خطبة : ( حمر النعم وكفر النعم )
عبدالله البصري
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، ممَّا جَاءَ في القُرآنِ الدَّعوَةُ إِلَيهِ وَالحَضُّ عَلَيهِ ، تَدَبُّرُ الإِنسَانِ فِيمَا حَولَهُ ممَّا أَبدَعَهُ خَالِقُهُ وَفَطَرَهُ مَولاهُ ، وَتَفَكُّرُهُ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَينَهُمَا ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَوَلم يَنظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيءٍ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " أَوَلم يَرَوا إِلى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا للهِ وَهُم دَاخِرُونَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " أَوَلم يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ كَانَتَا رَتقًا فَفَتَقنَاهُمَا وَجَعَلنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤمِنُونَ . وَجَعَلنَا في الأَرضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِم وَجَعَلنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُم يَهتَدُونَ . وَجَعَلنَا السَّمَاءَ سَقفًا مَحفُوظًا وَهُم عَن آيَاتِهَا مُعرِضُونَ . وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ في فَلَكٍ يَسبَحُونَ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " أَوَلم يَرَوا إِلى الأَرضِ كَم أَنبَتنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوجٍ كَرِيمٍ . إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكثَرُهُم مُؤمِنِينَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَوَلم يَرَوا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلى الأَرضِ الجُرُزِ فَنُخرِجُ بِهِ زَرعًا تَأكُلُ مِنهُ أَنعَامُهُم وَأَنفُسُهُم أَفَلا يُبصِرُونَ "
وَإِنَّ مِن أَخَصِّ مَا أُمِرَ الإِنسَانُ بِالتَّفَكُّرِ فِيهِ لِمُخَالَطَتِهِ إِيَّاهُ وَانتِفَاعِهِ بِهِ وَمِنهُ ، الأَنعَامَ الَّتي سَخَّرَهَا لَهُ المَولى ـ سُبحَانَهُ ـ وَذَلَّلَهَا وَمَلَّكَهُ إِيَّاهَا ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَوَلم يَرَوا أَنَّا خَلَقنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَت أَيدِينَا أَنعَامًا فَهُم لَهَا مَالِكُونَ . وَذَلَّلنَاهَا لَهُم فَمِنهَا رَكُوبُهُم وَمِنهَا يَأكُلُونَ . وَلَهُم فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشكُرُونَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " أَلم يَرَوا إِلى الطَّيرِ مُسَخَّرَاتٍ في جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ . وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِن بُيُوتِكُم سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِن جُلُودِ الأَنعَامِ بُيُوتًا تَستَخِفُّونَهَا يَومَ ظَعنِكُم وَيَومَ إِقَامَتِكُم وَمِن أَصوَافِهَا وَأَوبَارِهَا وَأَشعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلى حِينٍ . وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُم مِنَ الجِبَالِ أَكنَانًا وَجَعَلَ لَكُم سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأسَكُم كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعمَتَهُ عَلَيكُم لَعَلَّكُم تُسلِمُونَ . فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيكَ البَلاغُ المُبِينُ . يَعرِفُونَ نِعمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكثَرُهُمُ الكَافِرُونَ "
