خطبة : ( عشر رمضان وإحسان العمل )
عبدالله البصري
1433/09/21 - 2012/08/09 15:21PM
عشر رمضان وإحسان العمل 22 / 9 / 1433
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَكُلُوا مِن رِزقِهِ وَاشكُرُوا لَهُ وَلا تَكفُرُوهُ " لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَا مِن مُسلِمٍ يَشهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ وَيَلتَزِمُ شَرَائِعَ الإِسلامِ ، فَيُصلِي وَيَصُومُ وَيُؤَدِّي حَقَّ اللهِ عَلَيهِ في مَالِهِ وَيَحُجُّ وَيَعتَمِرُ ، وَيَفعَلُ الخَيرَ جُهدَهُ وَيَتَحَرَّى البِرَّ طَاقَتَهُ ، إِلاَّ وَهُوَ يَرجُو رَحمَةَ اللهِ ، نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِنَّ السَّائِرِينَ إِلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مَهمَا اختَلَفَتِ الطُّرُقُ الَّتي يَسلُكُونَهَا بَعدَ المُحَافَظَةِ عَلَى أَركَانِ الإِسلامِ وَوَاجِبَاتِهِ الظَّاهِرَةِ ، فَإِنَّ مَقصِدَهُم تَحصِيلُ رَحمَةِ اللهِ وَالفَوزُ بِجَنَّتِهِ " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرجُونَ رَحمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "
أَفَتَدرُونُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ مَن هُم أَقرَبُ النَّاسِ مِن رَحمَةِ اللهِ وَمَن أُولَئِكَ المُستَحِقُّونَ لها ؟!
إِنَّهُمُ المُحسِنُونَ ، نَعَم ، إِنَّهُمُ المُحسِنُونَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلا تُفسِدُوا في الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِهَا وَادعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ "
فَمَن هُمُ المُحسِنُونَ ـ يَا عِبَادَ اللهِ ـ ؟!
إِنَّ مِن أَخَصِّ صِفَاتِهِم مَا وَرَدَ في الآيَةِ السَّابِقَةِ ، مِن أَنَّهُم أَهلُ الإِصلاحِ في الأَرضِ وَعَدَمِ الإِفسَادِ ، وَشَرُّ الإِفسَادِ في الأَرضِ هُوَ إِتيَانُ المَعَاصِي وَاقتِرَافُ السَّيِّئَاتِ وَالمُوبِقَاتِ ، وَأَعظَمُ الإِصلاحِ لها فِعلُ الطَّاعَاتِ وَالتَّزَوُّدُ مِنَ الحَسَنَاتِ وَالاستِكثَارُ مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالحَاتِ ، فَإِنَّ المَعَاصِيَ وَالسَّيِئَاتِ تُفسِدُ الأَعمَالَ وَالأَخلاقَ ، وَتُنَغِّصُ المَعَايَشَ وَتُضَيِّقُ الأَرزَاقَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا "
