خطبة: عاشوراء أحكام وآداب
شادي باجبير
خطبة: عاشوراء أحكام وآداب
للشيخ د. صالح بن مبارك دعكيك
ألقيت في مسجد آل ياسر، المكلا، 21/7/2023م
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين...
أمابعد، فمن منن الله -تعالى- على هذه الأمة المحمدية المرحومة، أن أتاح لهم دروبا واسعة من رحمته الواسعة، وجعل لهم من مواسم الخيرات والطاعات -التي تتضاعف أجورها- ما يرغبهم في العمل الصالح؛ ليسلكوا منها طريقا إلى رحمته ورضاه وجوده، والله تعالى أرحم بنا من أمهاتنا وآبائنا سبحانه.
وقد افتتح الله لنا عامنا الجديد بشهر حرام، كما ختم عامنا الماضي بشهر حرام، وكلها أشهر من مواسم الطاعات والقربات؛ ليفتتح المسلم عامه بإقبال، ويختتمه بإقبال، قال ابن رجب : " من صام من ذي الحجة، وصام من المحرم، فقد ختم السنة بالطاعة، وافتتحها بالطاعة، فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العمَلَين".
وفي شهر الله المحرم هذا يوم من أيام الله العظيمة ألا وهو يوم وعاشوراء، وهو يوم له فضل ومكانه في ديننا، وعظمه الأنبياء قبلنا، عظمه نوح وموسى، واتفقت الأديان الثلاثة على علو منزلته وعظم شأنه.
ولعاشورا شأن حتى عند قريش في جاهليتها، فإنها على وثنيتها وعبادتها الأصنام كانت تصوم يوم عاشوراء وتعظمه! جاء في صحيح مسلم (1125) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:(كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه في الجاهلية).
وأما سر صيامهم هذا، فلعله مما ورثوه من الشرع السالف، وعن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: ( أذنبت قريش ذنباً في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل: صوموا عاشوراء يكفر ذلك).
وهنا نسجل وقفات مع الشهر الحرام وعاشورا:
الوقفة الأولى: حرص الإسلام على ترغيب منتسبيه على العمل الصالح، وتوثيق صلة المسلم به، ورتب على ذاك السعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى:﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ [النحل: ٩٧].
وفي الحديث: « بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر» . أخرجه الترمذي وحسنه (2306)، والحاكم (7906) وصححه.
فالعمل الصالح مدار النجاة والخير في الدنيا والاخرة.
الوقفة الثانية: ومن فضائل شهر المحرم أن الصيام فيه أفضل الصيام، كما رواه مسلم (202) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم». فينبغي للمؤمن أن يكثر من صيام هذا الشهر، ويعود نفسه عليه، فإنه هين على من تعوده، وقال أبو عثمان النهدي: "كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة".
الوقفة الثالثة: فضل صوم عاشورا وهو اليوم العاشر من محرم، ففي صحيح مسلم (1162) من حديث أبي قتادة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله». وفي روايةٍ: «يكفر السنة الماضية». وفي روايةٍ للنسائي: «صومُ يوم عاشوراء كفارةُ سنة ».
وعن ابن عباس وقد وسُئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: «ما علمت أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صام يومًا يَطْلُبُ فَضْلَه على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرًا إلا هذا الشهر». يعني رمضان، وفي لفظ: (ما رأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يتحرى صيامَ يومٍ فضله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء). وهذا الشهر يعني شهر رمضان. أخرجه البخاري(2006) ومسلم (1132). فحري بنا أن نحرص على ما حرص عليه نبينا صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الرابعة: الحكمة من صيام هذا اليوم: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: "(مَا هَذَا؟)" قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ". فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. رواه البخاري ومسلم. وفي تكفير ذنوب وخطايا سنة في صوم يوم واحد فضل من الله لا ينبغي أن يفوته المسلم.
الوقفة الخامسة: صوم عاشوراء على مراتب كما ذكرها ابن القيم (الزاد 2/63):
▪المرتبة الأولى: أن يصوم يوما قبله ويوما بعده، وذلك لتحقيق حكمتين:
الحكمة الأولى: مخالفة لأهل الكتابِ في صيامِهِ، ففي مصنف عبد الرزاق (7839) ومن طريقه أخرجه البيهقي (4/287)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- موقوفًا: "صوموا اليوم التاسع والعاشر وخالفوا اليهود". وسنده صحيح.
والحكمة الثانية: الاحتياط لإدراك صوم عاشوراء، لما يقع من الغلط في حساب دخول الشهر، ودليله ما أخرجه الطبرانيُ (ح10817) في الكبير، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا: "إنْ عشتُ إن شاءَ اللهُ إلى قابل صُمْتُ التاسعَ؛ مخافةَ أَنْ يفوتني يومُ عاشوراء}. [انظر الصحيحة: 350].
