(خطبة) خطر إلف النعم ثم كفرها

خالد الشايع
1440/11/07 - 2019/07/10 18:13PM

الخطبة الأولى (خطر إلف النعم ثم كفرها )     9/11/1440

أما بعد فيا أيها الناس : لقد من الله علينا بنعم عظيمة ، لو حاولنا عدّها لم نستطع إحصاءها ، كما قال سبحانه ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )

فضلا عن شكرها ، أو إسداء حقها ، وأعظم من ذلك جحودها وكفرها ، ولا يجحد بنعم الله إلا كل كفور ، ولكن يتسلل للمسلم كفر النعمة عندما يألفها ، ثم يغيب عن فكره عظيم النعمة فيها ، ثم يكفرها وهو لا يشعر ، ويبدأ ينظر في المصائب والبلاء ، أو يمد عينيه إلى ما متع الله به غيره من زهرة الحياة الدنيا ، وقد نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، والنهي للنبي صلى الله عليه وسلم هو نهي للأمة كلها ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى )

معاشر المسلمين : إن كثرة النعم ، والانغماس فيها ، يورث الغفلة عنها ويجعل العبد ينساها ولا يقدرها حق قدرها ، ولا يعرف قيمتها حتى يفقدها ، إنه إلف النعم ، إذا ألفها العبد كفرها ، وكم من نعمة نتقلب فيها صباح مساء ، ولا نعرف قيمتها ولا نشكرها بل نتذمر منها أحيانا ، ولا يعرف قيمتها إلا حين فقدها .

ولنا في سبأ آية ، كما ذكر الله في كتابه (لقد كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ(15)فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ(16)ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ(17)وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ(18)فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)

لما اعتادوا النعم ،ملوا منها ، وكفروها ، وطلبوا من الله ، أن يزيلها عنهم ، ويبدلهم بالسيء الحسن ، فما كانت النتيجة ؟

سلبوا النعم ، وحل بهم العذاب ، والعياذ بالله .

عباد الله : لو جلس المسلم مع نفسه وقام بتأمل النعم التي يملكها وقد حرمها غيره ، لتعجب من عظيمها ، وغفلته عنها ، ثم استحى من ربه أن يطلب منه غيرها متذمرا من حياته وملله منها ، ونحن نسمع من بعض أولادنا كلمة تدل على ذلك ، عندما يتأففون من الفراغ ويقولون طفش ، خصوصا في الإجازات ، ولو نظر المسلم إلى كثير من الخلق في شتى بقاع الأرض وما يفتقدونه من ضروريات الحياة كالأمن والأكل والشرب ، لعرف عظيم نعم الله عليه ، ولما ازدرى نعمة الله عليه ، وما أحسن اطلاع الأولاد على بعض أحوال الدول الفقيرة من حولنا ، وهم يبحثون عن الطعام في المزابل ، والمياه الملوثة ، وما يحيط بهم من الخوف والجوع ، ليعرفوا ما هم فيه من النعم .

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله "

فمتى نظر المسلم إلى من حوله من الضعفاء والمساكين عرف قيمة ما يملك من النعم ، فمن يسكن في شقة صغيرة ، إذا نظر إلى من يسكن في خيمة عرف قيمة الشقة ، ومن يسكن في بيت يملكه ، وهو قديم ، يعرف قيمته إذا رأى من يهدد بقطع الكهرباء عنه لأنه لم يسدد الإيجار ، ومن هو متزوج ينظر إلى الأعزب العاجز عن الزواج ، ومن هو في عافية ينظر إلى من يرقد بالمشفى ، ومن هو موظف ينظر إلى العاطل ، وهلم جرا

إن المسلم لا ينفك من نعمة ، ولا أنسى كلمة قالها أحد الأثرياء لما أصيب بمرض السرطان ، قال إنه مستعد أن يدفع ماله كله ويشفى من مرضه ، فيامن عافاك ربي في بدنك ، كم تملك من النعم التي لا تقدر بثمن .

عبد الله : مهما ابتليت بمصيبة في مالك ، أو بلاء في جسدك ، أو أحد أولادك ، فلا تنظر إلى هذا البلاء ، فيكبره الشيطان في عينك ، لينسيك أجر الصبر على المصيبة ، وليعمي عينك عن سائر النعم التي تتقلب فيها ، لما أصيب عروة بن الزبير في قدمه ، وقطعت ، قال اللهم لك الحمد، كان لي أطرافٌ أربعة فأخذتَ واحدًا، ولئن كنتَ أخذتَ فقد أبقيتَ، وإن كنتَ قد ابتليتَ فلطالما عافيتَ، فلك الحمد على ما أخذتَ وعلى ما عافيتَ، اللهم إني لم أمش بها إلى سوء قط.

 وكان قد صحب بعضَ بنيه، في سفره للشام ، ومنهم ابنه محمد الذي هو أحب أولاده إليه، فدخل دارَ الدواب فرفسته فرسٌ فمات، فجاء المعزون إليه، فقال: الحمد لله كانوا سبعةً فأخذتَ منهم واحدًا وأبقيتَ ستة، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت،

ولما دخلوا على رجل مشلول شللا رباعيا ، وهو يحمد الله على نعمه ، قالوا وأين نعم أنت فيها ، قال وهبني عقلا ، وغيري مجنون ، ولسانا أذكر الله به ، وغير أخرس .

