خطبة عن أراكان الجريحة للشيخ إبراهيم الحقيل بتصرف يسير
عبدالرحمن اللهيبي
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ فَضَّلَ أُمَّةَ الإِسْلاَمِ عَلَى سَائِرِ الأُمَمِ، وَاخْتَصَّهَا بِخَصَائِصَ لَيْسَتْ لِسِوَاهَا؛ [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى آلاَئِهِ، ونستلهمه الصبر على بلائه, والعافية من لأوائه وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ رَحِمَ أُمَّةَ الإِسْلاَمِ فَجَعَلَ عَذَابَهَا فِي الدُّنْيَا؛ لِيُخَفِّفَ عَنْهَا عَذَابَ الآخِرَةِ، وَأَعْطَاهَا مِنْ كَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهَا؛ «فمَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ رَحِمَ أُمَّتَهُ فَحَرَصَ عَلَيْهَا، وَادَّخَرَ دَعْوَتَهُ شَفَاعَةً لَهَا، وَأَلَحَّ عَلَى اللهِ تَعَالَى يَسْأَلُهُ نَجَاتَهَا؛ «وَقَالَ: اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ»، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوبَكُمْ، وَأَصْلِحُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ؛ واسألوه الفرج للمستضعفين من إخوانكم وإِنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا خُبِّئَ لَكُمْ، وَلاَ تَدْرُونَ في غدكم مَا يَحِلُّ بِكُمْ ؛ [وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ]
أَيُّهَا النَّاسُ: أُمَّةُ الإِسْلاَمِ أُمَّةٌ ذَاتُ تَارِيخٍ طَوِيلٍ عَرِيقٍ، بَذَلَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى مَا لَمْ تَبْذُلْهُ أُمَّةٌ قَبْلَهَا، وَذَاقَتْ مِنَ الابْتِلاَءِ مَا لَمْ يَذُقْهُ أَحَدٌ سِوَاهَا، وَعَالَجَتْ مِنَ شدة الأَعْدَاءِ مَا لَمْ تُعَالِجْهُ أُمَّةٌ سَبَقَتْهَا؛ وَلِذَا حَظِيَتْ بِمَنْزِلَةٍ لَمْ يَحْظَ بِهَا أُمَّةٌ غَيْرُهَا، وكفر من سيئات أهلها مالم يكفر عن غيرها، ورفع من درجاتهم ما لم يرفع لغيرها، وَهِيَ أُمَّةٌ منصورة لها العاقبة والتمكين وستَبْقَى إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ؛ وَهِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَزْكَاهَا فَكَانَ ابْتِلاؤُهَا سببا لِاصْطِفَائِهَا.
وَكُلُّ ابْتِلاءٍ وَتَعْذِيبٍ وَقَتْلٍ وَصَلْبٍ وَحَرْقٍ وَتَمْزِيقٍ لِلْأَجْسَادِ أَصَابَ نَفَرًا مِنَ هذه الأمة إنما هُوَ تَخْفِيفٌ عَنْهَا فِي الدَّارِ الآخِرَةِ؛ فَابْتِلاءَاتُ الدُّنْيَا كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال :«أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّة مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالمَعْنَى: أَنَّ غَالِبَ عَذَابِهِمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالمِحَنِ والقتل وَالأَمْرَاضِ وَأَنْوَاعِ البَلاَيَا وَالهُمُومِ.
