خطبة داء الغفلة - الشيخ صالح بن محمد باكرمان
شادي باجبير
الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يُضلل فلا هادي له . وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه و آله وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثة بدعة ، وكلَّ بدعة ضلاله ، وكل ضلالة في النار .
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ وَالأَرحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقيبًا﴾ [النساء: ١]
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقولوا قَولًا سَديدًايُصلِح لَكُم أَعمالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد فازَ فَوزًا عَظيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠-٧١]
أما بعد :
أيها المسلمون - عباد الله - إنَّ القلوب تمرض ، كما تمرض الأجساد . إنَّ للقلوب أمراضاً ، كما أنَّ للأجساد أمراضاً ، وإنَّ من أعظم أمراض القلوب الغفلة .
داء الغفلة و مرض الغفلة ، الذي يُخيّم على القلب ،ويغشى على القلب ، ويُعمي القلب ، يُفقِد القلبَ الرؤية والإبصار ، يحجب عن القلب الرؤية ، ويُفقِده الإدراك والإحساس بما يجب الإحساس به ، يُعطّل على القلب و على الآلات معانيها.
القلب الذي معناه الفِقه والتفهُّم ، يُفقِده معناه ، ويعطِّل عليه فقهه وفهمه .
والعين التي معناها الإبصار ، يُفقِدها هذا الداءُ الإبصارَ ، و يُعميها عن إبصار الحق .
الآذان التي معناها وثمرتها السمع ، تُفقِدها الغفلةُ السمعَ.
الغفلة تعطِّل الآلات ، تعطِّل غايات هذه الآلات ، والنِّعم التي أنعم الله - عزَّ وجل - بها على الإنسان ، قال الله - عز وجل - : ﴿وَلَقَد ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلوبٌ لا يَفقَهونَ بِها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسمَعونَ بِها أُولئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ﴾ [الأعراف: ١٧٩]
الغافلون الذين لا ينتفعون بقلوبهم ، ولا بأعينهم ، ولا بآذانهم ، لهم قلوب تَفهم ، ولكنَّ المنفيَّ هو الثمرة ، لايفقهون بها ، لهم أعين تُبصر ، ولكنَّها لا تُبصر الحقَّ ، لهم أعين لا يبصرون بها ، يُبصرون بها المرئيات ، ولكنَّهم لا يبصرون بها الحق كالأعمى تماماً ،و لهم آذان يسمعون بها الأصوات ، ولكنَّهم لا ينتفعون بتلك الأصوات ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أي لا يسمعون بها سمعاً ينفعهم .
حال أولئك ، قال - I عنه : (أُولئِكَ كَالأَنعامِ )
الأنعام لها قلوب ، ولها نوع إدراك ، ولها أعين تبصر المرئيات ، ولها آذان تسمع الأصوات ، وهؤلاء مثلها في ذلك ، غير أنَّ الأنعام لم يعطها الله - عزوجل - الإدراك التام ، والعقول الهادية والفهوم ؛ فهي معذورة ، وهؤلاء أعطاهم الله - عز وجل - ، ولكنَّهم عطَّلوه ، فكانوا أسفل من الأنعام (أُولئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ)
أترضى عبدَالله ، أن تكون من هؤلاء ؟!
ربُّ العالمين - جل جلاله - يذكرنا ويُنبِّهنا ؛ حتى لا نكون من هؤلاء الغافلين .
هذا الداء عبادَالله ، يُعطِّل القلوب ، والأسماع ، والأبصار .
الغافل يسمع الآيات ، ويسمع المواعظ ، ولكنَّه لا ينتفع بها ؛ لأنَّه يسمعها أصواتاً ، كما تقول العامة : " تَدخُل من هنا ، وتَخرج من هنا ؛ ولا تصل الى هنا" لا تصل إلى القلوب .
قال الله - سبحانه وتعالى - عن حال الناس والغفلة : ﴿اقتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم وَهُم في غَفلَةٍ مُعرِضونَما يَأتيهِم مِن ذِكرٍ مِن رَبِّهِم مُحدَثٍ إِلَّا استَمَعوهُ وَهُم يَلعَبونَلاهِيَةً قُلوبُهُم ... ﴾ [الأنبياء: ١-٣] الآية .
( اقتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم) اقترب الحساب عبادَ الله . اقترب الحساب ، وكل ماهو آتٍ فهو قريب . كيف ونحن في آخر الزمان ؟!
اقترب الحساب ؛ لأنَّ الدنيا مرتحلة ذاهبة إلى اضمحلال ، ولأنَّ الآخرة مرتحلة ، مُقبلة كما قال علي - رضي الله عنه وأرضاه - : "ارتحلت الدنيا مدبرة ، وارتحلت الآخرة مقبلة ، ولكلٍّ منهما بنون ، فكن من أبناء الآخرة ، ولا تكن من أبناء الدنيا . "
الدنيا مرتحلة كقطار ، ونحن على ظهر ذلك القطار ، ويمضي القطار ، وبعد كل فترة يقف في محطة ؛ ليُخرج مِن على ظهره طائفهً منَّا الموتُ . والقطار يسير سريعاً ، والقطار يُخْلِي مَن على ظهره ، وفي جواره قطار آخر ، هو قطار الآخرة مقبل إلينا ، ويأخذ من أخرجه قطار الدنيا ، فالدنيا مرتحلة ، ماضيةٌ ، ماشية ، وتتخلى عن أبنائها ، والآخرة مقبلة ، وتحمل مَن تخلَّت عنهم الدنيا ، ويُوشك أن ينتهي قطار الدنيا ، وتنتهي مرحلته ، لنكون جميعاً في الآخرة .
(اقتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم وَهُم في غَفلَةٍ مُعرِضونَ)
(في غَفلَةٍ مُعرِضونَ) معرضون عن الله ، عن ذكر الله ، عن الصلاة ، عن الموت ، عن الآخرة ، عن القرآن ، عن الطاعة .
(في غَفلَةٍ مُعرِضونَ) يسمعون القرآن، يسمعون الآيات ، والمواعظ تتجدد ، ولكنَّ القلوب غشيها الران .
(لاهِيَةً قُلوبُهُم ) القلوب لاهية ،القلوب منشغلة .
﴿ما يَأتيهِم مِن ذِكرٍ مِن رَبِّهِم مُحدَثٍ إِلَّا استَمَعوهُ وَهُم يَلعَبونَلاهِيَةً قُلوبُهُم ... ﴾ فنسأل الله - عزوجل - السلامة !
هذه الغفلة - عبادَ الله - لها أسباب كثيرة ، ومن أعظم أسبابها : ضعف المعرفة بالله - عزوجل - ، وضعف اليقين بالله - عزوجل - ، وبالآخرة ، وبالرسالة ، والدين ، و بالرسول - صلى الله عليه و آله وسلم .
كل مسلم عنده إيمان بالله - عزوجل - وبالرسول -صلى عليه و آله وسلم - وبالدين ، والإسلام ، والآخرة ، ولكنَّ هذا الدين لم يبلغ درجة اليقين ، والرسوخ = ضَعْفُ اليقين .
وكلما ذهب الإيمان ؛ ذهبت الذكرى ، وحلَّت الغفلة . ﴿... وَأَسَرُّوا النَّجوَى الَّذينَ ظَلَموا هَل هذا إِلّا بَشَرٌ مِثلُكُم أَفَتَأتونَ السِّحرَ وَأَنتُم تُبصِرونَ﴾ [الأنبياء: ٣] هؤلاء هم الكفار ، الذين بلغت الغفلة من قلوبهم مداها ؛ لأنهم لا يؤمنون بالله- عزوجل - ولا باليوم الآخر ، ولا بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكنَّ من نقص يقينه من أهل الإسلام غفل .
ضعْف اليقين بالله - عزوجل - ، بعظمته ، معرفة رب العالمين جل جلاله ، بأسمائه وصفاته ، اليقين بالرسول - صلى الله عليه و آله سلم - ورسالته ، وصدق ما جاء به، اليقين بالقرآن ، اليقين بالآخرة ، والجنة ، والنار التي تحرك القلوب نحو العمل .