وَأَمَّا الطَّاعَاتُ وَالصَّالحَاتُ ، فَبِهَا تَصلُحُ الأَخلاقُ وَتَزكُو الأَعمَالُ ، وَتَتَّسِعُ الأَرزَاقُ وَيُفسَحُ في الآجَالِ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ أَهلَ الإِحسَانِ حَرِيصُونَ عَلَى الاستِكثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالصَّالحَاتِ ، بَعِيدُونَ عَنِ الإِصرَارِ عَلَى المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ ، ثم هُم مَعَ ذَلِكَ شَدِيدُو اللَّجَأِ إِلى رَبِّهِم ـ جَلَّ وَعَلا ـ يَدعُونَهُ دُعَاءَ عِبَادَةٍ بِأَفعَالِهِم وَأَحوَالِهِم ، وَدُعَاءَ مَسأَلَةٍ بِتَضَرُّعِهِم وَأَقوَالِهِم ، خَوفًا مِن عِقَابِهِ وَطَمَعًا في ثَوَابِهِ ، لا يَستَكثِرُونَ عَلَيهِ أَعمَالَهُم الصَّالحَةَ مَهمَا عَظُمَت أَو تَنَوَّعَت ، وَلا يَمُنُّونَ بما قَدَّمُوا وَلا يُعجَبُونَ بِأَنفُسِهِم ، وَلا يَدعُونَ دُعَاءَ مَن هُوَ غَافِلٌ لاهٍ مُلتِفَتٌ عَن رَبِّهِ ، وَلَكِنَّهُم يَطمَعُونَ في قَبُولِ أَعمَالِهِم وَدَعَوَاتِهِم بِرَحمَةِ رَبِّهِم ، وَيَخَافُونَ مِن رَدِّهَا بِسَيِئٍ فَعَلُوهُ أَو تَقصِيرٍ أَتَوهُ . وَهُم مَعَ إِحسَانِهِم في عِبَادَةِ رَبِّهِم مُحسِنُونَ إِلى خَلقِهِ ، لِعِلمِهِم وِيَقِينِهِم أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ العَبدُ أَكثَرَ إِحسَانًا ، كَانَ رَبُّهُ قَرِيبًا مِنهُ بِرَحمَتِهِ وَمَعِيَّتِهِ ، وَمَن كَانَ مِنَ اللهِ قَرِيبًا وَكَانَ اللهُ مِنهُ قَرِيبًا ، كَانَ إِلَيهِ حَبِيبًا وَكَانَ ـ تعالى ـ لَهُ مُجِيبًا . قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَإِنَّمَا اُختُصَّ أَهلُ الإِحسَانِ بِقُربِ الرَّحمَةِ لأَنَّهَا إحسَانٌ مِن اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَرحَمِ الرَّاحِمِينَ ، وَإِحسَانُهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ إنَّمَا يَكُونُ لأَهلِ الإِحسَانِ ؛ لأَنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ ، وَكُلَّمَا أَحسَنُوا بِأَعمَالِهِم أَحسَنَ إلَيهِم بِرَحمَتِهِ ، وَأَمَّا مَن لم يَكُن مِن أَهلِ الإِحسَانِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَعُدَ عَن الإِحسَانِ بَعُدَت عَنهُ الرَّحمَةُ ، بُعدٌ بِبُعدٍ وَقُربٌ بِقُربٍ ، فَمَن تَقَرَّبَ إلَيهِ بِالإِحسَانِ تَقَرَّبَ اللهُ إلَيهِ بِرَحمَتِهِ ، وَمَن تَبَاعَدَ عَن الإِحسَانِ تَبَاعَدَ اللهُ عَنهُ بِرَحمَتِهِ . انتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ .
وَمِن صِفَاتِ المُحسِنِينَ مَا وَصَفَهُم بِهِ رَبُّهُم حَيثُ قَالَ : " إِنَّ المُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . آخِذِينَ مَا آتَاهُم رَبُّهُم إِنَّهُم كَانُوا قَبلَ ذَلِكَ مُحسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيلِ مَا يَهجَعُونَ . وَبِالأَسحَارِ هُم يَستَغفِرُونَ , وَفي أَموَالِهِم حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ "
وَيَا للهِ ! كَم هِيَ مُتَحَقِّقَةٌ تِلكَ الصِّفَاتُ فِيمَن وَفَّقَهُمُ اللهُ في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ وَلا سِيَّمَا في هَذِهِ العَشرِ المُبَارَكَةِ ، فَأَخَذُوا أَنفُسَهُم بِالجِدِّ والصَّبرِ وَالحِرصِ عَلَى الإِحسَانِ ، فَأَسهَرُوا لَيلَهُم في صَلاةٍ وَذِكرٍ وَدُعَاءٍ وَطُولِ قِيَامٍ ، وَأَظمَؤُوا نَهَارَهُم بِالصِّيَامِ ، وَلم يَجعَلُوا لما يُنفِقُونَهُ في سَبِيلِ اللهِ قَدرًا مَعلُومًا ، بَل أَطلَقُوا أَيدِيَهُم في الخَيرِ طَلَبًا لما عِندَ اللهِ ، وَهُم مَعَ ذَلِكَ مُستَغفِرُونَ ، أَوَّابُونَ تَوَّابُونَ ، لم يَرُوغُوا رَوَغَانِ البَطَّالِينَ وَلم يَلتَفِتُوا التِفَاتَ العَاجِزِينَ ، الَّذِينَ إِمَّا أَن يَتَتَبَّعُوا المَسَاجِدَ الَّتي تَسرِقُ الصَّلاةَ بِعَدَمِ الطُّمَأنِينَةِ وَالخُشُوعِ وَقِلَّةِ ذِكرِ اللهِ ، وَإِمَّا أَن يَأخُذُوا مَعَ الإِمَامِ رَكعَتَينِ أَو أَربَعًا ثم يَنصَرِفُوا قَبلَ انصِرَافِهِ ، شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِقِلَّةِ الصَّبرِ وَعَدَمِ الاهتِمَامِ بِتَجوِيدِ العَمَلِ وَإِتقَانِهِ .
إِنَّ المُحسِنِينَ لم يَجتَهِدُوا وَيَصبِرُوا ، إِلاَّ لِعِلمِهِم أَنَّ إِحسَانَهُم في عَمَلِهِم إِنَّمَا هُوَ إِحسَانٌ لأَنفُسِهِم في دُنيَاهُم وَأُخرَاهُم ، وَلِيَقِينِهِم أَنَّ ذَلِكَ الإِحسَانَ هُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ لِمَعِيَّةِ اللهِ لهم وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُم ، وَمِن ثَمَّ الفَوزُ بِجَنَّتِهِ وَالنَّظَرِ إِلى وَجهِهِ الكَرِيمِ ، كَمَا قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنْ أَحسَنتُم أَحسَنتُم لأَنفُسِكُم وَإِنْ أَسَأتُم فَلَهَا "
وَكَمَا قَالَ : " لِلَّذِينَ أَحسَنُوا في هَذِهِ الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيرٌ "
وَقَالَ : " إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ "
وَقَالَ : " وَأَحسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ "
وَقَالَ : " لِلَّذِينَ أَحسَنُوا الحُسنى وَزِيَادَةٌ "
وَقَالَ : " وَيَجزِي الَّذِينَ أَحسَنُوا بِالحُسنى "
وَقَالَ : " إِنَّ المُتَّقِينَ في ظِلالٍ وَعُيُونٍ . وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشتَهُونَ . كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئًا بما كُنتُم تَعمَلُونَ . إِنَّا كَذِلَكَ نَجزِي المُحسِنِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد مَضَى مِن شَهرِكُمُ الثُّلُثَانِ وَلَيلَتَانِ ، وَلم يَبقَ إِلاَّ سَبعُ لَيَالٍ أَو ثَمَانٍ ، فَاللهَ اللهَ بِإِتقَانِ العَمَلِ وَالإِحسَانِ ، فَـ" إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ " وَإِيَّاكُم وَمَا اعتَادَهُ بَعضُ النَّاسِ في كُلِّ رَمَضَانَ ، حَيثُ يَنشَطُونَ قَلِيلاً في أَوَّلِ الشَّهرِ ، ثم لا يَزَالُ بهم التَّقصِيرُ في أَوسَطِهِ ، فَإِذَا مَا حَضَرَت عَشرُ البَرَكَةِ وَالعَفوِ وَالغُفرَانِ ، تَرَكُوا المَسَاجِدَ الَّتي هِيَ أَحَبُّ البِقَاعِ إِلى اللهِ ، وَانصَرَفُوا إِلى الأَسوَاقِ الَّتي هِيَ أَبغَضُ البِقَاعِ إِلَيهِ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاختِمُوا شَهرَكُم بِخَيرِ عَمَلِكُم فَـ" إِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ " وَاستَقِيمُوا عَلَى طَاعَةِ رَبِّكُم وَاصبِرُوا فَـ" إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ " " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ . نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم المُصطَفَى وَالحَبِيبِ المُجتَبى ، فَقَد كَانَ مِن إِحسَانِهِ العَمَلَ وَإِتقَانِهِ ، أَن يَختِمَ رَمَضَانَ بِمُضَاعَفَةِ العَمَلِ في عَشرِهِ الأَخِيرَةِ ، عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَجتَهِدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهِ . رَوَاهُ مُسلِمٌ , وَعَنها ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا دَخَلَ العَشرُ شَدَّ مِئزَرَهُ وَأَحيَا لَيلَهُ وَأَيقَظَ أَهلَهُ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ وَهَذَا لَفظُ البُخَارِيِّ .