إِنَّ مَنْ اسْتَعْرَضَ تَارِيخَ هَذِهِ الأُمَّةِ يَجِدُ أَنَّهُا عُذِّبَتْ بِأَيْدِي الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ عَذَابًا لَمْ يُعَذَّبْهُ أَحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ، وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ تَارِيخَ الصَّليِبِيِّينَ وَمَا فَعَلُوهُ بِالمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ وَسَائِرِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَاقْرَؤُوا تَارِيخَ الزَّحْفِ التَّتَرِيِّ مِنْ خَوَارِزْمَ إِلَى بَغْدَادَ، وَمَا فَعَلُوهُ بِالمُسْلِمِينَ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالقَتْلِ وَهَتْكِ الأَعْرَاضِ، وَاقْرَؤُوا تَارِيخَ سُقُوطِ الأَنْدَلُسِ وَمَحَاكِمِ التَّفْتِيشِ الَّتِي تَفَنَّنَ الرُّهْبَانُ وَأَتْبَاعُهُمْ فِي تَعْذِيبِ المُسْلِمِينَ فِيهَا، حَتِّى إِنَّ أَدَوَاتَ التَّعْذِيبِ وَأَسَالِيَبَهُ لاَ تَخْطُرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ
ولعظيم شناعتها لا زالت الصور والآلات مَحْفُوظَةٌ فِي المَتَاحِفِ الأُورُبِيَّةِ، وَاقْرَؤُوا تَارِيخَ الاسْتِعْمَارِ وَمَا فَعَلَهُ المُسْتَعْمِرُونَ بِالمُسْلِمِينَ لَمَّا احْتَلُّوا بُلْدَانَهُمْ، وَاقْرَؤُوا تَارِيخَ النَّكْبَةِ الفِلَسْطِينِيَّةِ وَمَا فَعَلَهُ اليَهُودُ بِأَهْلِهَا مِنَ القَتْلِ وَالتَّعْذِيبِ وَالتَّهْجِيرِ!
وَأَمَّا ابْتِلاءُ الأُمَّةِ بِالفِرَقِ وَالطَّوَائِفِ البَاطِنِيَّةِ الخَائِنَةِ، فَهُوَ ابْتِلاَءٌ خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الأُمَمِ، فاسْتَبَاحَ العُبَيْدِيُّونَ فِي القَرْنِ الرَّابِعِ بِلاَدَ المَغْرِبِ وَالشَّامِ، وَمَا فَعَلُوهُ بِالمُسْلِمِينَ فِيهَا يُضَاهِي فِعْلَ الصَّلِيبِيِّينَ، وَفِي القَرْنِ الرَّابِعِ قَتَلَ القَرَامِطَةُ الحَجَّاجَ فِي حَرَمِ اللهِ تَعَالَى، وَعَطَّلُوا الحَجَّ ذَاكَ العَامَ، وَأَسَالُوا الدِّمَاءَ فِي صَحْنِ الكَعْبَةِ، وَمَا فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الإِمَامِيَّةِ وَالإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالدُّرُوزِ وَغَيْرُهُمْ كَثِيرٌ، وَكَثِيرٌ جِدًّا.
هَذِهِ النَّوَازِلُ العَظِيمَةُ نَزَلَتْ بِأَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي مُخْتَلَفِ الأَزْمَانِ وَالأَقْطَارِ، وَجُلُّ المُسْلِمِينَ عَلَى الحَقِّ ثَابِتُونَ، لَمْ يُغَيِّرُوا دِينَهُمْ لِأَجْلِ مَا أَصَابَهُمْ ؛ بَلْ كَانُوا يَهْرَعُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالضَّرَاعَةِ وَالدُّعَاءَ، إنها لأَحْدَاثٌ جِسَامٌ، وَنَوَازِلُ كبار، وَابْتِلاَءٌات عظام، دَوَّنَهُ المُؤَرِّخُونَ المُسْلِمُونَ فِي تَوَارِيخِهِمْ وَقُلُوبُهُمْ تَتَقَطَّعُ، وَمَدَامِعُهُمْ تَسِيلُ.
فهذا المُؤَرِّخُ ابْنُ الأَثِيرِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يروي بَعْضَ أَفْعَالِ التَّتَرِ ، وَأَفْعَالِ الصَّلِيبِيِّينَ فِي الشَّامِ وَدُمْيَاطَ، ثُمَّ قَالَ وَهُوَ يُدَوِّنُ ذَلِكَ: وَتَاللَّهِ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَنَا، وَيَرَى هَذِهِ الحوادث مَسْطُورَةً سيُنْكِرُهَا، وَيَسْتَبْعِدُهَا.ا هـ.