وصيام يوم قبله ويوم بعده هو ما ذكره ابن القيم (الزاد 2/63) أنه المرتبة الأولى في صيام عاشوراء، واستحب ذلك جماعة من أهل العلم، فقد نقل العلامة ابن قُدامة المقدسي قولَ الإمام أحمد -رحمهم الله جميعًا-: (فإنْ اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام، وإنما يفعل ذلك ليتقن صوم التاسع والعاشر). وفي رواية الميموني قال: (فإنْ اختُلِفَ في الهلال صامَ ثلاثة أيام احتياطًا، وكذلك روي عن ابن إسحاق أنَّه صام يوم عاشوراء ويومًا قبله ويومًا بعده، وقال: إنما فعلتُ ذلك خشية أنْ يفوتني. وروي عن ابن سيرين أنَّه كان يصوم ثلاثة أيام عند الاختلاف في هلال الشهر احتياطًا). ونقل الخطيب الشربيني في المغني عن الشافعي استحباب صوم الثلاثة جميعها(5/307).
▪المرتبة الثانية: صيام التاسع والعاشر، فقد روى مسلم (1134) عن ابن عَبَّاسٍ -رَضِيَ الله عَنْهُمَا- قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ الله يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ الله : "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِع". قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم.
▪المرتبة الثالثة: صيام يوم قبله أو يوم بعده، بحيث إن لم يصم التاسع صام العاشر والحادي عشر، وقد جاء في مسند أحمد (2154)، وابن خزيمة (2095) من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوما، أو بعده يوما". قال الهيثمى (3/188) : رواه أحمد والبزار، وفيه محمد بن أبى ليلى وفيه كلام، ورواه الطحاوي موقوفا عن ابن عباس وسنده صحيح. (تعليق الأعظمي على ابن خزيمة).
▪المرتبة الرابعة: صوم عاشوراء وحده، ولا كراهة في إفراده عند جماهير العلماء، خلافا للحنفية. ( الموسوعة الكويتية (28/ 90). وإن كان الأولى صيام يوم قبله أو يوم بعده، كما قال: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وإن لم يتمكن الإنسان من صوم يوم قبله أو بعده، وصام عاشوراء وحده فلا حرج عليه، وإن وافق يوم السبت). قال صاحب الشرح الكبير (7 /533): (وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره).
والحاصل أن الإنسان يحرص على أن يصوم على أي مرتبة من هذه المراتب، ولا يضيع على نفسه أجر صوم عاشوراء.
إن المسارعة إلى الخيرات من أهم ما يحرص عليه المسلم، قال تعالى: ﴿...وَلَو شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُم أُمَّةً واحِدَةً وَلكِن لِيَبلُوَكُم في ما آتاكُم فَاستَبِقُوا الخَيراتِ إِلَى اللَّهِ مَرجِعُكُم جَميعًا فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم فيهِ تَختَلِفونَ﴾ [المائدة: ٤٨].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وعصمني وإياكم من الشيطان الرجيم.
أقول ما تسمعون ....
الخطبة الثانية
الوقفة السادسة: هل يجوز إفراد عاشوراء بالصيام حتى وإن كان يوم جمعة أو سبت؟
يقول أهل العلم: لا مانع من ذلك، وإن كان الأولى صيام يوم قبله أو يوم بعده، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية.
الوقفة السابعة: التحذير من الأحاديث الموضوعة المكذوبة في عاشوراء
نأسف أن تتداول بعض المواقع أخذا من بعض الكتب غير المعتمدة عند العلماء من الحفاظ والمحدثين، فتجدهم يروون أحاديث في استحباب الاختضاب، والاغتسال، وإظهار الفرح والسرور في يوم عاشوراء، وكل ذلك روايات باطله مكذوبة، لا مرجع لها ولا أسانيد، ولا زمام لها ولا خطام كما يقال، أو أسانيد مروية عن الوضاعين أو المجاهيل ونحوهم.
قال حرب الكرماني:(سألت أحمد عن الحديث الذي جاء في من وسع على أهله يوم عاشوراء، فلم يره شيئاً) (لطائف العارف 125).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لم يرد في ذلك حديث صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين … ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً لا صحيحاً ولا ضعيفاً … ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة). (الفتاوى25/299و317).
وللأسف، فإن بعض الكتب المنسوبة إلى تراثنا يوجد فيه مثل هذه الروايات، في شئون شتى من قضايانا الدينية والاجتماعية، وتظهر بعض تلك الأحاديث من فترة وأخرى في مجالسنا وقنوات التواصل، وتنتشر بين الناس!
وهل جاء علم الحديث، ووضع الأئمة الأعلام قواعد القبول والرد للروايات، ووجد علم كبير مهم من علوم الضبط ألا وهو الجرح والتعديل، إلا لكشف الزيف والباطل والروايات الواهية والموضوعة، وتمييز السنة الصحيحة من الروايات الدخيلة! كل ذلك لا ينتبه له الكثير من الكتاب والصحفيين فضلا عن غيرهم من عوام الناس، الذين يرددون الكذب والزور والروايات الباطلة من حيث لا يعلمون.
لذا ينبغي لك -أخي المسلم- الحذر من هذه الروايات الباطلة في كل مجال من مجالات الدين، كما يجب أن تتثبت وتتحرى فيما تقوله وتنشره من الأحاديث المنسوبة إلى خبر البرية صلى الله عليه وسلم، حتى لا تكون أحد الكذابَيْن، الأول مفتري الحديث والثاني أنت بنشره بين الناس.
أسأل الله العظيم أن يوفقنا لمرضاته، ويصلح شأننا كله، ويحسن لنا الختام!
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم المأمون، وأهل بيته الأطهار، وصحابته الأخيار. والحمد لله رب العالمين