وَإِنَّ مِن أَحَبِّ الأَنعَامِ إِلى العَرَبِ وَأَغلاهَا عِندَهُم ثَمَنًا ، وَأَجَلِّهَا في نُفُوسِهِم مَكَانَةً وَأَرفَعِهَا قَدرًا ، مَخلُوقًا عَجِيبًا أَلِفُوهُ وَأَحَبُّوهُ ، وَاقتَنَوهُ وَأَكرَمُوهُ ، وَأَطعَمُوهُ وَسَقَوهُ وَحَمَوهُ ، بَل وَتَفَاخَرُوا بِهِ وَتَقَاتَلُوا لأَجلِهِ وَتَنَاهَبُوهُ ، إِنَّهَا الإِبِلُ ، تِلكُمُ المَخلُوقَاتُ العَجِيبَةُ الغَرِيبَةُ ، الَّتي حَضَّ الخَالِقُ ـ سُبحَانَهُ ـ عِبَادَهُ عَلَى التَّأَمُّلِ في خَلقِهَا ، حَيثُ قَالَ ـ تَعَالى ـ في آيَاتٍ كَثِيرًا مَا نَسمَعُهَا : " أَفَلا يَنظُرُونَ إِلى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَت . وَإِلى السَّمَاءِ كَيفَ رُفِعَت . وَإِلى الجِبَالِ كَيفَ نُصِبَت . وَإِلى الأَرضِ كَيفَ سُطِحَت "
لم تُخلَقِ الإِبِلُ قَبلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ كَمَا قَد يَدَّعِي بَعضُ مُحِبِّيهَا أَو يَظُنُّونَ ، وَلَكِنَّهَا كَانَت بهم أَلصَقَ وَإِلى نُفُوسِهِم أَقرَبَ ، وَأَعيُنُهُم إِلَيهَا في كُلِّ وَقتٍ تَنظُرُ وَتَتَأَمَّلُ ، وَهُم حَولَهَا وَمَعَهَا يَغدُونَ وَيَرُوحُونَ ، لا يَستَغنُونَ عَنهَا في صُبحٍ وَمَسَاءٍ ، وَمِن ثَمَّ فَقَد أُمِرُوا بِالتَّفَكُّرِ فِيهَا وَتَأَمُّلِ خَلقِهَا ؛ لِئَلاَّ تُنسِيَهُم كَثرَةُ تَعَامُلِهِم مَعَهَا مَا أَودَعَهُ اللهُ في خَلقِهَا مِن أَسرَارٍ وَآيَاتٍ ، أَو يَغفُلُوا عَن كَبِيرِ إِنعَامِهِ عَلَيهِم بِتَسخِيرِهَا . وَإِنَّمَا دَعَاهُم ـ سُبحَانَهُ ـ إِلى ذَلِكَ ؛ لِيَكُونَ نَظَرُهُم إِلَيهَا وَتَأَمُّلُهُم عَجِيبَ صُنعِهِ فِيهَا مَدخَلاً إِلى الإِيمَانِ الخَالِصِ بِعَظِيمِ قُدرَتِهِ ـ تَعَالى ـ وَبَدِيعِ صُنعِهِ ، وَأَنَّهُ رَبُّ العَالمِينَ المُستَحِقُّ لِلعِبَادَةِ ، جَزَاءَ مَا أَنعَمَ بِهِ عَلَيهِم مِن نِعَمٍ عَظِيمَةٍ ، وَمَا شَمِلَهُم بِهِ مِن آلاءٍ جَسِيمَةٍ ، مِن أَخَصِّهَا وَأَقرَبِهَا إِلَيهِم هَذِهِ الإِبِلُ ، ذَاتُ الخَلقِ العَجِيبِ وَالتَّركِيبِ الغَرِيب ، وَالبَالِغَةُ الغَايَةَ في القُوَّةِ وَالنِّهَايَةَ في الشِّدَّةِ ، وَمَعَ هَذَا سَخَّرَهَا القَادِرُ ـ سُبحَانَهُ ـ لهم وَمَلَّكَهُم قِيَادَهَا ، فَلَيَّنَهَا لِلحِملِ الثَّقِيلِ ، وَذَلَّلَهَا لِتَنقَادَ لِلقَائِدِ الضَّعِيفِ ، وَأَحَلَّ أَكلَ لَحمِهَا وَشُربَ لَبَنِهَا ، وَالانتِفَاعَ بِوَبَرِهَا وَجُلُودِهَا ، فَعَلَيهَا يَحمِلُونَ أَثقَالَهُم وَأَمتِعَتَهُم ، وَمِن لُحُومِهَا يَأكُلُونَ وَمِن أَلبَانِهَا يَشرَبُونَ ، وَمِن بَعرِهَا يُوقِدُونَ وَبِأَبوَالِهَا يَستَشفُونَ ، وَبِجُلُودِهَا وَوَبرِها يَستَمتِعُونَ وَيَستَتِرُونَ ، وَلَهُم فِيهَا عِزٌّ وَجَمَالٌ وَقُوَّةٌ وَغِنىً ، وَلَهُم فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَعَلَيهَا وَعَلَى الفُلكِ يُحمَلُونَ ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَالأَنعَامَ خَلَقَهَا لَكُم فِيهَا دِفءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنهَا تَأكُلُونَ . وَلَكُم فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسرَحُونَ . وَتَحمِلُ أَثقَالَكُم إِلى بَلَدٍ لم تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُم لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ . وَالخَيلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَركَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخلُقُ مَا لا تَعلَمُونَ . وَعَلَى اللهِ قَصدُ السَّبِيلِ وَمِنهَا جَائِرٌ وَلَو شَاءَ لَهَدَاكُم أَجمَعِينَ "
