خطبة : ( زلزال تركيا والشام )

عبدالله البصري
1444/07/17 - 2023/02/08 21:17PM

زلزال تركيا والشام 19/ 7/ 1444

الخطبة الأولى :

 
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لَا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدرًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في الأَيَّامِ المَاضِيَةِ ، نَقَلَت لَنَا وَسَائِلُ الإِعلامِ وَأَجهِزَةُ التَّوَاصُلِ مَشَاهِدَ مِن ذَلِكُمُ الزِّلزَالِ المُرَوِّعِ ، الَّذِي وَقَعَ في تُركِيَا وَشَمَالِ الشَّامِ ، وَرَأَينَا الأَرضَ وَقَد تَصَدَّعَت ، وَالمَبَانيَ الشَّاهِقَةَ وَقَد سَقَطَت وَتَهَدَّمَت ، وَالمَوتَى وَالمَحبُوسِينَ تَحتَ الأَنقَاضِ بِالعَشَرَاتِ ، وَالنَّاسُ بَينَ هَلَعٍ وَجَزَعٍ ، وَبُكَاءٍ وَصِيَاحٍ وَعَوِيلٍ ، لم يُوقِظْهُم مِن نَومِهِم قُبَيلَ الفَجرِ إِلاَّ الأَرضُ وَهِيَ تَتَفَطَّرُ وَتَتَشَقَّقُ ، وَتُحَطِّمُ مَا فَوقَهَا وَتَبتَلِعُهُ ، فَرُحمَاكَ اللَّهُمَّ بِالمُسلِمِينَ في الشَّامِ رُحمَاكَ ، فَقَدِ اجتَمَعَت عَلَيهِم مَصَائِبُ وَتَوَالَت عَلَيهِم أَحزَانٌ ، تَشرِيدٌ مِن دِيَارِهِم ، وَفَقرٌ وَحَاجَةٌ وَبَردٌ ، وَأَمطَارٌ وَثُلُوجٌ وَمُستَنقَعَاتٌ ، ثم زِلزَالٌ مُهلِكٌ مُدَمِّرٌ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ اجتَمَاعَ هَذِهِ الأُمُورِ الشَّدِيدَةِ عَلَى المُسلِمِينَ في كَثِيرٍ مِن أَنحَاءِ البِلادِ ، إِنَّهُ وَإِن كَانَ في ظَاهِرِهِ عَذَابًا وَنِقمَةً ، إِلاَّ أَنَّهُ في حَقِيقَتِهِ تَمحِيصٌ وَرَحمَةٌ ، وَهَذِهِ الابتِلاءَاتُ وَإِن كَانَت تَزِيدُ أَهلَ الضَّعفِ وَالشَّكِّ خَوفًا إِلى خَوفِهِم ، وَارتِدَادًا عَن دِينِهِم وَزُهدًا في مَبَادِئِهِم ، فَإِنَّهَا عِندَ أَهلِ الحَقِّ زِيَادَةُ عِبَرٍ وَتَكَرُّرُ مَوَاعِظَ ، تَزِيدُ إِيمَانَهُم وَتُقَوِّي يَقِينَهُم ، وَيَشتَدُّ بها صَبرُهُم وَيُربَطُ عَلَى قُلُوبِهِم ، وَتُقَرِّبُهُم مِن رَبِّهِم وَتُعِيدُهُم إِلى حِمَى مَولاهُم ، وَتَقطَعُ عَنهُم كُلَّ اتِّصَالٍ بِالخَلقِ أَوِ اعتِمَادٍ عَلَيهِم ، فَيَصرِفُونَ بِذَلِكَ قُلُوبَهُم إِلَيهِ وَحدَهُ دُونَ سِوَاهُ ، وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَيهِ مُخلِصِينَ في تُوَكُّلِهِم وَاعتِمَادِهِم عَلَيهِ ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " أُمَّتي أُمَّةٌ مَرحُومَةٌ ، لَيسَ عَلَيهَا عَذَابٌ في الآخِرَةِ ، عَذَابُهَا في الدُّنيَا الفِتَنُ وَالزَّلازِلُ وَالقَتلُ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَجَل أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ هَذِهِ الفِتَنَ الَّتي تُصِيبُ الأُمَّةَ وَتَتَوَالى عَلَيهَا ، وَتِلكُمُ الزَّلازِلَ وَذَلِكُمُ القَتلَ وَالاستِذلالَ مِنَ الكُفَّارِ وَالاستِصغَارَ مِنَ الأَعدَاءِ ، إِنَّهُ وَإِن كَانَ في ظَاهِرِهِ عَذَابًا وَذِلَّةً ، إِلاَّ أَنَّهُ في البَاطِنِ رَحمَةٌ مِنَ اللهِ وَلُطفٌ ، وَإِرَادَةُ يُسرٍ بَعدَ عُسرٍ ، وَتَحرِيكٌ لِبَوَاعِثِ العِزَّةِ ، وَتَمحِيصٌ لِلقُلُوبِ وَتَكفِيرٌ لِلذُّنُوبِ ، فَكُلَّمَا ضَعُفَ تَدَيُّنُ المُسلِمِينَ أَو نَقَصَ إِيمَانُهُم ، وَوَجَّهُوا وُجُوهَهُم إِلى أَعدَائِهِم ، وَصَارَت بَعضُ مُجتَمَعَاتِهِم عَلَى صُورَةِ مُجتَمَعَاتِ الكُفَّارِ الفُجَّارِ ، سُفُورٌ وَعُرْيٌ وَوَقَاحَةٌ ، وَخُمُورٌ وَبَغيٌ وَخِيَانَةٌ وَزِنًا وَخَنَا ، وَتَركٌ لِلصَّلاةِ وَاتِّبَاعٌ لِلشَّهَوَاتِ ، وَحُبٌّ لِلدُّنيَا وَكَرَاهِيَةٌ لِلمَوتِ ، وَأَخذٌ لِلرِّبَا وَأَكلٌ لِلأَموَالِ بِالبَاطِلِ ، إِذْ ذَاكَ يَبعَثُ اللهُ عَلَيهِم مَا يُوقِظُ قُلُوبَهُم ، وَيُذَكِّرُهُم بِوُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَيهِ ، خَاصَّةً إِذَا صُمَّت آذَانُهُم عَن وَعظِ الوَاعِظِينَ ، وَتَكَبَّرُوا عَلَى النَّاصِحِين وَوَقَفُوا في وُجُوهِ المُصلِحِينَ ، فَلَيسَ ثَمَّ إِلاَّ هَذِهِ الابتِلاءَاتُ وَالشَّدَائِدُ ، وَذَلِكَ مَذكُورٌ فِيمَا صَحَّ عَنِهُ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ حَيثُ قَالَ : " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقبَضَ العِلمُ ، وَتَكثُرَ الزَّلاَزِلُ ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، وَتَظهَرَ الفِتَنُ ، وَيَكثُرَ الهَرجُ - وَهُوَ القَتلُ القَتلُ - حَتَّى يَكثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " رَأَيتُ مَا تَلقَى أُمَّتي بَعدِي وَسَفْكَ بَعضِهِم دِمَاءَ بَعضٍ وَسَبْقَ ذَلِكَ مِنَ اللهِ تَعَالى كَمَا سَبَقَ في الأُمَمِ قَبلَهُم ، فَسَألتُه أَن يُوَلِّيَني شَفَاعَةً يَومَ القِيَامَةِ فِيهِم فَفَعَلِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ هَذِهِ الآيَاتِ المُذَكِّرَةَ المُخَوِّفَةَ ، كَانَت وَمَا زَالَت تَحدُثُ لِلنَّاسِ عَلَى مَرِّ عُصُورِهِم وَتَوَالي دُهُورِهِم ، وَمَن قَرَأَ في كُتُبِ التَّارِيخِ أَو تَصَفَّحَهَا ، وَنَظَرَ في الأَحدَاثِ عَلَى مَدَى القُرُونِ وَتَأَمَّلَهَا ، رَأَى ذَلِكَ وَوَجَدَ مِنهُ عَجَبًا ، فَقَد أَجدَبَتِ الأَرضُ في عَهدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ حَتى كَانَتِ الرِّيحُ تَسفِي تُرَابًا كَالرَّمَادِ ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ العَامُ عَامَ الرَّمَادَةِ ، فَآلى عُمَرُ أَلاَّ يَذُوقَ سَمنًا وَلا لَبَنًا وَلا لَحمًا حَتى يَحيَى النَّاسُ ، وَاستَسقَى بِالعَبَّاسِ فَسُقُوا ، وَفي عَهدِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَانَ طَاعُونُ عَموَاسَ في الشَّامِ ، وَفِيهِ مَاتَ جَمعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم ، وَفي بَعضِ السِّنِينَ وَقَعَ طَاعُونٌ في البَصرَةِ ، حَتى إِنَّ أُمَّ أَمِيرِهِم لَمَّا مَاتَت لم يَجِدُوا مَن يَحمِلُهَا ، وَفي بَعضِ السِّنِينَ حَصَلَ طَاعُونٌ مَاتَ في أَوَّلِ يَومٍ مِنهُ سَبعُونَ أَلفًا ، وَفي الثَّاني نَيِّفٌ وَسَبعُونَ أَلفًا ، وَفي اليَومِ الثَّالِثِ خَمَدَ النَّاسُ ، وَفي بَعضِ السِّنِينَ كَثُرَ المَوتُ حَتى كَانَ يُدفَنُ في القَبرِ الوَاحِدِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ ، وَفي سِنِينَ أُخرَى ذُبِحَ الأَطفَالُ وَأُكِلُوا مِنَ الجُوعِ ، بَل وَأُكِلَتِ الجِيَفُ ، وَبِيعَ العَقَارُ بِرَغِيفٍ أَو رَغِيفَينِ مِن خُبزٍ ، وَفي بَعضِهَا عَمَّت أَمرَاضٌ كَانَ أَهلُ الدَّارِ كُلُّهُم يَمُوتُونَ مِنهَا في لَيلَةٍ ، وَفي بَعضِ السِّنِينَ أَصابَ البَصرَةَ حَرٌّ شَدِيدٌ ، فَكَانَ أَهلُهَا يَتَسَاقَطُونَ مَوتَى في الطُّرُقَاتِ ، وفي بَعضِ السِّنِينَ اشتَدَّ الجُوعُ وَالوَبَاءُ في مِصرَ ، حَتى أَكَلَ النَّاسُ بَعضَهُم ، وَبِيعَ اللَّوزُ وَالسُّكَّرُ بِوَزنِ الدَّرَاهِمِ ، وَالبَيضَةُ بِعَشَرَةِ قَرَارِيطَ ، وَخَرَجَ أَحَدُ الوُزَرَاءِ فَنَزَلَ عَن بَغلَتِهِ ، فَأَخَذَهَا ثَلاثَةٌ فَأَكَلُوهَا فَصُلِبُوا ، فَأَصبَحَ النَّاسُ لا يَرَونَ إِلاَّ عِظَامَهُم تَحتَ خَشَبِهِم وَقَد أُكِلُوا ، وَفي بَعضِ السِّنِينَ وَقَعَ المَوتُ في الدَّوَابِّ ، حَتى إِنَّ رَاعِيًا قَامَ إِلى غَنَمِهِ وَقتَ الصَّبَاحِ لِيَسُوقَهَا فَوَجَدَهَا كُلَّهَا مَيتَةً ، وَزُلزِلَتِ الأَرضُ عَلَى عَهدِ عُمَرَ في سَنَةِ عِشرِينَ ، وَفي سَنَةِ أَربَعٍ وَتِسعِينَ دَامَتِ الزَّلازِلُ أَربَعِينَ يَومًا ، وَوَقَعَتِ الأَبنِيَةُ الشَّاهِقَةُ وَتَهَدَّمَت أَنطَاكِيَةُ ، وَمَن قَرَأَ تَارِيخَ جَزِيرَةِ العَرَبِ وَخَاصَّةً وَسَطَهَا ، وَجَدَ أَنَّهُ قَد أَصَابَتِ النَّاسَ فِيهَا ابتِلاءَاتٌ شَدِيدَةٌ وَجَدبٌ وَفَقرٌ وَجُوعٌ وَمَسغَبَةُ ، حَتى هَاجَرَ كَثِيرٌ مِنهُم إِلى العِرَاقِ وَالشَّامِ وَغَيرِهِمَا .