خطبة : ( عاشوراء ونصر الله للمستضعفين )

عبدالله البصري
1437/01/10 - 2015/10/23 07:11AM
عاشوراء ونصر الله للمستضعفين 2 / 1 / 1437
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم – أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَنَفسِي بِتقَوى اللهِ , فاتقوا اللهَ وأطيعوه وَكُونُوا مَعَهُ يَكُنْ مَعَكُم " إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في مِثلِ هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ ، شَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ ، حَدَثَ في مَاضِي الدُّهُورِ وَغَابِرِ العُصُورِ حَدَثٌ كَبِيرٌ غَيَّرَ مَجرَى التَّأريخِ وَوَجهَ الحَيَاةِ , وَمَرَّ يَومٌ عَظِيمٌ كَانَ فِيهِ بِتَقدِيرِ اللهِ فَصلُ خُصُومَةٍ دَامَت عَشَرَاتِ السِّنِينَ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ , البَاطِلِ الَّذِي تَزَعَّمَهُ أَشقَى النَّاسِ فِرعَونُ , وَالحَقِّ الَّذِي تَوَلاَّهُ أَسعَدُ النَّاسِ مُوسَى وَهَارُونُ - عَلَيهِمَا وَعَلى نَبِيِّنا صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلامُهُ - فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى الباطِلِ وَأَهلِهِ , وَالنُّصرَةُ لِلحَقِّ وَأَهلِهِ ، وَأَهلَكَ اللهُ الكَافِرِينَ وَأَظهَرَ المُؤمِنِينَ ، وَأَرَاهُم كَيفَ يَكُونُ مَصرَعُ الطُّغَاةِ المُجرِمِينَ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لم يَرِدْ في كِتابِ اللهِ تَكرَارُ ذِكرِ نَبِيٍّ وَقَومِهِ كَمَا ذُكِرَ مُوسَى مَعَ فِرعَونَ , فَقَد تَكَرَّرَ اسمُ مُوسَى في القُرآنِ كَثِيرًا ، وَأَعَادَ اللهُ قِصَّتَهُ مِرَارًا ، وَفَصَّلَ – تَعَالى – مِن أَحدَاثِ حَيَاتِهِ – عَلَيهِ السَّلامُ - مَا لم يُفَصِّلْ ‏في حَيَاةِ الأَنبِيَاءِ الآخَرِينَ ، فقد ذَكَرَ مَرَاحِلَ حَيَاتِهِ مُنذُ الطُّفُولَةِ ، وَأَمرَ أُمِّهِ بِرَضَاعِهِ , وَوَضعَهُ في التَّابُوتِ , وَإِلقَاءَهُ في البَحرِ ، ثم ‏رَضَاعِ أُمِّهِ لَهُ في بَيتِ فِرعَونَ ، ثم ذِكرَ مَرَاحِلَ مِن شَبَابِهِ وَمَا تَعَرَّضَ ‏لَهُ مِنَ الفُتُونِ ، ‏وَتَفصِيلَ دَعوَتِهِ لِلكُفَّارِ وَهُمُ الأَقبَاطُ , وَدَعوَتَهُ لِلمُنحَرِفِينَ عَن دِينِهِم وَهُم بَنُو إِسرَائِيلَ ، وَذِكْرَ هَلاكِ فِرعَونَ وَقَومِهِ وَقِصَّتِهِ مَعَ ‏السَّحَرَةِ , ثم مُعَانَاتَهُ مَعَ قَومِهِ بَعدَ عُبُورِهِمُ البَحرَ , وَبَعدَ عِبَادَتِهِمُ العِجلَ , وَبَعدَ ‏تَحرِيضِهِم عَلَى الذَّهَابِ لِلأَرضِ المُقَدَّسَةِ , إِلى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ المَوَاقِفِ العَظِيمَةِ وَالأحدَاثِ المُهِمَّةِ ، التي تَحمِلُ في ثَنَايَاهَا دُرُوسًا عَمِيقَةً وَعِبرًا .
عِبَادَ اللهِ ، لَمَّا أَرَادَ اللهُ إِنهاءَ الصِّرَاعِ الدَّائِرِ بَينَ الحَقِّ وَالباطِلِ هَيَّأَ لِذَلِكَ الأَسبَابَ ، فَفِي اليَومِ العَاشِرِ مِن شَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ عَزَمَ فِرعَونُ عَلَى القَضَاءِ عَلَى مُوسَى وَقَومِهِ كَمَا قَالَ – تَعَالى - : " فَأَتبَعُوهُم مُشرِقِينَ " عَزَمَ الطَّاغِيَةُ عَلَى ذَلِكَ ، بَعدَ أَن أَخرَجَهُ اللهُ مِن تِلكَ الجَنَّاتِ وَالعُيُونِ " فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمعَانِ قَالَ أَصحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدرَكُونَ " خَافُوا خُوفًا طَبِيعِيًّا ، لِمَا يَعلَمُونَهُ مِن قُوَّةِ فِرعَونَ وَطُغيَانِهِ وَجَبَرُوتِهِ ، وَمَا يَتبَعُهُ مِنَ الجُيُوشِ وَالقُوَّاتِ ، وَمَا يَحمِلُهُ مِنَ الآلَةِ وَالعَتَادِ ، فَيَا لَهُ مِن مَوقِفٍ عَظِيمٍ وَمَضِيقٍ شَدِيدٍ ، يَتَمَحَّصُ فِيهِ الإِيمَانُ الرَّاسِخُ مِن ضِدَّهِ , وَتَتَبَيَّنُ بِهِ الأُمُورُ عَلَى حَقَائِقِهَا , وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ في خَلقِهِ طَالَتِ الأَيَّامُ أَم قَصُرَت ، لا بُدَّ لَهُم مِنِ ابتِلاءٍ تَظهَرُ بِهِ حَقَائِقُ مَا في نُفُوسِهِم ، وَيَتَمَحَّصُ بِهِ مَا في قُلُوبِهِم ، وَيَتَبَيَّنُ الصَّادِقُ مِنهُم مِنَ الكَاذِبِ ، وَلِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَا مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ . وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ . أَم حَسِبَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسبِقُونَا سَاءَ مَا يَحكُمُون " نَعَم – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – لَقَد ظَهَرَ في ذَلِكُمُ المَوقِفِ العَصِيبِ وَالحَدَثِ الرَّهِيبِ إِيمَانُ نَبِيِّ اللهِ مُوسَى - عَلَيهِ السَّلامُ – وَقُوَّةُ ثِقَتِهِ بِنَصرِ رَبِّهِ لَهُ ، وَيَقِينُهُ بِأَنَّهُ - تَعَالى - لا يَتَخَلَّى عَن أَولِيَائِهِ " قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهدِينِ " وَهُنَا يَجِيئُهُ الغَوثُ وَيَنزِلُ عَلَيهِ النَّصرُ المُبِينُ " فَأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضرِب بِعَصَاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرقٍ كَالطَّودِ العَظِيمِ " فَيَدخُلُ مُوسى وَقَومُهُ بَعدَ أَن صَارَ البَحرُ لَهُم بِقُدرَةِ اللهِ طَرِيقًا يَبَسًا ، وَبَعدَ أَن تَكَامَلَ مُوسى وَقَومُهُ خَارِجِينَ , وَتَكَامَلَ فِرعَونُ وَمَن مَعَهُ دَاخِلِينَ , أَمَرَ اللهُ البَحرَ بِأَن يَعُودَ إِلى حَالَتِهِ الأُولى , لِيُهلِكَ اللهُ الطَّاغِيَةَ بِالمَاءِ ، الَّذِي طَالَمَا افتَخَرَ بِهِ عَلَى مَن تَحتَهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِن قَبلُ وَقَالَ : " أَلَيسَ لي مُلكُ مِصرَ وَهَذِهِ الأَنهَارُ تَجرِي مِن تَحتِي أَفَلَا تُبصِرُونَ " فَكَانَ مِن خَبَرِهِم مَا قَصَّ اللهُ عَلَينَا في كِتَابِهِ , أَجسَادُهُم لِلغَرَقِ وَأَروَاحُهُم لِلحَرَقِ " النَّارُ يُعرَضُونَ عَلَيهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدخِلُوا آلَ فِرعَونَ أَشَدَّ العَذَابِ " وَنَجَّى اللهُ فِرعَونَ بِجَسَدِهِ لِيَكُونَ لِمَن خَلفَهُ آيَةً ، وَلِيَعلَمَ النَّاسُ مِن بَعدِهِ أَنَّ الطُّغَاةَ مَهمَا تَجَاوَزُوا وَبَغَوا وَظَلَمُوا ، فَإِنَّ مَصِيرَهُم إِلى مَا آلَ إِلَيهِ فِرعَونُ ، الهَلاكُ بما كَانُوا بِهِ يَفتَخِرُونَ ، وَلِتَكُونَ تِلكَ القِصَّةُ قُرآنًا يُتلَى إِلى أَن يَشَاءَ اللهُ ؛ لِيَأخُذَ مِنهَا المُؤمِنُونَ عِبرَةً وَعِظَةً في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، وَلِيَكُونُوا عَلَى ثِقَةٍ مِن نَصرِ اللهِ لَهُم وَلَو بَعدَ حِينٍ " تِلكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ . نَتلُو عَلَيكَ مِن نَبَأِ مُوسَى وَفِرعَونَ بِالحَقِّ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ . إِنَّ فِرعَونَ عَلَا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعًا يَستَضعِفُ طَائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُم وَيَستَحيِي نِسَاءَهُم إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفسِدِينَ . وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُم فِي الأَرضِ وَنُرِيَ فِرعَونَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُم مَا كَانُوا يَحذَرُونَ "
الخطبة الثانية :
أمَّا بَعدُ ، عِبَادَ اللهِ ، اِتَّقُوا اللهَ – تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّها المسلمون ، لَمَّا أَنجَى اللهُ مُوسى وَقَومَهُ مِن كَيدِ فِرعَونَ وَمَلَئِهِ ، كَانَ مِن شُكرِ مُوسى لِرَبِّهِ أَن صَامَ ذَلِكَ اليَومَ إِظهَارًا لِمَا مَنَّ بِهِ رَبُّهُ عَلَيهِ وَعَلَى قَومِهِ مِن نَصرِهِم وَإِظهَارِهِم ، وَإِهلاكِ عَدُوِّهِم وَكَبتِهِ , فَكَانَ صِيَامُ ذَلِكَ اليَومِ مِمَّا تَنَاقَلَهُ أَهلُ الكِتابِ إلى وَقتِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ – وَقَد كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ يَصُومُهُ مُفرَدًا , وَلِمَا قَدِمَ المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ هَذَا اليَومَ ، فَسَأَلَهُم فَقَالُوا : هَذَا يَومٌ عَظَيمٌ ، نَجَّى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَومَهُ وَأَهلَكَ فِرعَونَ وَقَومَهُ , فَقَالَ - صلى اللهُ عليه وسلم : " فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنكُم . فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ " وَفي آخِرِ حَيَاتِهِ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - أَرَادَ مُخَالَفَةَ اليَهُودِ فَقَالَ : " لَئِن بَقِيتُ إِلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ " فَمَاتَ - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قَبلَ ذَلِكَ . وَقَد جَاءَ في فَضلِ صِيَامِ يَومِ عَاشُورَاءَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ الذُّنُوبِ لِلسَّنَةِ المَاضِيَةِ , بَل وَجَاءَ الحَثُّ عَلَى صِيَامِ مَا تمَكَّنَ المُسلِمُ مِن صِيَامِهِ مِن شَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ ، رَوَى مُسلِمٌ في صَحِيحِهِ عَن أَبي قَتَادَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عَن صِيَامِ يَومِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ : " إنِّي أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبلَهُ " وَعِندَ مُسلِمٍ أَيضًا قَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " أَفضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ " فَلْنَحرِصْ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - عَلَى اغتِنَامِ الفُرَصِ , وَالتَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَاتِ قَبلَ المَمَاتِ . وَحَتَّى وَإِن وَافَقَ يَومُ عَاشُورَاءَ يَومَ السَّبتِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَمنَعُ مَن أَن يُصَامَ وَلَو مُفرَدًا لِمَن لم يَستَطِعْ أَن يَصومَ يَومًا قَبلَهُ وَهُوَ الأَفضَلُ ، أَو يَومًا بَعدَهُ لِتَحقِيقِ المُخَالَفَةِ . وَالمَنهِيُّ عَنهُ مِن صِيَامِ يَومِ السَّبتِ لَو صَحَّ الحَدِيثُ ، إِنَّمَا هُوَ لَو تَقَصَّدَ المَرءُ صَومَهُ مُفرَدًا في نَفلٍ مُطلَقٍ ، أَمَّا لَو وَافَقَ يَومًا فَاضِلاً كَيَومِ عَرَفَةَ أَو عَاشُورَاءَ ، أَو صِيَامَ مَن كَانَت عَادَتُهُ أَن يَصُومَ يَومًا وَيُفطِرَ يَومًا ، فَلا بَأسَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ المُحَقِّقُونَ مِن أَهلِ العِلمِ .
المرفقات

852.doc

عاشوراء ونصر الله للمستضعفين.doc

عاشوراء ونصر الله للمستضعفين.doc

عاشوراء ونصر الله للمستضعفين.pdf

عاشوراء ونصر الله للمستضعفين.pdf

المشاهدات 1525 | التعليقات 0