رَحِمَكَ اللهُ يَا ابْنَ الأَثِيرِ، تَظُنُّ أَنَّنَا نَسْتَبْعِدُ مَا قَدْ دَوَّنْتَ في تاريخك مِنْ أَفْعَالِ التَّتَرِ وَالصَّلِيبِيِّينَ بِالمُسْلِمِينَ، لِفَدَاحَةِ مَا قَدْ وقع على المسلمين من مذابح ومجازر في زمانك؛ فَدَعْنَا نُخْبِرُكَ بِأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا فِي زَمَانِنَا هَذَا وبَعْدَ زَمَنِكَ بثَمَانِيَةٍ قُرُونٍ مَا يَجُلُّ عَنِ الوَصْفِ، وَيَسْتَعْصِي عَلَى التصديق به مِنْ مَذَابِحِ ومجازر فظيعة حلت بالمُسْلِمِينَ!
رَأَيْنَا أَفْغَانِسْتَانَ يَحْتَلُّهَا الشُّيُوعِيُّونَ فَيَقْتُلُونَ فِيهَا مِلْيُونَيْ مُسْلِمٍ، وَرَأَيْنَاهَا تُحْتَلُّ بَعْد ذَلِكَ مِنْ عُبَّادِ الصَّلِيبِ فَيَقْتُلُونَ وَيُفْسِدُونَ، وَرَأَيْنَا دُوَلَ البَلْقَانَ يَفْتَرِسُهَا الصِّرْبُ وَالكُرْوَاتُ فَيَسْتَبِيحُونَ حَرِيمَ المُسْلِمِينَ وَأَطْفَالَهُمْ، وَيُبِيدُونَ رِجَالَهُمْ، وَرَأَيْنَا العِرَاقَ وَقَدْ دَكَّتْهُ قُوَّاتُ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ فَأَرْجَعَتْهُ إِلَى الوَرَاءِ مِئَاتِ السِّنِينَ، ثُمَّ سَلَّمَتْهُ للرافضة الْبَاطِنِيِّينَ، وَرَأَيْنَا اليَهُودَ يَعِيثُونَ فِي فِلَسْطِينَ فَيَقْتُلُونَ وَيُدَمِّرُونَ، وَرَأَيْنَا الهِنْدُوسَ فِي الهِنْدِ يَهْدِمُونَ مَسَاجِدَ المُسْلِمِينَ ويحرقونها، وَيَبْنُونَ عَلَى أَنْقَاضِهَا مَعَابِدَهُمْ، وَيَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ، وَرَأْينَا الْبُوذِيِّينَ يُرْهِبُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي تُرْكِسْتَانَ، وَيُضَيِّقُونَ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَيُهَجِّرُونَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَرَأَيْنَا إِخْوَانَهُمْ فِي بورما يُعَذِّبُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرَاكَانَ، وَيُقَطِّعُونَ أَجْسَادَهُمْ وأطرافهم، وَيَحْرِقُونَ أَطْفَالَهُمْ، وَيَهْدِمُونَ مَنَازِلَهُمْ، وَيَبُثُّونَ الرُّعْبَ فِيهِمْ؛ لِيُهَجِّرُوهُمْ عَنْ دِيَارِهِمْ، وَلَا زَالُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ، وَرَأَيْنَا النُّصَيْرِيَّةَ قَدِ اسْتَبَاحُوا بِلَادَ الشَّامِ، فَمَزَّقُوا الْأَطْفَالَ، وَاغْتَصَبُوا النِّسَاءَ، وَعَذَّبُوا الرِّجَالَ، وَفَعَلُوا الْأَفَاعِيلَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ، كَمَا يَفْعَلُ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْأَحْوَازِ!