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ : " الإِبِلُ عِزٌّ لأَهلِهَا ، وَالغَنَمُ بَرَكَةٌ ، وَالخَيرُ مَعقُودٌ في نَوَاصِي الخَيلِ إِلى يَومِ القِيَامَةِ " أَخرَجَهُ ابنُ مَاجَه وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
عِبَادَ اللهِ ، يَكفِي الإِبِلَ فَضلاً وَشَرَفًا ، أَنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ جَعَلَهَا خَيرَ مَا يُهدَى إِلى بَيتِهِ الحَرَامِ وَجَعَلَهَا مِن شَعَائِرِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالبُدنَ جَعَلنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللهِ لَكُم فِيهَا خَيرٌ فَاذكُرُوا اسمَ اللهِ عَلَيهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَت جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنهَا وَأَطعِمُوا القَانِعَ وَالمُعتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ "
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَكُونُوا مِنَ النَّاظِرِينَ إِليهَا نَظرَ تَفَكُّرٍ وَاعتِبَارٍ ، وَلا تَكُونُوا مِنَ المُتَبَاهِينَ بها مِن أَهلِ الكِبرِ وَالفَخَارِ ، فَإِنَّ للهِ غَيرَهَا في الأَرضِ وَالسَّمَاوَاتِ آيَاتٍ بَاهِرَاتٍ ، ، لَكِنَّ أَهلَ العُقُولِ الرَّاجِحَةِ الزَّاكِيَةِ هُمُ المُتَدَبِّرُونَ المُنتَفِعُونَ " إِنَّ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلاَفِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ . الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدخِلِ النَّارَ فَقَد أَخزَيتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن أَنصَارٍ . رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعنَا مُنَادِيًا يُنَادِي للإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُم فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخزِنَا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخلِفُ المِيعَادَ "
وَأَمَّا المُسرِفُونَ فَإِنَّهُم لا يَهتَدُونَ " وَكَأَيِّن مِن آيَةٍ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ يَمُرُّونَ عَلَيهَا وَهُم عَنهَا مُعرِضُونَ "
وَتِلكَ نَتِيجَةُ الإِسرَافِ " إِنَّ اللهَ لا يَهدِي مَن هُوَ مُسرِفٌ كَذَّابٌ "
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَومِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيهِم وَآتَينَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصبَةِ أُولي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَومُهُ لا تَفرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ . وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا وَأَحسِنْ كَمَا أَحسَنَ اللهُ إِلَيكَ وَلا تَبغِ الفَسَادَ في الأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفسِدِينَ . قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلمٍ عِندِي أَوَلم يَعلَمْ أَنَّ اللهَ قَد أَهلَكَ مِن قَبلِهِ مِنَ القُرُونِ مَن هُوَ أَشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وَأَكثَرُ جَمعًا وَلا يُسأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المُجرِمُونَ . فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ في زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيتَ لَنَا مِثلَ مَا أُوتيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ وَيلَكُم ثَوَابُ اللهِ خَيرٌ لِمَن آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ . فَخَسَفنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ . وَأَصبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوا مَكَانَهُ بِالأَمسِ يَقُولُونَ وَيكَأَنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَيَقدِرُ لَولا أَن مَنَّ اللهُ عَلَينَا لَخَسَفَ بِنَا وَيكَأَنَّهُ لا يُفلِحُ الكَافِرُونَ . تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ فَاذكُروهُ وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَيسَ العَجَبُ مِن حُبِّ العَرَبِ لِلإِبِلِ ، فَهُوَ نِتَاجُ عِلاقَةٍ فِطرِيَّةٍ طَبِيعِيَّةٍ ، أَنبَتَتهَا الحَاجَاتُ وَدَعَت إِلَيهَا الضَّرُورَاتُ ، وَأَحكَمَتهَا الأَيَّامُ وَالسَّنَوَاتُ ، وَأَورَثَهَا الأَجدَادُ لِلآبَاءِ وَغُذِّيَ عَلَيهَا الأَحفَادُ وَالأَبنَاءُ ، حَتى جَعَلَ أَحَدُهُم يُطعِمُ ذَودَهُ كَمَا يَغذُو وَلَدَهُ ، بَل وَيُعطِي مِن وَقتِهِ لِرَعيِ نَعَمِهِ وَالاعتِنَاءِ بها مَا لا يُعطِيهِ أَهلَهُ وَمَن تَحتَ يَدِهِ ، لَكِنَّ هَذَا لَيسَ بِغَرِيبٍ وَلا مُستَنكَرًا ، وَلَكِنَّ المُستَنكَرَ حَقًّا أَن يَنسَاقَ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ اليَومَ وَرَاءَ مَا تُملِيهِ عَلَيهِم دَوَاعِي أَنفُسِهِم وَيَجرُوا خَلفَ نَزَوَاتِهَا ، وَيَستَسلِمُوا لِتَوهِيمَاتِ الشَّيَاطِينِ وَيَنقَادُوا لِنَزَغَاتِهَا ، وَتُؤُزَّهُمُ الجَاهِلِيَّاتُ أَزًّا فَتَطِيشَ أَحلامُهُم وَتَسفَهَ عُقُولُهُم ، وَتَعمَى بَصَائِرُهُم لِشَهوَةِ أَبصَارِهِم ، فَيَجعَلُوا مِن هَذَا المَخلُوقِ الَّذِي جَمَّلَهُ اللهُ وَأَمَرَهُم بِالنَّظَرِ إِلَيهِ لِلاعتِبَارِ ، مَجَالاً لِلتَّبَاهِي وَالافتِخَارِ ، وَيُغَالُوا في ثَمَنِهِ حَتى يُجَاوِزُوا بِهِ آلافَ الآلافِ ، ثم يُحِيطُوا كُلَّ ذَلِكَ بِاجتِمَاعَاتٍ وَاحتِفَالاتٍ ، وَيُقِيمُوا عَلَيهَا خِيَامًا وَسُرَادِقَاتٍ ، تَبرُزُ فِيهَا دَوَاعِي الكِبرِ وَالأَشَرِ ، وَيَظهَرُ فِيهَا التَّعَالي وَالبَطَرُ ، وَيَغِيبُ عَنهَا مُنَادِي التَّقوَى وَالإِيمَانِ وَدَاعِي شُكرِ الرَّحمَنِ ، فَتُذبَحُ المِئَاتُ مِنَ النَّعَمِ وَالغَنَمِ ، لِيُقَالَ فُلانٌ كَرِيمٌ أَو جَوَادٌ ، وَاللهُ يَعلَمُ أَنَّهُ قَد لا يَكُونُ عَرَفَ الكَرَمَ في حِيَاتِهِ وَلا مَشَى في الجُودِ يَومًا وَلا سَمَحَت بِهِ نَفسُهُ ، وَإِلاَّ لأَنفَقَ ممَّا رَزَقَهُ اللهُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرضَاهُ ، وَلَتَحَرَّى سُبُلَ الخَيرِ وَأَبوَابَ المَعرُوفِ ، وَلَبَحَثَ عَنِ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالمُحتَاجِينَ ، وَلَتَجَافى عَن إِخوَانِ الشَّيَاطِينِ مِنَ المُبَذِّرِينَ المُسرِفِينَ ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِن هَؤُلاءِ يَمُرُّونَ عَلَى مَشرُوعَاتِ الخَيرِ مُصبِحِينَ وَبِاللَّيلِ ، وَيَرَونَ حَولَهُم مَن يَتَقَلَّبُونَ في الفَقرِ وَالمَسكَنَةِ ، وَتُمَدُّ إِلَيهِم أَيدٍ تَستَجدِي وَتَستَعطِي ، فَلا يَهُونُ عَلَى أَحَدِهِم أَن يُنفِقَ قَلِيلاً لِوَجهِ اللهِ ، فَإِذَا مَا دَعَاهُ دَاعِي الهَوَى وَأَحَاطَ بِهِ المُفَاخِرُونَ ، عَمَدَ إِلى نِعَمِ اللهِ يُبَدِّدُهَا وَيَعِيثُ فِيهَا فَسَادًا " وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفسِدِينَ "
وَمِن ثَمَّ فَلا عَجَبَ أَلاَّ تَجنيَ الأُمَّةُ بِسَبَبِ هَذَا الطُّغيَانِ إِلاَّ غَلاءَ الأَسعَارِ وَقِلَّةَ الأَمطَارِ ، وَنَزعَ البَرَكَاتِ وَذَهَابَ الخَيرَاتِ ، فَنَسأَلُ اللهَ أَلاَّ يُؤَاخِذَنَا بما فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا .
فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَالزَمُوا الشُّكرَ فَإِنَّهُ قَيدُ النِّعَمِ ، وَجَانِبُوا الإِسرَافَ فَإِنَّهُ جَالِبٌ لِلنِّقَمِ ، وَاحذَرُوا الفَخرَ وَأَهلَهُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلبَغيِ وَالظُّلمِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّ اللهَ أَوحَى إِليَّ : أَن تَوَاضَعُوا حَتى لا يَفخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَإِذَا اقتَنَى النَّاسُ حُمْرَ النَّعَمِ وَتَبَاهَوا بها وَتَفَاخَرُوا ، فَاسمَعُوا إِلى شَيءٍ ممَّا هُوَ خَيرٌ مِن ذَلِكَ وَعُوا ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لأَن يَهدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا ، خَيرٌ لَكَ مِن أَن يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " أَيُّكُم يُحِبُّ أَن يَغدُوَ كُلَّ يَومٍ إِلى بُطحَانَ أَوِ إِلى العَقِيقِ فَيَأتيَ مِنهُ بِنَاقَتَينِ كَومَاوَينِ زَهرَاوَينِ في غَيرِ إِثمٍ وَ لا قَطعِ رَحِمٍ ؟ فَلأَن يَغدُوَ أَحَدُكُم إِلى المَسجِدِ فَيَتَعَلَّمَ أَو يَقرَأَ آيتَينِ مِن كِتَابِ اللهِ خَيرٌ لَهُ مِن نَاقَتَينِ ، وَثَلاثٌ خَيرٌ لَهُ مِن ثَلاثٍ ، وَأَربَعٌ خَيرٌ لَهُ مِن أَربَعٍ وَمِن أَعدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ زَادَكُم صَلاةً إِلى صَلاتِكُم هِيَ خَيرٌ لَكُم مِن حُمْرِ النَّعَمِ أَلا وَهِيَ الرَّكعَتَانِ قَبلَ الفَجرِ " رَوَاهُ البَيهَقِيُّ وَغَيرُهُ وَقَالَ الأَلبَانيُ : إِسنَادُهُ جَيِّدٌ .
المرفقات
حمر النعم كفر النعم.doc
حمر النعم كفر النعم.doc
المشاهدات 6815 | التعليقات 9
وضعت يدك على الجرح، فما يشاهد ويسمع ممن حضر هذه الاجتماعات، أمر يندى له الجبين وتتقطع عليه القلوب حسرات، فالفخر والمباهاة، واثارت العصبيات، والاسراف والتبذير، سمة ظاهرة، وعلة واضحة، وأسوء من ذلك استغلال هذه الاجتماعات، والمزايدة في أسعار الابل، لغرض فساد، وهو غسيل الأموال!!!؟؟؟
وسلم الله يديك الكريمتين ، وحفظ لك نفسك الزكية ، ونفع بك وسددك .
وقد انتشرت عن هذا الاحتفال المنكر صور يندى لرؤيتها الجبين ، وخاصة فيما يتعلق بذبح الأنعام وتبديد النعم ، وقد ظهر في بعض الصور أكوام الرز واللحوم التي لم تُطعم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وهؤلاء حقيقون بالأخذ على أيديهم ومنعهم مما ضرره متعدٍ على الأمة كلها ، كيف إذا ما أضيف ما ذكرته أخي أبو عمر من كون هذا الاحتفال مجالاً لما يسمى بغسيل الأموال واستغلال هذه المخلوقات البريئة وجعلها طريقًا لتمرير سلع تفسد المجتمع ، فإن هذا مما يزيدنا بغضًا لهذا المزاين ، وحرصًا على التحذير منه وبيان حقيقته للمنخدعين ، ونسأل الله أن يهدي أمتنا سواء السبيل وأن يجنبنا جميعًا سبل المفسدين في الأرض .
