خطبة : عشرُ الحظِّ الوافر 18/9/1442هـ
د . فيصل بن عبدالرحمن الشدي
الْحَمْدُ لِلَّهِ مُنْشِئُ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ تَتَجَدَّدُ نِعْمهُ بِالرَّوَاحِ وَالْبُكُور وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا محمداً عَبْدُاللَّهِ وَرَسُولُه أَحْرَصَ الْأُمَّةِ عَلَى الْأُجُور صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَبَعْد : فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَدْرِكُوا الشَّهْرَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ ، فَإِنَّ كُلَّ لَحْظَةٍ تَمْضِي وَكُلّ ثَانِيَة تَنْقَضِي إنَّمَا هِيَ مرصودةٌ وَعِنْدَ اللَّهِ مَحْسُوبَةٌ عَلَيْكَ يَا عَبْداللَّهِ مَعْدُودُة .
عِبَادِ اللَّهِ : إنْ كَانَ ذَهَبَ مِنْ الشَّهْرِ أَكْثَرُه ، فَقَدْ بَقِيَ فِيهِ أجلُّهُ وأخْيرُه ، أِنَّهَا العشرُ الْأَوَاخِر عشرُ الْمَفَاخِر عَشَرُ الْحَظِّ الْوَافِرِ يا للَّه كَم فِيهَا مِنْ فَضْلٍ كَثِيرٍ، وَأَجْرٍ كَبِيرٍ، وَخَيْرٍ وَفِيرٍ ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي r كَانَ يُحِبُّهَا ويُجلُّها وَيَقُومُ بِحَقِّهَا ، لِلَّهِ مَا أَعْظَمَ فِيهَا اجْتِهَادَه ، وَمَا أجلَّ فِي التَّعَبُّدِ زَادَه ، تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : "كان يَجتهِدُ فِي العشْرِ الأواخِرِ مَا لَا يَجتهِدُ فِي غيرِها" ؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَتَقُول رضِي اللَّه عنْها : "كان النَّبيُّ r إذَا دخَل العشْرُ ، شدَّ مِئْزَرَه ، وأحْيا ليْلَه ، وأيْقظَ أهلَه" متَّفقٌ عَلَيْه .
وخرَّج الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ t : " أن النَّبِيِّ r كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَكُلَّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ يُطِيق الصلاة ".
عبادَ الله : إنَّ مِنْ إجْلَالِ حبيبكم r لِهَذِه الْعَشْرِ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ فِيهَا عَنْ الْخَلَائِقِ فِي خَلْوَةٍ مَعَ الْخَالِقِ عَنْ الدُّنْيَا وشواغِلها مُدبراً ، وَعَلَى الْآخِرَة مُقبلاً متأثِّراً .
يَنْقَطِعُ r فِي الْمَسْجِدِ فِي خَلْوَةِ اعْتِكَاف ، وَلَكَم أَطَالَ الْقِيَامَ لَيَالِيهَا فِي حُسْنِ تَبْتَلّ واصطفاف ، مَا وَرَبِّي تَرَك اعْتِكَافِهَا حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ وَاخْتَارَهُ لِجِوَارِه .
فَيَا مُرِيدَ الْأَجْر . . وَيَا طالباً غُفْرَانَ الذَّنْبِ وَالْوِزْر . . تَخَفَّف مِنْ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ الْعَشْرِ . . وانْصِب قَلْبَك وَوَجْهَك وروحَك لِلْعَظِيم سُبْحَانَهُ عَلَيَّ الْقَدْر .
كَفَانَا بِالدُّنْيَا اشْتِغَالًا . . وَلِعَمَل الْآخِرَة تسويفاً وإهمالاً . . اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الْمُحْسِنِينَ أعمالاً .
أَلَا وَإِنَّ أَعْظَمَ مَا تَعْمُرُ بِهِ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ الْقِيَامُ وَالصَّلَاةُ فَلَقَدْ كَانَ هَذَا دَأْبَهُ صَلَوَات وَرَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَهِي جَامِعَةٌ لِلدُّعَاء وَالرَّجَاءُ فِي الرَّحْمَان ، وإحياءِ الْقِيَامِ بِتِلاوَةِ الْقُرْآنِ .
وَمَن اللفتاتِ النَّبَوِيَّةِ التربويةِ النَّدِيَّةِ تَفَقَّدُه لِأَهْلِه r فِي هَذِهِ الْعَشْرِ إذْ أَنَّهُ يقيمهم لِصَلَاةِ اللَّيْل ، كَيْفَ لَا ؟! وَهُوَ خَيْرُ الْأُمَّة لِأَهْلِه فتفقدوا أَهْلَكُم وبعِظمِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ذكِّروهم ، ومعكم أقيمُوهم .
إِخْوَةِ الإِسْلامِ : فِي هَذِهِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ أَعْظَمُ لَيْلَةٍ فِي الْعَامِ كُلِّه أِنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } .
ألَا مَا أجلَّ الزَّمَن ! ألَا مَا أَعْظَمَ الثَّمَن ! لَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ قِيَامُهَا وَعِبَادَتُهَا خَيْرٌ مِنْ عِبَادِةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، كَفَى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ شرفاً أنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِيهَا سُورَةً كَامِلَةً ، وَكَفَى لَهَا مَنْزِلَةً مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ فِيهَا " مَنْ قَامَهَا إيماناً واحتساباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
أطلّي غُرّةَ الدَّهرِ . . أطلِّي ليلةَ القدرِ أطلي درّةَ الْأَيَّامِ مثلَ الْكَوْكَب الدُرّي
أطلّي فِي سَمَاءِ الْعُمْر إشراقاً مَع البدرِ سلامٌ أنتِ فِي اللَّيْلِ وَحَتَّى مطلعِ الفجرِ
سلامٌ يغمرُ الدُّنْيَا يُغشّي الكونَ بالطُّهرِ
قِيلَ إنَّهَا أُخْفَيْت لِيَجْتَهِدَ الْمُجْتَهِدُون طِيلَةَ لَيَالِي الْعَشْرِ فِي مُنَاجَاتِهِ وَطَلَب رَحْمَتِه وَمَرْضَاتِه ، وَهِي أَحْرَى مَا تَكُونُ فِي لَيَالِي الْوِتْر وَأَحْرَى مَا تَكُونُ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ ، وَقِيلَ إنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي لَيْلَةٍ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، لَيْلَةٌ بَلْجَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ الشَّمْسُ تَطْلُعُ صَبِيحَتِهَا لَا شُعَاعَ لَهَا ، يَكْثُر نُزُول الْمَلَائِكَةِ فِيهَا حَتَّى قِيلَ إنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْ الْحَصَى ، قَال النَّبيُّ r : " ليْلةُ القدْر : لَيْلَةُ سابعةٍ أَو تاسعةٍ وَعِشْرِين ، إنَّ الْمَلَائِكَة تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الأرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عدَد الحصى " صَحَّحَه الْأَلْبَانِيّ ، يَا لَلّهِ كَمْ فِي الْأَرْضِ لَيْلَتِهَا مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ عَلَى دُعَاءٍ النَّاس يؤمِّنون ، و عَلَى أنفُسِهم وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ يسلِّمون حتَّى يُصْبِحُون . ثَمَّ يَا أَخِي احْرَص فِيهَا عَلَى الدُّعَاءِ فَفِيهَا يُفصَلُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إلَى الْكَتَبَة أَمَّرُ السَّنَةِ كُلِّهَا ، فَيَكْتُب مَنْ يَسْعِدُ وَمَن يَشْقَى ، وَمَن يَعِزُّ وَمَن يَذِلُّ ، وَمَن يَفْتَقِرُ وَمَن يَغْنَى ، وَمَن يَمُوتُ وَمَن يحيا ، قَالَ سُبْحَانَهُ " فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ " قَال النوويُّ : "سُمِّيَت الْقَدْر ؛ أَي : لَيْلَة الحُكم والفصل" .
تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إنْ عَلِمَتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَاذَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ قُولِي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفْوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي " . قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُخْتَصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ زَادَهَا اللَّهُ شرفاً فَلَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَهَا ، مَا أَدْرَكَهَا دَاعٍ إلَّا وَظَفْر ، وَلَا سَأَلَ فِيهَا سَائِلٌ إِلا أُعْطِيَ، وَلَا اِسْتَجَار فِيهَا مُستجيرٌ إلَّا أُجِيرٌ .
اللَّهُمّ وَفَّقَنَا لِقِيَام لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَاكْتُب لَنَا فِيهَا عَظِيمٌ الْأَجْر وحُطَّ عَنَّا الذَّنْب وَالْوِزْر اللَّهُمّ آمِين
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إحْسَانِهِ . . . أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : لِلَّهِ فِي عَشْرِ الْحَظِّ الْوَافِرِ كَمْ مِنْ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ ! مَحْرُوم مِنْ حَرُمَ رَحِمَةَ اللَّه ، مَغْبُونٌ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ بِدَعْوَة ، وَلَم تذرِف عَيْنُه بِدَمْعة ، وَلَم يَخْشَع قَلْبُهُ لِلَّهِ لَحْظَة ، طَال رُقاده حِينَ قَامَ النَّاسُ ، وَهَذَا وَاَللَّهُ غَايَة الْإِفْلَاس ، ألَا فالبِدارَ الْبِدَارَ ، وَالْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ، يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِل وَ يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، شقيَ مِنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ دَعَا بِهَا جِبْرِيلُ وأمَّن عَلَيْهَا رَسُولُنَا الْجَلِيل ، اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّم عليه
المرفقات
1619672300_عَشَرُ الْحَظِّ الْوَافِر 18.docx
1619672300_عَشَرُ الْحَظِّ الْوَافِر 18.pdf