ومن أسباب الغفلة : الالتهاء بالدنيا وبالملهيات ، قال الله - عزوجل -: ﴿أَلهاكُمُ التَّكاثُرُحَتّى زُرتُمُ المَقابِرَ﴾ [التكاثر: ١-٢]
(أَلهاكُمُ التَّكاثُرُ ) شغلكم التكاثر في الدنيا ، شغلكم عن الله ، عن الآخرة ، عن الأعمال الصالحة.
(أَلهاكُمُ التَّكاثُرُ) في الأموال ، التكاثر في الأولاد ، التكاثر في الممتلكات ، التكاثر في المعلومات دون عمل ، شغلكم التكاثر ، كلٌّ يريد أن يكون أكثر من غيره ، في عمل الدنيا ، وفي حال الدنيا ؛ فخيَّمت الغفلة على القلوب .
(أَلهاكُمُ التَّكاثُرُ ) شغلكم (حَتّى زُرتُمُ المَقابِرَ ) حتى مِتُّم ، وزرتم المقابر محمولين على أيدي الرجال ، وعلى أكتاف الرجال ، وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال الحبيب المصطفى -صلوات ربي وسلامه عليه - : " مَنْ بَدَا جَفَا ، وَمَنْ تَبِعَ الصَّيْدَ غَفَلَ " رواه أحمد وأبو داود
"مَنْ بَدَا جَفَا " من عاش في البادية جفا . حياة البادية تُثمر الجفاء في الطبع ، والأخلاق .
"وَمَنْ تَبِعَ الصَّيْدَ غَفَلَ" من تبع الصيد ، والتهى بالصيد غفل ، غفل عن أُخراه، وغفل عن الخير . فإذا كان من تبع الصيد غفل ، في ساعات معدودات ، فكيف بمن يغفل بالملهيات المعاصرة ، بالتلفاز ، والإنترنت ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، نجلس مع هذه الآلات الساعات الطوال ؟! فكيف لا نغفل ؟!
"وَمَنْ تَبِعَ الصَّيْدَ غَفَلَ" الالتهاء بالمهليات عباد الله ، يُثمر الغفلة .
ومن أسباب الغفلة : المعاصي . إذا عصى العبد ربه ، ثم عصى العبد ربه ، تجتمع عليه هذه المعاصي ، حتى تَرينَ على قلبه ، وحتى تُغشِّي قلبه ﴿كَلّا بَل رانَ عَلى قُلوبِهِم ما كانوا يَكسِبونَ﴾ [المطففين: ١٤]
(رانَ عَلى قُلوبِهِم ) غطّى على قلوبهم ، غشَّى على قلوبهم عملُهم (ما كانوا يَكسِبونَ ) من المعاصي والذنوب . نسأل الله السلامة !
" تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدَ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ " رواه مسلم .
المعاصي : نعمل الحرام ، ونأكل الحرام ، ونشرب الحرام، ونقول الحرام ، ونكذب ، ونغتاب ، ونرى الحرام ، ونسمع الحرام ، ونغرق في المحرمات، والمعاصي ، ويطبع الله -عزوجل - بها على قلوبنا. نسأل الله السلامة !
ومن أسباب الغفلة : مجالسة الغافلين ﴿... وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: ٢٨]
فلنتقِ الله - عباد الله - ، ولنحذر من هذا الداء ، الذي ربما يستفحل على القلب . تبدأ الغفلة نسياناً ، أو تبدأ الغفلة سهواً ، ثم تستحكم نسياناً في القلب ﴿وَلا تَكونوا كَالَّذينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنساهُم أَنفُسَهُم أُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾ [الحشر: ١٩]
أقول ماسمعت وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمدلله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمابعد : أيها المسلمون -عبادالله- اتقوا الله حق تقواه .
عبادالله ، وكما أنَّ للغفلة أسباباً ، فإنَّ لإزالة الغفلة وسائل . ثَمَّةَ وسائلُ ، يمكن بها إزالة هذه الغفلة عن قلوبنا ، وأن نمنع هذه الغفلة عن قلوبنا ، أن نمنع عن قلوبنا هذا الداء الخطير .
فمن وسائل إزالة الغفلة ، ومنع الغفلة :- المعرفة بالله - عزوجل - واليقين بالله - عزوجل - واللَّهج بذكر الله -عزوجل - ، ربط القلوب بالله - سبحانه وتعالى - .