لَقَدْ عُذِّبَتْ أُمَّةُ الإِسْلاَمِ عَلَى دِينِهَا فِي تَارِيخِهَا الطَّوِيلِ عَذَابًا لَمْ يُعَذَّبْهُ أَحَدٌ قَبْلَهَا، وكل ذلك سعيا من الْأَعْدَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لإِبَادَتَهَا، وَإِنْهَاءَ وُجُودِهَا، وَطَيَّ صَفْحَةِ تَارِيخِهَا، لَكِنْ خَابَ سَعْيُهُمْ، وَبَطَلَ كَيْدُهُمْ؛ وَكَمَا أَنَّ الابْتِلَاءَ بِالْأَعْدَاءِ قَدَرُ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَسُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا؛ فَإِنَّ قَدَرَهَا أَيْضًا وَسُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِيهَا أَنْ تَبْقَى إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لَهَا، وَلَنْ يُفْلِحَ الْأَعْدَاءُ مهما بذلوا من إنهاء وُجُودَهَا؛ وَدَلِيلُ هَذِهِ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا"؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
لَقَدْ هُجِّرَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَتَمَّ تَنْصِيرُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى ظَنَّ الناس أَنَّ الْإِسْلاَمَ قَدِ انْتَهَى مِنْ إِسْبَانْيَا، لَكِنَّهُ عَادَ بِقُوَّةٍ لِيَنْتَشِرَ لَيْسَ فِي إِسْبَانْيَا فَقَطْ بل فِي أُورُبَّا بِأَكْمَلِهَا ، وَهُوَ الْآنَ يُهَدِّدُ أُورُبَّا بِتَغْيِيرِ دِيمُغْرَافِيَّتِهَا لِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَنْتَشِرُ فِيهَا انْتِشَارًا كَبِيرًا أَفْزَعَ الْمَلَاحِدَةَ وَالصَّلِيبِيِّينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَمن بعدهم هَجَّرَ الزَّعِيمُ الشُّيُوعِيُّ سَتَالِينُ مُسْلِمِي الْقُوقَازِ إِلَى سَيْبِيرْيَا لِيَمُوتُوا تَحْتَ الْجَلِيدِ، فَنَقَلُوا الْإِسْلاَمَ إِلَى قَبَائِلِ سَيْبِيرْيَا الْوَثَنِيَّةِ، وَانْتَشَرَ دِينُ اللهِ تَعَالَى فِيهَا.. فانتهت الشيوعية وبقي الإسلام وازداد انتشارا
وَغَرَسَتِ العَلْمَانِيَّةُ أَنْيَابَهَا وَمَخَالِبَهَا فِي تركيا ومِصْرَ وَتُونُسَ وغيرها من بلاد المسلمين زُهَاءَ مِئَةِ سَنَةٍ وَزِيَادَةٍ فقضوا على الحجاب وكثيرٍ من شعائر الدين حَتَى ظَنُّوا أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ لها .. فَعَادَ النَّاسُ إِلَى دِينِ الله تَعَالَى، وَللهِ تَعَالَى تَدْابِيرُ لَا يَرُدُّهَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَقَدَرُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَبْقَى أُمَّةُ الإِسْلاَمِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنْ تَمْلِكَ الْأَرْضَ كُلَّهَا، وَأن تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لَهَا؛ [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ]
بَارَكَ اللهِ لِي وَلَكُمْ.
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَا دَامَ أَنَّ الابْتِلَاءَ قَدَرٌ مَحْتُومٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ ، وَسُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وَمَا دَامَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سيَبْقُونَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، فَإِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاجِبًا تُجَاهَ كُلِّ سُنَّةٍ مِنْ هَاتَيْنِ السَّنَتَيْنِ الرَّبَّانِيَّتَيْنِ:
فَأَمَّا وَاجِبُهُ تُجَاهَ سُنَّةِ بَقَاءِ الإِسْلاَمِ فَهِيَ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ الْحَيدَةِ عِنْهُ، مَهْمَا عَظُمَ الابْتِلَاءُ، وَاشْتَدَّتِ الْمِحْنَةُ؛ ذَلِكَ أَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى مَنْصُورٌ، وَإِنْ تَخَاذَلَ الْمُتَخَاذِلُونَ، وَارْتَدَّ الْمُرْتَدُّونَ.
وَأَمَّا وَاجِبُ المسلم تُجَاهَ سُنَّةِ الابْتِلَاءِ بِالْأَعْدَاءِ فَمُقَارَعَتُهُمْ وَمُدَافَعَتُهُمْ، وَعَدَمُ الاسْتِسْلَامِ لَهُمْ، وَمَعُونَةُ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِم البلاء ، وَالْحَذَرُ مِنْ خِذْلَانِهِمْ، وَالتَّخَلِّي عَنْهُمْ أَوْ إِسْلَامِهِمْ لِأَعْدَائِهِمْ؛ فَإِنَّ المْسُلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَخْذُلُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ.
وَإِنَّ إِخْوَانًا لَكُمْ يَزِيدُونَ عَلَى سَبْعَةِ مَلَايِينَ مُسْلِمٍ فِي بورما، قَدْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْبُوذِيُّونَ بِالْقَتْلِ وَالتَّهْجِيرِ، يُرِيدُونَ مَحْوَ أَنْوَارِ الْإِسْلاَمِ وحتى تكون البلاد خالصة لِلْبُوذِيَّةِ الْوَثَنِيَّةِ، مع العلم أن إِقْلِيمَ أَرَاكَانَ والَّذِي يقطنه المسلمون كَانَ خاَلِصًا لِلْمُسْلِمِينَ وتحت حكمهم...
بل ظَلَّ يحكمُه المسلمون ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَنِصْفَ حَتَّى احْتَلَّهُ الْبُوذِيُّونَ قَبْلَ مئتي عام تقريبا؛ وَقَبْلَ سَبْعِينَ سَنَةً عَزَمَ الْبُوذِيُّونَ عَلَى إِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مِئَةَ أَلْفِ نَفْسٍ، وَلَمْ يَتَوَرَّعُوا عَنْ قَتْلِ الشُّيُوخِ وَالنِّسَاءِ وَذَبْحِ الْأَطْفَالِ، وإحراقهم وإحراق قراهم, وَتَشْرِيدِ عَشَرَاتِ الْآلَافِ مِنَ الْأُسَرِ؛ لِأَنَّ مَحْوَ الْإِسْلاَمِ مِنَ الْإَقَلِيمِ ظَلَّ حُلْمًا يُرَاوِدُ الْبُوذِيِّينَ مُنْذُ احْتِلَالِهِمْ لَهُ إِلَى الْيَوْمِ.
فابْتِلَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي بورما بِالْبُوذِيِّينَ عَظِيمٌ، وَتَسَلُّطُهُمْ عَلَيْهِمْ كَبِيرٌ؛ حَتَّى إِنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الزَّوَاجِ إِلَّا بِإِذْنٍ حُكُومِيٍّ مُعَقَّدٍ، وَبِرُسُومٍ مَالِيَّةٍ تُثْقِلُهُمْ، وَيَسْجُنُونَهُمْ عَلَى الزَّوَاجِ بِلَا إِذْنٍ حُكُومِيٍّ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ، وَهِيَ سَابِقَةٌ مِنَ الاضْطِهَادِ لَا نَعْلَمُ لَهَا وُقُوعًا فِي غَيْرِ هَذَه الدولة البوذية، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمْ، بِمَنْعِ نَسْلِهِمْ، وَقَتْلِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ، وَتَهْجِيرِهِمْ، حَتَّى يُفْرِغُوا الْإِقْلِيمَ مِنْهُمْ، وَزَادُوا عَلَى ذَلِكَ بِمَنْعِهِمْ مِنَ التَّعْلِيمِ وَالْعَمَلِ الْحُكُومِيِّ!