وَقَد بَلَغَ بِهِ الاجتِهَادُ وَالتَّفَرُّغُ لِلطَّاعَةِ وَالحِرصُ عَلَى إِحسَانِ العَمَلِ وَطَلَبِ لَيلَةَ القَدرِ ، أَنْ كَانَ يَعتَكِفُ في مَسجِدِهِ وَيَعتَزِلُ النَّاسَ ، فَعَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : اِعتَكَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَشرَ الأُوَلِ مِن رَمَضَانَ وَاعتَكَفنَا مَعَهُ ، فَأَتَاهُ جِبرِيلُ فَقَالَ : إِنَّ الَّذِي تَطلُبُ أَمَامَكَ . فَاعتَكَفَ العَشرَ الأَوسَطَ فَاعتَكَفنَا مَعَهُ ، فَأَتَاهُ جِبرِيلُ فَقَالَ : إِنَّ الَّذِي تَطلُبُ أَمَامَكَ . فَقَامَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشرِينَ مِن رَمَضَانَ فَقَالَ : " مَن كَانَ اعتَكَفَ مَعَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَلْيَرجِعْ ؛ فَإِنِّي أُرِيتُ لَيلَةَ القَدرِ وَإِنِّي نُسِّيتُهَا ، وَإِنَّهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ في وِترٍ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
فَاجتَهِدُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ فَإِنَّمَا هِيَ عَشرُ لَيَالٍ أَو تِسعٌ ، مَن قَامَهَا مَعَ الإِمَامِ ، فَهُوَ حَرِيٌّ بِإِدرَاكِ لَيلَةِ القَدرِ وَالفَوزِ بِعَظِيمِ الأَجرِ ، وَأَمَّا الاشتِغَالُ بِتَحدِيدِ لَيلَةِ القَدرِ وَالبَحثِ عَن عَلامَاتِهَا ، فَإِنَّمَا هُوَ ممَّا أَملَتهُ نُفُوسُ المُتَكَاسِلِينَ عَلَيهِم ، وَشَغَلَهُم بِهِ الشَّيطَانُ عَمَّا أَرَادَهُ رَبُّهُم إِذْ أَخفَى لَيلَةَ عَنهُم لِيَجتَهِدُوا وَيُكثِرُوا مِنَ الطَّاعَةِ ، فَيَعظُمَ لهم بِذَلِكَ الأَجرُ وَيُحَطَّ عَنهُمُ الوِزرُ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَاشتَغِلُوا بما يَنفَعُكُم ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ طَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم ، فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ مَعدُودَةٌ وَأَعمَارٌ مَحدُودَةٌ ، وَالعِبرَةُ بِكَمَالِ النِّهَايَاتِ لا بِنَقصِ البِدَايَاتِ .