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ بِلادَ الإِسلامِ وَإِن كَانَتِ اليَومَ قَد تَغَيَّرَت كَثِيرًا ، فَقَد كَانَت يَومًا مَا هِيَ عَوَاصِمَ الإِسلامِ وَحَوَاضِرَ الخِلافَةِ ، وَمِنهَا انطَلَقَت جُيُوشُ المُسلِمِينَ لِنَشرِ الإِسلامِ في الشَّرقِ وَالغَربِ ، وَفِيهَا عَاشَ عُلَمَاءُ وَأُدَبَاءُ ، وَدَرَّسُوا القُرآنَ وَالسُّنَّةَ وَالتَّفسِيرَ وَاللُّغَةَ وَالفِقهَ ، وَسَيَعُودُ الإِسلامُ إِلَيهَا في آخِرِ الزَّمَانِ وَخَاصَّةً الشَّامَ ، فَهِيَ أَرضٌ كَانَت وَلم تَزَلْ مُبَارَكَةً ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في شَامِنَا ..." الحَدِيثَ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " يَا طُوبى لِلشَّامِ ، يَا طُوبى لِلشَّامِ ، يَا طُوبى لِلشَّامِ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ وَبِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : " تِلكَ مَلائِكَةُ اللهِ بَاسِطُو أَجنِحَتِهَا عَلَى الشَّامِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَأَحمَدُ وَغَيرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.  وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " أَلا إِنَّ الإِيمَانَ إِذَا وَقَعَتِ الفِتَنُ بِالشَّامِ " رواه أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ فُسطَاطَ المُسلِمِينَ يَومَ المَلحَمَةِ بِالغُوطَةِ ، إِلى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشقُ ، مِن خَيرِ مَدَائِنِ الشَّامِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.  وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " يَنزِلُ عِيسَى ابنُ مَريَمَ عَلَيهِ السَّلامُ عِندَ المَنَارَةِ البَيضَاءِ شَرقِيَّ دِمشَقَ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذلِكَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ وَكَانَتِ الأَيَّامُ دُوَلاً وَالدَّهرُ قُلَّبًا ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِدِينِنَا وَمَصدَرِ عِزِّنَا وَحَبلِ قُوَّتِنَا ، فَإِنَّهُ هُوَ المُستَمسَكُ إِذَا رَثَّتِ الحِبَالُ وَانقَطَعَتِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعدَ إِيمَانِكُم كَافِرِينَ وَكَيفَ تَكفُرُونَ وَأَنتُم تُتلَى عَلَيكُم آيَاتُ اللهِ وَفِيكُم رَسُولُهُ وَمَن يَعتَصِمْ بِاللهِ فَقَد هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ . وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ . وَلْتَكُنْ مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ "

 

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ جُزءًا كَبِيرًا مِن هَذِهِ المَصَائِبِ الَّتي تَحُلُّ بِالأُمَمِ مِن زَلازِلَ وَبَرَاكِينَ وَأَعَاصِيرَ ، وَفَيَضَانَاتٍ وَسُيُولٍ مُدَمِّرَةٍ ، وَفَسَادٍ في المِيَاهِ وَالهَوَاءِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالمَسَاكِنِ ، وَغَيرِهَا مِن غَلاءٍ وَوَبَاءٍ وَجَورِ بَعضِ السَّلاطِينِ وَانتِشَارِ الأَمرَاضِ وَالأَوبِئَةِ ، إِنَّ جُزءًا مِن ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبٍ مِنَ النَّاسِ أَنفُسِهِم ، وَثَمَرَةٌ لِمَا عَمِلَتهُ أَيدِيهِم ، وَجَزَاءٌ لِمَا يَقتَرِفُونَهُ مِنَ المَعَاصِي وَالآثَامِ ، قَالَ تَعَالى : " ذلِكَ بِما قَدَّمَت أَيدِيكُم وَأَنَّ اللهَ لَيسَ بِظَلَّامٍ لِلعَبِيدِ . كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِم إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقابِ . ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَها عَلى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " وَقَالَ تَعَالى : " ظَهَرَ الفَسادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بِما كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرى بِظُلمٍ وَأَهلُها مُصلِحُونَ " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " يَا مَعشَرَ المُهَاجِرِينَ ، خِصَالٌ خَمسٌ إِذَا ابتُلِيتُم بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللهِ أَن تُدرِكُوهُنَّ : لم تَظهَرِ الفَاحِشَةُ في قَومٍ قَطُّ حَتى يُعلِنُوا بها إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوجَاعُ الَّتي لم تَكُنْ مَضَت في أَسلافِهِم الَّذِينَ مَضَوا ، وَلم يَنقُصُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ المُؤنَةِ وَجَورِ السُّلطَانِ عَلَيهِم ، وَلم يَمنَعُوا زَكَاةَ أَموَالِهِم إِلاَّ مُنِعُوا القَطرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَولا البَهَائِمُ لم يُمطَرُوا ، وَلم يَنقُضُوا عَهدَ اللهِ وَعَهدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللهُ عَلَيهِم عَدُوَّهُم مِن غَيرِهِم فَأَخَذُوا بَعضَ مَا كَانَ في أَيدِيهِم ، وَمَا لم تَحكُمْ أَئِمَّتُهُم بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَتَحَرَّوا فِيمَا أَنزَلَ اللهُ إِلاَّ جَعَلَ اللهُ بَأسَهُم بَينَهُم " رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَمَعَ هَذَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، فَلَيسَ كُلُّ ابتِلاءٍ هُوَ عَذَابًا ، بَل إِنَّ مِنهُ مَا يُرَادُ بِهِ اختِبَارُ صِدقِ الإِيمَانِ وَالصَّبرِ عَلَى الجِهَادِ ، وَمِنهُ مَا يَكُونُ تَمهِيدًا لِلتَّمكِينِ في الأَرضِ ، قَالَ تَعَالى : " وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتَّى نَعلَمَ المُجاهِدِينَ مِنكُم وَالصَّابِرِينَ وَنَبلُوَ أَخبارَكُم " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ . وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكاذِبِينَ " وَقَالَ جَلَّ وَعَلا : " لَتُبلَوُنَّ في أَموالِكُم وَأَنفُسِكُم وَلَتَسمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبلِكُم وَمِنَ الَّذِينَ أَشرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِن عَزمِ الأُمُورِ " وَمِنَ البَلاءِ مَا يَكُونُ جَزَاؤُهُ الجَنَّةَ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ ، عَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " قَالَ اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالى : إِذَا ابتَلَيتُ عَبدِي بِحَبِيبَتَيهِ ثُمَّ صَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنهُمَا الجَنَّة " يُرِيدُ عَينَيهِ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " مَنِ ابتُلِيَ بِشَيءٍ مِنَ البَنَاتِ فَصَبَرَ عَلَيهِنَّ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ " أَخَرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمُّ وَالتِّرمِذِيّ وَاللَّفظَ لَهُ . وَإِنَّهُ كَمَا يُبتَلَى النَّاسُ بِالشَّرِّ وِالنِّقَمِ ، فَإِنَّهُم يُبتَلَونَ بِالخَيرِ وَالنِّعَمِ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينا تُرجَعُونَ " وَقَالَ تَعَالى عَن نَبِيِّهِ سُلَيمَانَ عَلَيهِ السَّلامُ : " قَالَ هَذَا مِن فَضلِ رَبِّي لِيَبلُوَني أَأَشكُرُ أَم أَكفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّما يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنيٌّ كَرِيمٌ " وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " وَاعلَمُوا أَنَّما أَموالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ " وَمِن ثَمَّ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، فَلا يَغتَرَّنَّ مُعَافًى بِعَافِيَتِهِ ، وَلا يَسخَرَنَّ مِمَّنِ ابتُلُوا ، وَلْيُؤمِنِ الجَمِيعُ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ ، وَمَشِيئَتِهِ في عُمُومِ مُلكِهِ ؛ فَإِنَّهُ مَا مِن شَيءٍ في السَّمَاوَاتِ وَلا في الأَرضِ إِلاَّ وَهُوَ مُلكُهُ عُزَّ وَجَلَّ ، قَالَ جَلَّ وَعَلا : " مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ في الأَرضِ وَلا في أَنفُسِكُم إِلاَّ في كِتابٍ مِن قَبلِ أَن نَبرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " للهِ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ "

المرفقات

1675880229_زلزال تركيا والشام.docx

1675880238_زلزال تركيا والشام.pdf

المشاهدات 9487 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا