(خطبة) عمل اليقين وأثره على العمل

خالد الشايع
1441/03/03 - 2019/10/31 22:48PM

خطبة الأولى ( فضل اليقين وأثره في العمل )         4/3/1441

أما بعد فيا أيها الناس : إن الأعمال تنقسم إلى أعمال جوارح وأعمال قلوب ، وأعمال القلوب أعلى مرتبة عند الله ، وما شرعت أعمال الجوارح إلا من أجل أعمال القلوب ، فبأعمال القلوب يتفاوت الناس في منزلتهم عند الله تعالى ، لذا وجب على العبد أن يعتني بها ، وأن يسابق فيها ، فكثير من الناس يعتني بأعمال الجوارح ويغفل عن أعمال القلوب .

معاشر المؤمنين : إن من أجل أعمال القلوب التي ينبغي للمؤمن أن يعتني بها عمل اليقين ، وهو عمل قلبي ، يحتاج عناية وتثبتا ، فبه ترتفع الدرجات ، وتكثر الأعطيات ، ويسبق المرء من حوله من الناس ، إن عمل اليقين عمل عظيم ، فإن اليقين شعبة عظيمة من شعب الإيمان , وصفة من صفات أهل التقوى والإحسان , قال تعالى : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) سورة لقمان .ولربما يتساءل البعض ، ما اليقين ؟

فنقول قال الإمام السعدي رحمه الله : "هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل. تفسير السعدي 40. قال الشاعر :

وقد أتاك يقين غير ذي عوج * * * من الإله وقول غير مكذوب

وقال البيهقي : " اليقين هو سكون القلب عند العمل بما صدق به القلب فالقلب مطمئن ليس فيه تخويف من الشيطان ولا يؤثر فيه تخوف فالقلب ساكن آمن ليس يخاف من الدنيا قليلا ولا كثيرا . الزهد الكبير 1/352.قال ابن القيم رحمه الله في 'زاد المعاد' : لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه' انظر: مدارج السالكين 2/397 .واليقين عده البعض الإيمان كله , قال بعض السلف : الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله" , وقال ابن القيم :" اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم'[ مدارج السالكين 2/397) . ولهذا قال أبو بكر الوراق رحمه الله:'اليقين ملاك القلب، وبه كمال الإيمان، وباليقين عُرف الله، وبالعقل عُقل عن الله "

ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ما أَخْرَجَهُ الترمذي (3502) "النَّسَائي" في عمل اليوم والليلة (402) من حديث ابن عمر رضي الله عنه .: "اللهم اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ , وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ , وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا "ولقد ضرب أنبياء الله ورسله الكرام المثل الأعلى في اليقين وحسن الثقة بالله تعالى , فها هو الخليل إبراهيم عليه وسلم حينما حاجه قومه قال لهم في يقين وثبات : " أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) سورة الأنعام .وها هو كليم الله موسى عليه السلام يقول لأصحابه حينما أدركهم فرعون فوجدوا البحر من أمامهم والعدو من ورائهم : " فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) سورة الشعراء . وهذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهما في الغار وقد أحدقت بهما الأخطار " ما ظنك باثنين الله ثالثهما , لا تحزن إن الله معنا" قال القرطبي : صير الله هذه الدنيا بما فيها سببا للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم، فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم فلا بيت حمام يزعجه ولا بيت عروس يستفزه، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى أن جميع نعيم الدنيا في أعينهم كنثارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كقتلة عوقب بها مجرم أو مسئ قد كان استوجب بها القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا. تفسير القرطبي 12 /225 .ولليقين مراتب منها : العلم , وحسن التوكل , والرضا والتسليم , وعدم تعلق القلب بغير الله , وأن يكون أوثق بما في يد الله تعالى عما هو في يده

اللهم ارزقنا اليقين يارب العالمين ، أقول قولي هذا ............

                                        الخطبة الثانية

أما بعد فيا أيها الناس : اتقوا الله ، وثقوا به ، وآمنوا بموعوده ، وأيقنوا بما عنده ، فباليقين يتفاضل الناس ، قال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله : والله ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة و صيام ولكن بشيء وقر في قلبه .

هذا الذي وقر في قلبه هو اليقين ، كان يقينه أعظم يقين في الصحابة رضوان الله عليهم

فاليقين يدعو المسلم للعمل والإخلاص ، قال ابن المبارك : ما رأيت رجلا ارتفع مثل مالك بن أنس ، ليس له كثير صلاة ولا صيام ، إلا أن تكون له سريرة .

ولما سئل رحمه الله عن ابن أدهم ؟ فقال : له فضل في نفسه ، كان صاحب سرائر .

عباد الله : ينبغي لنا أن نتعلم اليقين ، ونعلمه لمن تحت أيدينا ، قال خالد بن معدان : تعلموا اليقين كما تتعلمون القرآن حتى تعرفوه ، فإني أتعلمه .

إن الحسنات وإن قلت ، إذا اقترنت باليقين عظمت عند الله ، وكفرت الذنوب ، قال ابن تيمية : والحسنة الواحدة قد يقترن بها من الصدق واليقين ، ما يجعلها تكفر الكبائر .

إن اليقين يبعد بالمرء عن الرياء وعن الكبر والغرور ، قال أبو ذر رضي الله عنه : ولمثقال ذرة من بر من صاحب تقوى ويقين ، أفضل وأرجح وأعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين .

عباد الله : إن اليقين يرفع العمل ويجعله مقبولا ، وعمل بلا يقين يكون في أسفل سافلين ، أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم : ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة .

فمن دعا وهو موقن بأن الله سيجيب دعائه ، استجاب الله له ، وأما الشاك المرتاب ، القانط ، فلا يلتفت إليه .

ومن كان ذا هم أو مصيبة ، أو تكالبت عليه الدنيا ، فلينفض عنه ذلك باليقين ، فهو سبب رئيس لتهوين المصائب ، فمن دعائه صلى الله عليه وسلم ( ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا )

واليقين يجعل الإنسان يعيش سعيدا ، ولو كان من أفقر الخلق ، عزيزا ولو كان مهانا في الدنيا لا ينظر إليه ، لأنه على يقين بما له عند الله (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين)

وباليقين تنال الإمامة في الدين ، قال ابن تيمية : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .

وصدق رحمه الله ، فالصبر يسد منافذ الشهوات ، واليقين يسد أبواب الشبهات ، ومن أغلق هذين البابين استحق الإمامة في الدين .

وكلما ازداد يقينك ، كلما تبينت لك آيات الله ، واستنار قلبك بها ( وفي الأرض آيات للموقنين ) وقال ( قد بينا الآيات لقوم يوقنون )

معاشر المؤمنين : تعلموا عبادة اليقين ، لتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة وتكونوا من المفلحين .

اللهم ارزقنا يقينا يخالط قلوبنا ، واغفر لنا ذنوبنا ....

المشاهدات 1482 | التعليقات 0