هكذا عرفوا نعم الله ، فشكروا الله عليها وتنعموا بها واستخدموها في طاعة الله ، فلنكن هكذا ولا نكن مثل الإنسان الكنود ، الذي يعد المصائب وينسى النعم .

اللهم ما أنعمت علينا من نعمة أو على أحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ، أقول قولي ..................

                                     الخطبة الثانية

أما بعد فيا أيها الناس :

احذروا إلف النعم ، وتفكروا في نعم الله التي تتقلبون فيها ليلا ونهارا ، وجددوا لها شكرا ، فبالشكر تدوم النعم .

فمن المعلوم أن الله جل وعلا أسبغ علينا نعما كثيرة، ولم يزل يسبغ على عباده النعم الكثيرة، وهو المستحق لأن يشكر على جميع النعم. والشكر قيد النعم، إذا شكرت النعم اتسعت وبارك الله فيها وعظم الانتفاع بها، ومتى كفرت النعم زالت وربما نزلت العقوبات العاجلة قبل الآجلة.
فالنعم أنواع منوعة: نعمة الصحة في البدن والسمع والبصر والعقل وجميع الأعضاء، وأعظم من ذلك وأكبر: نعمة الهداية للدين والثبات عليها والعناية بها والتفقه فيها، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فأعظم النعم نعمة الدين، وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب حتى أبان لعباده دينه العظيم، ووضحه لهم، ثم وفقك أيها المسلم وهداك حتى كنت من أهله.
فهذه النعمة العظيمة التي يجب أن نشكر الله عليها غاية الشكر، وإنما يعرف قدرها وعظمتها من نظر في حال العالم، وما نزل بهم من أنواع الكفر والشرك والضلال، وما ظهر بين العالم من أنواع الفساد والانحراف، وإيثار العاجلة والزهد في الآجلة، وما انتشر أيضا من أضرار الشيوعية والعلمانية وأفكار الدعاة لهما، ومعلوم ما تشتمل عليه هذه الأفكار من الكفر بالله وبجميع الأديان والرسالات والكتب المنزلة من السماء. وهكذا ما ابتلي به الكثير من الناس من عبادة أصحاب القبور والأوثان والأصنام وصرف خالص حق الله إلى غيره.
وكذلك ما ابتلي به الكثير من البدع والخرافات وأنواع الضلال والمعاصي، وإنما تعرف النعم وعظم شأنها وما لأهلها من الخير عندما يعرف ضدها في هذه الشرور الكثيرة وما لأهلها من العواقب الوخيمة، فنعمة الإسلام عاقبتها الجنة والكرامة والوصول إلى دار النعيم بجوار الرب الكريم في دار لا يفنى نعيمها ولا يبلى شباب أهلها ولا تزول صحتهم ولا أمنهم، بل هم في صحة دائمة وأمن دائم وشباب لا يبلى وخير لا ينفد وجوار للرب الكريم كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ۝ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ۝ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ۝ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ۝ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ۝ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:51-57] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما أهل الكفر والضلال فمصيرهم إلى دار الهون... إلى عذاب شديد وإلى جحيم وزقوم، في دار دائمة لا ينتهي عذابها ولا يموت أهلها، كما قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36]. فمن فكر في هذا الأمر وعرف نعمة الله عليه فإن الواجب عليه أن يشكر هذه النعمة بالثبات عليها، وسؤال الله سبحانه أن يوفقه للاستمرار عليها حتى الموت، والحفاظ عليها بطاعة الله وترك معصيته، والتعوذ بالله من أسباب الضلال والفتن ومن أسباب زوال النعم.
وعليه أيضا شكر النعم الأخرى غير نعمة الإسلام مما يحصل للعبد من الصحة والعافية وغير ذلك من نعم الله عز وجل الكثيرة كالأمن في الوطن والأهل والمال. وقد يكون سوقها إليك أيها العبد من أسباب إسلامك وإيمانك بالله، وقد يكون ذلك ابتلاء وامتحانا مع كفرك وضلالك. قد تمتحن بوجودك في محل آمن وصحة وعافية ومال كثير، وأنت مع ذلك منحرف عن الله وعن طاعته فهذا يكون من الابتلاء والامتحان وإقامة الحجة عليك ليزيد في عذابك يوم القيامة إذا مت على هذه الحالة السيئة.
فالشكر حقيقته أن تقابل نعم الله بالإيمان به وبرسله، ومحبته عز وجل والاعتراف بإنعامه، وشكره على ذلك بالقول الصالح والثناء الحسن، والمحبة للمنعم وخوفه ورجائه والشوق إليه، والدعوة إلى سبيله والقيام بحقه. ومن الإيمان بالله ورسله الإيمان بأفضلهم وإمامهم نبينا محمد ﷺ والتمسك بشريعته

اللهم ارزقنا شكر نعمتك ، وقبولها والعمل بها في مرضاتك ...........

المشاهدات 6903 | التعليقات 0