قال الله - عزوجل - لرسوله الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - : (وَاذكُر رَبَّكَ ) الخطاب لمن ؟ للحبيب - صلى الله عليه وآله وسلم - للرسول الكريم - صلوات ربي وسلامه عليه - لأعظم الخلق ، لأعلم الخلق بالله ، لأتقى الخلق لله ، فإذا كان خطاباً له ،فهو خطاب لنا من باب أولى ؛ لأننا أحوج .
﴿وَاذكُر رَبَّكَ في نَفسِكَ تَضَرُّعًا ... ﴾ تضرعاً لله ﴿... وَخيفَةً وَدونَ الجَهرِ مِنَ القَولِ بِالغُدُوِّ وَالآصالِ وَلا تَكُن مِنَ الغافِلينَ﴾ [الأعراف: ٢٠٥] إذا أردت ألّا تكون من الغافلين ، فالْهَج بذكر الله ، كن من الذاكرين لله - عزوجل - ، أكثِر من ذكر الله ؛ تذهب عن قلبك الغفلة .
ذكر الله عزوجل ؛ يُجَلِّي عن القلب الغفلة ﴿وَاذكُر رَبَّكَ في نَفسِكَ تَضَرُّعًا وَخيفَةً وَدونَ الجَهرِ مِنَ القَولِ بِالغُدُوِّ وَالآصالِ وَلا تَكُن مِنَ الغافِلينَ﴾
ومن أسباب إزالة الغفلة ، ووسائل إزالة الغفلة : قراءة القرآن ، والإقبال على كتاب الله - عزوجل - فالقرآن يُجَلِّي عن القلوب صداها ، كما تُجَلِّي النارُ صدى الحديد .
يُجْلِي الله - عزوجل - بالقرآن القلوب ، ويصفيها كما تصفي النار الحديد ، كلما قرأت القرآن ، ازدت إيماناً ، قال الله - عزوجل - : ﴿إِنَّمَا المُؤمِنونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلوبُهُم وَإِذا تُلِيَت عَلَيهِم آياتُهُ زادَتهُم إيمانًا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَالَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ﴾ [الأنفال: ٢-٣]
أين الإقبال على القرآن ؟! أين قراءة القرآن ؟! يمكث الواحد منَّا على لهو ، ولعب ساعات ، ولا يستطيع أن يقرأ صفحة من القرآن .
القلوب مريضة ، والنفوس غافلة ، والشيطان جاثم على القلوب ، يسمح لك أن تمكث ساعة ، وساعتين مع كلام لافائدة فيه لك ، لا في دنيا ، ولا في آخرة ، ليس فيه فائدة حتى في الدنيا ، ولكنَّه يحجبك عن قراءة صفحة ، وربما آية من كتاب الله - عزوجل - أبَعدَ هذه الغفلة غفلة ؟! قلوب مريضة .
النفس إذا كانت مريضة ، وتصيبها المرارة ، لا تطعم الأشياء ، لا تتذوق الأشياء ، والقلب إذا مرض عباد الله ، لا يتذوق الطاعة ، والإيمان ، لايشعر بحلاوة مع صلاةٍ ، ولا مع ذكر ، ولا مع طاعة ؛ لأنَّه مريض بالمرارة ، فلنُطهِّر قلوبنا عباد الله ، من هذه المرارة .
ومن وسائل دفع الغفلة : مجالسة الصالحين ﴿وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدعونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ يُريدونَ وَجهَهُ ... ﴾ [الكهف: ٢٨] والقرين بالمقارن يقتدي .
ومن وسائل دفع الغفلة : الذكرى ، حضور مجالس الذكر ، ومن أعظم نعم الله ، ورحمته على عباده ، وعلى أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - عباد الله ، هذه العِظَة خطبة الجمعة ، من أعظم نعم الله على هذه الأمة ، ومن أعظم رحمة الله على هذه الأمة ، جعل هذه الخطبة ، وهذه العِظَة فريضة عليك - عبد الله - تأتي إليها راغماً أنفك ، طاعة لله ؛ لأنَّك مؤمن مسلم ، يجرُّك الله فرضاً من أجل نفسك ، من أجل أن تتعظ ، من أجل أن يُحيي قلبك ؛ لأنَّه يحبك - سبحانه وتعالى - يحب هذه الأمة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس لأمة من الأمم مثل هذه الشعيرة العظيمة .