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَكُلُوا مِن رِزقِهِ وَاشكُرُوا لَهُ وَلا تَكفُرُوهُ " لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَا مِن مُسلِمٍ يَشهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ وَيَلتَزِمُ شَرَائِعَ الإِسلامِ ، فَيُصلِي وَيَصُومُ وَيُؤَدِّي حَقَّ اللهِ عَلَيهِ في مَالِهِ وَيَحُجُّ وَيَعتَمِرُ ، وَيَفعَلُ الخَيرَ جُهدَهُ وَيَتَحَرَّى البِرَّ طَاقَتَهُ ، إِلاَّ وَهُوَ يَرجُو رَحمَةَ اللهِ ، نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِنَّ السَّائِرِينَ إِلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مَهمَا اختَلَفَتِ الطُّرُقُ الَّتي يَسلُكُونَهَا بَعدَ المُحَافَظَةِ عَلَى أَركَانِ الإِسلامِ وَوَاجِبَاتِهِ الظَّاهِرَةِ ، فَإِنَّ مَقصِدَهُم تَحصِيلُ رَحمَةِ اللهِ وَالفَوزُ بِجَنَّتِهِ " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرجُونَ رَحمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "
أَفَتَدرُونُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ مَن هُم أَقرَبُ النَّاسِ مِن رَحمَةِ اللهِ وَمَن أُولَئِكَ المُستَحِقُّونَ لها ؟!
إِنَّهُمُ المُحسِنُونَ ، نَعَم ، إِنَّهُمُ المُحسِنُونَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلا تُفسِدُوا في الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِهَا وَادعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ "
فَمَن هُمُ المُحسِنُونَ ـ يَا عِبَادَ اللهِ ـ ؟!
إِنَّ مِن أَخَصِّ صِفَاتِهِم مَا وَرَدَ في الآيَةِ السَّابِقَةِ ، مِن أَنَّهُم أَهلُ الإِصلاحِ في الأَرضِ وَعَدَمِ الإِفسَادِ ، وَشَرُّ الإِفسَادِ في الأَرضِ هُوَ إِتيَانُ المَعَاصِي وَاقتِرَافُ السَّيِّئَاتِ وَالمُوبِقَاتِ ، وَأَعظَمُ الإِصلاحِ لها فِعلُ الطَّاعَاتِ وَالتَّزَوُّدُ مِنَ الحَسَنَاتِ وَالاستِكثَارُ مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالحَاتِ ، فَإِنَّ المَعَاصِيَ وَالسَّيِئَاتِ تُفسِدُ الأَعمَالَ وَالأَخلاقَ ، وَتُنَغِّصُ المَعَايَشَ وَتُضَيِّقُ الأَرزَاقَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا "
وَأَمَّا الطَّاعَاتُ وَالصَّالحَاتُ ، فَبِهَا تَصلُحُ الأَخلاقُ وَتَزكُو الأَعمَالُ ، وَتَتَّسِعُ الأَرزَاقُ وَيُفسَحُ في الآجَالِ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ أَهلَ الإِحسَانِ حَرِيصُونَ عَلَى الاستِكثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالصَّالحَاتِ ، بَعِيدُونَ عَنِ الإِصرَارِ عَلَى المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ ، ثم هُم مَعَ ذَلِكَ شَدِيدُو اللَّجَأِ إِلى رَبِّهِم ـ جَلَّ وَعَلا ـ يَدعُونَهُ دُعَاءَ عِبَادَةٍ بِأَفعَالِهِم وَأَحوَالِهِم ، وَدُعَاءَ مَسأَلَةٍ بِتَضَرُّعِهِم وَأَقوَالِهِم ، خَوفًا مِن عِقَابِهِ وَطَمَعًا في ثَوَابِهِ ، لا يَستَكثِرُونَ عَلَيهِ أَعمَالَهُم الصَّالحَةَ مَهمَا عَظُمَت أَو تَنَوَّعَت ، وَلا يَمُنُّونَ بما قَدَّمُوا وَلا يُعجَبُونَ بِأَنفُسِهِم ، وَلا يَدعُونَ دُعَاءَ مَن هُوَ غَافِلٌ لاهٍ مُلتِفَتٌ عَن رَبِّهِ ، وَلَكِنَّهُم يَطمَعُونَ في قَبُولِ أَعمَالِهِم وَدَعَوَاتِهِم بِرَحمَةِ رَبِّهِم ، وَيَخَافُونَ مِن رَدِّهَا بِسَيِئٍ فَعَلُوهُ أَو تَقصِيرٍ أَتَوهُ . وَهُم مَعَ إِحسَانِهِم في عِبَادَةِ رَبِّهِم مُحسِنُونَ إِلى خَلقِهِ ، لِعِلمِهِم وِيَقِينِهِم أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ العَبدُ أَكثَرَ إِحسَانًا ، كَانَ رَبُّهُ قَرِيبًا مِنهُ بِرَحمَتِهِ وَمَعِيَّتِهِ ، وَمَن كَانَ مِنَ اللهِ قَرِيبًا وَكَانَ اللهُ مِنهُ قَرِيبًا ، كَانَ إِلَيهِ حَبِيبًا وَكَانَ ـ تعالى ـ لَهُ مُجِيبًا . قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَإِنَّمَا اُختُصَّ أَهلُ الإِحسَانِ بِقُربِ الرَّحمَةِ لأَنَّهَا إحسَانٌ مِن اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَرحَمِ الرَّاحِمِينَ ، وَإِحسَانُهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ إنَّمَا يَكُونُ لأَهلِ الإِحسَانِ ؛ لأَنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ ، وَكُلَّمَا أَحسَنُوا بِأَعمَالِهِم أَحسَنَ إلَيهِم بِرَحمَتِهِ ، وَأَمَّا مَن لم يَكُن مِن أَهلِ الإِحسَانِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَعُدَ عَن الإِحسَانِ بَعُدَت عَنهُ الرَّحمَةُ ، بُعدٌ بِبُعدٍ وَقُربٌ بِقُربٍ ، فَمَن تَقَرَّبَ إلَيهِ بِالإِحسَانِ تَقَرَّبَ اللهُ إلَيهِ بِرَحمَتِهِ ، وَمَن تَبَاعَدَ عَن الإِحسَانِ تَبَاعَدَ اللهُ عَنهُ بِرَحمَتِهِ . انتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ .
وَمِن صِفَاتِ المُحسِنِينَ مَا وَصَفَهُم بِهِ رَبُّهُم حَيثُ قَالَ : " إِنَّ المُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . آخِذِينَ مَا آتَاهُم رَبُّهُم إِنَّهُم كَانُوا قَبلَ ذَلِكَ مُحسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيلِ مَا يَهجَعُونَ . وَبِالأَسحَارِ هُم يَستَغفِرُونَ , وَفي أَموَالِهِم حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ "
وَيَا للهِ ! كَم هِيَ مُتَحَقِّقَةٌ تِلكَ الصِّفَاتُ فِيمَن وَفَّقَهُمُ اللهُ في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ وَلا سِيَّمَا في هَذِهِ العَشرِ المُبَارَكَةِ ، فَأَخَذُوا أَنفُسَهُم بِالجِدِّ والصَّبرِ وَالحِرصِ عَلَى الإِحسَانِ ، فَأَسهَرُوا لَيلَهُم في صَلاةٍ وَذِكرٍ وَدُعَاءٍ وَطُولِ قِيَامٍ ، وَأَظمَؤُوا نَهَارَهُم بِالصِّيَامِ ، وَلم يَجعَلُوا لما يُنفِقُونَهُ في سَبِيلِ اللهِ قَدرًا مَعلُومًا ، بَل أَطلَقُوا أَيدِيَهُم في الخَيرِ طَلَبًا لما عِندَ اللهِ ، وَهُم مَعَ ذَلِكَ مُستَغفِرُونَ ، أَوَّابُونَ تَوَّابُونَ ، لم يَرُوغُوا رَوَغَانِ البَطَّالِينَ وَلم يَلتَفِتُوا التِفَاتَ العَاجِزِينَ ، الَّذِينَ إِمَّا أَن يَتَتَبَّعُوا المَسَاجِدَ الَّتي تَسرِقُ الصَّلاةَ بِعَدَمِ الطُّمَأنِينَةِ وَالخُشُوعِ وَقِلَّةِ ذِكرِ اللهِ ، وَإِمَّا أَن يَأخُذُوا مَعَ الإِمَامِ رَكعَتَينِ أَو أَربَعًا ثم يَنصَرِفُوا قَبلَ انصِرَافِهِ ، شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِقِلَّةِ الصَّبرِ وَعَدَمِ الاهتِمَامِ بِتَجوِيدِ العَمَلِ وَإِتقَانِهِ .
