة وأنه ثبت العذاب في الآخرة لأهل الكبائر من هذه الأمة . . فاللهم جنبنا المنكرات واقتراف الخطايا والسيئات وأصلح قلوبنا وأعمالنا في الخلوات والجلوات يارب الأرض والسماوات . . ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . . 

المشاهدات 1970 | التعليقات 0