فهل يليق بك - عبدالله - أن تتخلف عنها ، أو أن تتأخر عنها ؟! إذا طال على قلبك الأمد عن الذكرى قسا ﴿أَلَم يَأنِ لِلَّذينَ آمَنوا أَن تَخشَعَ قُلوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكونوا كَالَّذينَ أوتُوا الكِتابَ مِن قَبلُ فَطالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلوبُهُم وَكَثيرٌ مِنهُم فاسِقونَ﴾ [الحديد: ١٦]
(طالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ) عن الذكرى ؛ فقست قلوبهم ، فلا تتخلف عن هذه الخطبة ، لا تتخلف عن هذه الشعيرة ، ولا تتأخر عنها ، فإنها حجة عليك عند الله - عزوجل - يوم القيامة ، أقل ما تتعظ به ، وتتذكر به ، ولو سمعت آية ، ولوسمعت قول الخطيب : اتقوا الله .
ومن وسائل دفع الغفلة : تذكر الآخرة ، أن نتذكر الآخرة والموت . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تذكروا هادِمَ اللذَّاتِ " الموت الذي يهدم كل لذة . زيارة القبور قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : " كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ . " وفي رواية " تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ . "
هذه عباد الله ، وغيرها من الوسائل ، لابد للعبد أن يهتدي ؛ فيهديه الله ﴿وَالَّذينَ اهتَدَوا زادَهُم هُدًى وَآتاهُم تَقواهُم﴾ [محمد: ١٧]
فاتقوا الله - عباد الله - وتذكروا ، واتعظوا قبل فوات الأوان ، قبل أن ينزل الموت ، ونتمنى الرجعة فلا نُعطاها ﴿... رَبِّ ارجِعونِلَعَلّي أَعمَلُ صالِحًا فيما تَرَكتُ كَلّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِن وَرائِهِم بَرزَخٌ إِلى يَومِ يُبعَثونَ﴾ [المؤمنون: ٩٩-١٠٠]
نتعظ ، ونرجع ، ونتوب ، قبل أن نكون بين يدي الله ﴿وَجاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّاوَجِيءَ يَومَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَومَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسانُ وَأَنّى لَهُ الذِّكرىيَقولُ يا لَيتَني قَدَّمتُ لِحَياتي﴾ [الفجر: ٢٢-٢٤] حياتك عبدالله ، هي الآخرة .
فنسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يزيل عن قلوبنا الغفلة ، وأن يملأ قلوبنا بذكره سبحانه وتعالى !
اللهم اغفر لنا يا أرحم الراحمين ! اللهم طهِّر قلوبنا ! اللهم طهِّر قلوبنا ! اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها !
اللهم اغفر للمسلمين ، والمسلمات ، والمؤمنين ، والمؤمنات الأحياء منهم ، والأموات ! اللهم اغفر لآبائنا ، وأمهاتنا ، وأزواجنا ، وذرياتنا ، ومشايخنا ، ومعلمينا ، ومن له حق علينا ! اللهم اغفر لكل من حضر ، في هذا المسجد يا أرحم الراحمين ! اللهم ارحم ، واغفر - يارب العالمين - لمن بنى هذا المسجد ، ولمن قام عليه ، ولمن صلى فيه ! اللهم اغفر لنا جميعاً يا أرحم الراحمين !
اللهم يسِّر أمورنا ! اللهم ارحمنا -يا أرحم الراحمين - برحمتك ! اللهم رخِّص أسعارنا ، غزِّر أمطارنا ، ولِّ علينا خيارنا ، اصرف عنا أشرارنا !
﴿... رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ [البقرة: ٢٠١]
عبادالله ، وصلوا وسلموا على من أمركم الله - عزوجل – بالصلاة والسلام عليه, فقال : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلّوا عَلَيهِ وَسَلِّموا تَسليمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦]
اللهم صلِّ على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ! اللهم بارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد !
عبادَ الله ، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾ [النحل: ٩٠]
فاذكروا الله ؛ يذكركم واشكروه ؛ يزدكم ، ولذكر الله أكبر ، والله أعلم بما تصنعون .