إِنَّ المُحسِنِينَ لم يَجتَهِدُوا وَيَصبِرُوا ، إِلاَّ لِعِلمِهِم أَنَّ إِحسَانَهُم في عَمَلِهِم إِنَّمَا هُوَ إِحسَانٌ لأَنفُسِهِم في دُنيَاهُم وَأُخرَاهُم ، وَلِيَقِينِهِم أَنَّ ذَلِكَ الإِحسَانَ هُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ لِمَعِيَّةِ اللهِ لهم وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُم ، وَمِن ثَمَّ الفَوزُ بِجَنَّتِهِ وَالنَّظَرِ إِلى وَجهِهِ الكَرِيمِ ، كَمَا قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنْ أَحسَنتُم أَحسَنتُم لأَنفُسِكُم وَإِنْ أَسَأتُم فَلَهَا "
وَكَمَا قَالَ : " لِلَّذِينَ أَحسَنُوا في هَذِهِ الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيرٌ "
وَقَالَ : " إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ "
وَقَالَ : " وَأَحسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ "
وَقَالَ : " لِلَّذِينَ أَحسَنُوا الحُسنى وَزِيَادَةٌ "
وَقَالَ : " وَيَجزِي الَّذِينَ أَحسَنُوا بِالحُسنى "
وَقَالَ : " إِنَّ المُتَّقِينَ في ظِلالٍ وَعُيُونٍ . وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشتَهُونَ . كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئًا بما كُنتُم تَعمَلُونَ . إِنَّا كَذِلَكَ نَجزِي المُحسِنِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد مَضَى مِن شَهرِكُمُ الثُّلُثَانِ وَلَيلَتَانِ ، وَلم يَبقَ إِلاَّ سَبعُ لَيَالٍ أَو ثَمَانٍ ، فَاللهَ اللهَ بِإِتقَانِ العَمَلِ وَالإِحسَانِ ، فَـ" إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ " وَإِيَّاكُم وَمَا اعتَادَهُ بَعضُ النَّاسِ في كُلِّ رَمَضَانَ ، حَيثُ يَنشَطُونَ قَلِيلاً في أَوَّلِ الشَّهرِ ، ثم لا يَزَالُ بهم التَّقصِيرُ في أَوسَطِهِ ، فَإِذَا مَا حَضَرَت عَشرُ البَرَكَةِ وَالعَفوِ وَالغُفرَانِ ، تَرَكُوا المَسَاجِدَ الَّتي هِيَ أَحَبُّ البِقَاعِ إِلى اللهِ ، وَانصَرَفُوا إِلى الأَسوَاقِ الَّتي هِيَ أَبغَضُ البِقَاعِ إِلَيهِ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاختِمُوا شَهرَكُم بِخَيرِ عَمَلِكُم فَـ" إِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ " وَاستَقِيمُوا عَلَى طَاعَةِ رَبِّكُم وَاصبِرُوا فَـ" إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ " " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ . نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم المُصطَفَى وَالحَبِيبِ المُجتَبى ، فَقَد كَانَ مِن إِحسَانِهِ العَمَلَ وَإِتقَانِهِ ، أَن يَختِمَ رَمَضَانَ بِمُضَاعَفَةِ العَمَلِ في عَشرِهِ الأَخِيرَةِ ، عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَجتَهِدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهِ . رَوَاهُ مُسلِمٌ , وَعَنها ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا دَخَلَ العَشرُ شَدَّ مِئزَرَهُ وَأَحيَا لَيلَهُ وَأَيقَظَ أَهلَهُ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ وَهَذَا لَفظُ البُخَارِيِّ .
وَقَد بَلَغَ بِهِ الاجتِهَادُ وَالتَّفَرُّغُ لِلطَّاعَةِ وَالحِرصُ عَلَى إِحسَانِ العَمَلِ وَطَلَبِ لَيلَةَ القَدرِ ، أَنْ كَانَ يَعتَكِفُ في مَسجِدِهِ وَيَعتَزِلُ النَّاسَ ، فَعَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : اِعتَكَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَشرَ الأُوَلِ مِن رَمَضَانَ وَاعتَكَفنَا مَعَهُ ، فَأَتَاهُ جِبرِيلُ فَقَالَ : إِنَّ الَّذِي تَطلُبُ أَمَامَكَ . فَاعتَكَفَ العَشرَ الأَوسَطَ فَاعتَكَفنَا مَعَهُ ، فَأَتَاهُ جِبرِيلُ فَقَالَ : إِنَّ الَّذِي تَطلُبُ أَمَامَكَ . فَقَامَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشرِينَ مِن رَمَضَانَ فَقَالَ : " مَن كَانَ اعتَكَفَ مَعَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَلْيَرجِعْ ؛ فَإِنِّي أُرِيتُ لَيلَةَ القَدرِ وَإِنِّي نُسِّيتُهَا ، وَإِنَّهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ في وِترٍ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
فَاجتَهِدُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ فَإِنَّمَا هِيَ عَشرُ لَيَالٍ أَو تِسعٌ ، مَن قَامَهَا مَعَ الإِمَامِ ، فَهُوَ حَرِيٌّ بِإِدرَاكِ لَيلَةِ القَدرِ وَالفَوزِ بِعَظِيمِ الأَجرِ ، وَأَمَّا الاشتِغَالُ بِتَحدِيدِ لَيلَةِ القَدرِ وَالبَحثِ عَن عَلامَاتِهَا ، فَإِنَّمَا هُوَ ممَّا أَملَتهُ نُفُوسُ المُتَكَاسِلِينَ عَلَيهِم ، وَشَغَلَهُم بِهِ الشَّيطَانُ عَمَّا أَرَادَهُ رَبُّهُم إِذْ أَخفَى لَيلَةَ عَنهُم لِيَجتَهِدُوا وَيُكثِرُوا مِنَ الطَّاعَةِ ، فَيَعظُمَ لهم بِذَلِكَ الأَجرُ وَيُحَطَّ عَنهُمُ الوِزرُ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَاشتَغِلُوا بما يَنفَعُكُم ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ طَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم ، فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ مَعدُودَةٌ وَأَعمَارٌ مَحدُودَةٌ ، وَالعِبرَةُ بِكَمَالِ النِّهَايَاتِ لا بِنَقصِ البِدَايَاتِ .
المشاهدات 3248 | التعليقات 4
بارك الله فيك ونفع بك شيخنا الفاضل..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
السلام عليكم
جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم
عبدالله البصري
وفي هذه المشاركة ملف الخطبة ( وورد )
المرفقات
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/عشر%20رمضان%20وإحسان%20العمل.doc
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/عشر%20رمضان%20وإحسان%20العمل.doc
تعديل التعليق