وعلى حد علمي ان الموضوع جديد لم يتطرق اليه احد من قبل
الا ما كان من باب الاسراف و التبذير
لكن السؤال شيخنا متى موعد مسابقتهم ؟
مزاين الأبل أحيت العصبية القبلية
بارك الله فيك شيخنا على هذه الخطبة الرائعة
وكم يعجبني فيك إختيار المواضيع التى يحتاجها المجتمع بحق أنت رجل مبارك
ولا شك أن للقنوات دورًا في نشر صور من هذا المهرجان ، والناس تراه في المدن والقرى وتتابعه في كل مكان ، فكان لا بد من كلمة تبين شيئًا عما ينبغي وما لا ينبغي ، فكانت هذه الخطبة المتواضعة ، التي كتبت على عجل وعدم تركيز ، والبركة في خطبائنا ، فليكملوا النقص وليسدوا الخلل ، أسأل الله لي ولهم التوفيق والسداد .
وعلى حد علمي ان الموضوع جديد لم يتطرق اليه احد من قبل
الا ما كان من باب الاسراف و التبذير
لكن السؤال شيخنا متى موعد مسابقتهم ؟
وفيك بارك الله ـ أخي الشيخ سعيد ـ وموعد المسابقة فيما يبدو أنه منذ أسابيع وهو العرض وأعمال لجان التحكيم ، ولكن الحفل النهائي الذي أعلنت فيه أسماء الفائزين ووزعت الجوائز كان هذا اليوم ، ونسأل الله أن يكفينا شر الطغيان وكفران النعم .
بارك الله فيك شيخنا على هذه الخطبة الرائعة
وكم يعجبني فيك إختيار المواضيع التى يحتاجها المجتمع بحق أنت رجل مبارك
وفيك بارك الله ـ أخي الشيخ منصور ـ ونفع بك .
قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ " الفخر والخيلاء في أهل الإبل ... " صححه الألباني .
ولا شك أن هذه المهرجانات أحيت العصبيات وبعثت الجاهليات ، وشغلت الناس فيما لا ينفعهم عند مولاهم .
وأما كلام الخطيب في الموضوعات التي تمس واقع الناس ويحتاجها المجتمع فهو من أول ما يجب عليه الاعتناء به ، إذ هو كالطبيب لا بد أن يهتم بعلاج المرض الذي بين يديه ، ولا يمنع أن يكون له علاج وقائي لأمراض متوقعة ، أو بعيدة عنه ، ولكن أهم ما يجب عليه أن يعالج المرض الحاضر ويستأصل الداء المنتشر .
ومع علمي أن مثل هذه الخطبة كنقطة في بحر ، لكننا نبذل النصح ونبين ما نراه الحق ، والله هو الهادي والموفق لمن يشاء إلى صراطه المستقيم ، فنسأله أن يهدي ولاتنا وإخواننا لما فيه نجاتهم وحفظ إيمانهم وأمنهم ، وأن يجعلنا وإياهم مباركين أينما كنا .
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله خيرا
موضوع مهم جدير بالطرح وتذكير الناس بخطره
سلمت أناملك، ونفعنا الله بعلمك
وضعت يدك على الجرح، فما يشاهد ويسمع ممن حضر هذه الاجتماعات، أمر يندى له الجبين وتتقطع عليه القلوب حسرات، فالفخر والمباهاة، واثارت العصبيات، والاسراف والتبذير، سمة ظاهرة، وعلة واضحة، وأسوء من ذلك استغلال هذه الاجتماعات، والمزايدة في أسعار الابل، لغرض فساد، وهو غسيل الأموال!!!؟؟؟
عبدالله البصري
موضوع مهم جدير بالطرح وتذكير الناس بخطره
وإياك جزى الله خيرًا وأثابك على المرور والدعاء والتشجيع لإخوانك الخطباء ، وكفانا الله شر كل ذي شر من أهل الطغيان والمسرفين .
تعديل التعليق