وَمِنْ قَوَانِينِهِمُ العجيبة الْجَائِرَةِ أَنَّهُ لَا يُسْمَحُ لِلْمُسْلِمِينَ بِاسْتِضَافَةِ أَحَدٍ فِي بُيُوتِهِمْ، وَلَوُ كَانُوا أَشِقَّاء أَوْ أَقَارِبَ إِلَّا بِإِذْنٍ مَسْبُقٍ، وأَمَّا الْمَبِيتُ فَيُمْنَعُ مَنْعًا بَاتًّا، وَيُعْتَبَرُ جَرِيمَةً كُبْرَى رُبَّمَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا بِهَدْمِ مَنْزِلِهِ أَوِ اعْتِقَالِهِ أَوْ طَرْدِهِ مِنَ الْبِلَادِ هُوَ وَأُسْرَتُهُ! وَيُحْرَمُ كَذَلِكَ أَبْنَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُوَاصَلَةِ التَّعْلُّمِ فِي الْكُلِّيَّاتِ وَالْجَامِعَاتِ، وَمَنْ يَذْهَبُ لِلْخَارِجِ يُطْوَى قَيْدُهُ مِنْ السِجِلَّاتِ ، أَمَّا إِذَا عَادَ فَيُعْتَقَلُ عِنْدَ عَوْدَتِهِ، وَيُرْمَى بِهِ فِي غَيَاهِبِ السُّجُونِ! وَلَا يُسْمَحُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالانْتِقَالِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخِر دُونَ تَصْرِيحٍ، وَهُوَ مَا يَصْعُبُ الْحُصُولُ عَلَيْهِ، كَمَا يَتِمُّ حَجْزُ جَوَازَاتِ السَّفَرِ الْخَاصَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ لَدَى الْحُكُومَةِ، وَلَا يُسْمَحُ لَهُمْ بِالسَّفَرِ لِلْخَارِجِ إِلَّا بِإِذْنٍ رَسْمِيٍّ، وَيُعْتَبَرُ السَّفَرُ إِلَى عَاصِمَةِ الدَّوْلَةِ (رانغون)، أَوْ أَيْةِ مَدِينَةٍ أُخْرَى جَرِيمَةً يُعَاقَبُ عَلَيْهَا! هَذَا غَيْرُ هَدْمِ مَسَاجِدِهِمْ وَمَدَارِسِهِمُ الدِّينِيَّةِ.
وَإِزَاءَ هَذَا الاضْطِهَادِ وَصَفَتْهُمُ الْأُمَمُ الْمُتَّحِدَةُ بِأَنَّهُمْ إِحْدَى أَكْثَرِ الْأَقَلِّيَّاتِ تَعَرُّضًا للاضْطِهَادِ فِي الْعَالَمِ، لَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا لِأَجْلِهِمْ.
كُلُّ هَذَا وَأَشَدُّ مِنْهُ يُفْعَلُ بِإِخْوَانِنِا الْمُسْلِمِينَ هناك، وَالْمُسْلِمُونَ فِي الْأَرْضِ يُقَارِبُونَ مِلْيَارَ مُسْلِمٍ وَنِصْفَ الْمِلْيَارِ، وَلَا يَنْصُرُونَهُمْ! فَأَيْنَ ابْنُ الْأَثِيرِ ليَنْظُر إِلَى حَالِهِمْ، وَيُدَوِّنُ ذَلِكَ فِي تَارِيخِهِ، وَيَعْجَبُ مِنَّا أَكْثَرَ مِنْ عَجَبِهِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ؟!
فَلْنَتَّقِ اللهَ عِبَادَ اللهِ فِي إِخْوَانِنَا، علينا نصرتهم لا خذلانهم , علينا توليهم لا التخلي عنهم , علينا دعم قضيتهم والدعاء لهم لا مجافاتهم والغفلة عنهم وَلَنَنْصُرْهُمْ بِمَا نَسْتَطِيعُ مِنْ نُصْرَةٍ، فَإِنَّ مَنْ نَصَرَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَآسِيهِمْ فَإِنَّمَا يَنْصُرُ نَفْسَهُ، وَيُطِيعُ رَبَّهُ، وَمَنْ خَذَلَهُمْ فَإِنَّمَا يَخْذُلُ نَفْسَهُ، وَيُغْضِبُ رَبَّهُ؛ [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] , { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } وَ «تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِر جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا.