خطبة : ( حب المال بين إشباع الحاجة وحفظ الهوية )

عبدالله البصري
1437/07/21 - 2016/04/28 21:50PM
حب المال بين إشباع الحاجة وحفظ الهوية 22 / 7 / 1437
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم - أَيُّهَا النَّاسُ – وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ " فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولي الأَلبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَد أَنزَلَ اللهُ إِلَيكُم ذِكرًا . رَسُولاً يَتلُو عَلَيكُم آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ وَمَن يُؤمِن بِاللهِ وَيَعمَل صَالِحًا يُدخِلهُ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَد أَحسَنَ اللهُ لَهُ رِزقًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن قُوَّةِ الأُمَمِ قُوَّةُ اقتِصَادِهَا ، وَبِقُوَّةِ الأُمَّةِ مَالِيًّا وَضَبطِهَا لأُسُسِ التَّحصِيلِ وَالإِنفَاقِ ، تَقوَى مِن دَاخِلِهَا وَتُعلِي ذَاتَهَا ، وَتَستَغنِي بِنَفسِهَا عَمَّن سِوَاهَا ، وَيَعظُمُ لَدَى الآخَرِينَ أَمرُهَا وَيَرتَفِعُ شَأنُهَا ، وَيَكُونُ لَهَا حُضُورٌ وَرَأَيٌ وَكَلِمَةٌ ، لَكِنَّ الشَّرعَ المُطَهَّرَ – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ - لم يَجعَلِ المَالَ هُوَ المَقصِدَ الأَسمَى وَلا الغَايَةَ العُظمَى ، بَل جَعَلَهُ وَسِيلَةً لِلتَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللهِ ، وَأَدَاةً يَتَوَصَّلُ بها العَبدُ إِلى مَا عِندَ مَولاهُ ، وَمِن ثَمَّ فَلَم يَجعَلِ الإِسلامُ كَسَبَ المَالِ وَتَقوِيَةَ الاقتِصَادِ مَدعَاةً لِتَكسِيرِ الحَوَاجِزِ وَتَجَاوُزِ الحُدُودِ ، أَو سَبَبًا لِلجَشَعِ وَالطَّمَعِ ، أَو مُسَوِّغًا لِهَضمِ الآخَرِينَ حُقُوقَهُم أَو ظُلمِهِم ، بَل لَقَد نَظَّمَ شُؤُونَ المَالِ أَخذًا وَعَطَاءً ، وَرَتَّبَهَا كَسبًا وَإِنفَاقًا ، وَوَسَّعَ فِيهَا حَتَّى لا تُخَالِفَ فِطرَةَ الإِنسَانِ في حُبِّ التَّمَلُّكِ ، وَحَدَّدَهَا بما لا يَجعَلُ مِنهُ سَبُعًا ضَارِيًا هَمُّهُ التَّغَلُّبُ ، إِذِ المَالُ أَوَّلاً وَآخِرًا مَالُ اللهِ ، وَهُوَ الَّذِي آتَاهُ وَأَعطَاهُ ، وَهُوَ الَّذِي سَيَسأَلُ صَاحِبَهُ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ ؟ وَأَمَّا البَشرُ فَهُم مُستَخلَفُونَ فِيهِ ، وَمُلكُهُم لَهُ مُلكٌ مَحدُودٌ ، وَمِن ثَمَّ فَهُم مُلزَمُونَ أَن يَسِيرُوا فِيهِ عَلَى وِفقِ مُرَادِ اللهِ ، قَالَ - جَلَّ وَعَلا - : " وَآتُوهُم مِن مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُم "
وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُستَخلَفِينَ فِيهِ "
وَقَالَ – تَعَالى - : " وَلا تَجعَلْ يَدَكَ مَغلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبسُطْهَا كُلَّ البَسطِ فَتَقعُدَ مَلُومًا مَحسُورًا . إِنَّ رَبَّكَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا "
وَقَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " لا تَزُولُ قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسأَلَ عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفنَاهُ ؟ وَعَن عِلمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ ؟ وَعَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ ؟ وَعَن جِسمِهِ فِيمَ أَبلاهُ ؟ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ بِغَيرِ حَقٍّ ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَلأَنَّ الإِسلامَ يُرِيدُ أَن يَكُونَ المُسلِمُونَ أَقوِيَاءَ في كُلِّ شَأنٍ ، أَعِزَّاءَ في كُلِّ مَيدَانٍ ، فَقَد جَعَلَ الأَصلَ في المُعَامَلاتِ الحِلَّ وَالإِبَاحَةَ ، وَأَجَازَ لَهُم مِنَ التَّنظِيمَاتِ المَالِيَّةِ مَا بِهِ تَتَحَسَّنُ الأَوضَاعُ وَيَقوَى الاقتِصَادُ ، وَلم يُحَرِّمْ عَلَيهِم إِلاَّ مَا اشتَمَلَ عَلَى أَكلٍ لِلأَموَالِ بِالبَاطِلِ أَو ظُلمٍ لِلآخَرِينَ ، كَالرِّبَا وَالمَيسِرِ وَالقِمَارِ ، أَو مَا انطَوَى عَلَى غَرَرٍ أَو جَهَالَةٍ أَو غِشٍّ أَو خِدَاعٍ ، فَآلَ إِلى وُقُوعِ الخُصُومَاتِ وَالنِّزَاعَاتِ .
وَمِن أَجلِ ذَلِكُمُ الهَدَفِ النَّبِيلِ أَيضًا احتَرَمَ الإِسلامُ المِلكِيَّةَ الخَاصَّةَ ، وَأَتَاحَ جُزءًا مِنَ الحُرِّيَّةِ الاقتِصَادِيَّةِ وَجَعَلَ لَهَا مِسَاحَةً مُنَاسِبَةً ، بَعِيدًا عَن فَردِيَّةِ النِّظَامِ الرَّأسمَاليِّ ، الَّذِي جَعَلَ الهَيمَنَةَ لِلأَغنِيَاءِ عَلَى وَحَرَمَ الفُقَرَاءَ ، وَفي مَنأًى عنِ اشتِرَاكِيَّةِ النِّظَامِ الشُّيُوعِيِّ ، الَّذِي حَرَمَ الأَغنِيَاءَ التَّمَتُّعَ بما أَعطَاهُمُ اللهُ مِن أَجلِ الفُقَرَاءِ ، وَمِن ثَمَّ فَقَد أَمَرَتِ الشَّرِيعَةُ الغَرَّاءُ بِالسَّعيِ وَالعَمَلِ ، وَحَثَّت عَلَى الإِنتَاجِ والتَّحصِيلِ ، مُرَاعِيَةً مَا يُحَقِّقُ التَّوَازُنَ في المَصَالِحِ ، فَلا تَطغَى مَصلَحَةُ فَردٍ عَلَى مُجتَمَعٍ ، وَلا مَصلَحَةُ مُجتَمَعٍ عَلَى فَردٍ ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُم الأَرضَ ذَلُولاً فَامشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ "
وَقَالَ - تَعَالى - : " فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا في الأَرضِ وَابتَغُوا مِن فَضلِ اللهِ "
وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا - : " مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِن أَهلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابنِ السَّبِيلِ كَي لا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأَغنِيَاءِ مِنكُم "
وَقَالَ – تَعَالى - : " وَلا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلى الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقًا مِن أَموَالِ النَّاسِ بِالإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ " وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " لا يَحِلُّ مَالُ امرِئٍ مُسلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفسٍ مِنهُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " المُسلِمُونَ شُرَكَاءُ في ثَلاثٍ : في الكَلأِ وَالمَاءِ وَالنَّارِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَمَن تَأَمَّلَ قَولَهُ – تَعَالى - : " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاركَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ " وَقَولَهُ - تَعَالى - : " وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " وَقَولَهُ – جَلَّ وَعَلا - : " وَفي أَموَالِهِم حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ " وَغَيرَهَا مِمَّا جَاءَ في الإِنفَاقِ وَاجِبًا وَمُستَحَبًّا ، عَلِمَ مَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَةُ مِن مَبدَأِ الكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ ، وَأَنَّ المَالَ يَجِبُ أَن يَكُونَ وَسِيلَةً لِلتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاوُنِ وَقَضَاءِ الحَاجَاتِ وَتَفرِيجِ الكُرُبَاتِ ، لا أَدَاةً لِتَمزِيقِ الرَّوَابِطِ وَإِذهَابِ المُوَدَّةِ ، وَالانتِهَاءِ بِالأُمَمِ وَالأَفرَادِ إِلى حَيَاةِ الحِرمَانِ وَالشَّقَاءِ .
نَعَم – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – لَقَد حَدَّدَتِ الشَّرِيعَةُ أُسَسًا لِلاقتِصَادِ وَمَبَادِئَ لِلتَّعَامُلِ مَعَ المَالِ ، وَثَبَّتَت مَعَالِمَ ذَلِكَ وَنَظَّمَت شُؤُونَهُ وَرَسَّخَت أَخلاقِيَّاتِهِ ، ثم جَاءَ فُقَهَاءُ الإِسلامِ فَاستَنبَطُوا الأَحكَامَ وَسَنُّوا القَوَانِينَ ، وَاعتُمِدَتِ النَّظَرِيَّةُ الاقتِصَادِيَّةُ الإِسلامِيَّةُ وَحُدِّدَتِ الهُوِيَّةُ المَالِيَّةُ الشَّرعِيَّةُ ، فَكَانَ المُسلِمُونَ وَمَا زَالُوا مُتَمَسِّكِينَ بِنِظَامِهِمُ الَّذِي أَنزَلَهُ رَبُّهُم وَجَاءَ بِهِ نَبِيُّهُم ، آمِنِينَ مُطَمَئِنِّينَ ، قَد ضَمِنَ أَغنِيَاؤُهُم حِمَايَةَ مُلكِيَّاتِهِم ، وَالتَّصَرُّفَ في أَموَالِهِم وِفقَ قِيَمٍ مُحَدَّدَةٍ ، وَاطمَأَنَّ فُقَرَاؤُهُم إِلى أَنَّ الأَغنِيَاءَ لَن يَترُكُوهُم بِلا عَطَاءٍ مِن مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاهُم ، وَبَقِيَتِ المَرَافِقُ العَامَّةُ وَالأَموَالُ الشَّائِعَةُ وَالمَوَارِدُ المُشتَرَكَةُ في مَنأًى عَن أَن يَمتَلِكَهَا أَحَدٌ بِعَينِهِ أَو يَستَأثِرَ بها قَوِيٌّ دُونَ ضَعِيفٍ ؛ لأَنَّ مُلكِيَّتَهَا عَائِدَةٌ لِلحَاكِمِ ، الَّذِي هُوَ المَسؤُولُ وَمَن تَحتَ يَدِهِ عَن تَحقِيقِ التَّوَازُنِ الاقتِصَادِيِّ في المُجتَمَعِ ، وَالحَيلُولَةِ دُونَ ظُلمٍ أَوِ احتِكَارٍ أَو تَلاعُبٍ بِأَسعَارٍ . وَإِنَّ المُجتَمَعَاتِ الإِسلامِيَّةَ متى مَا التَزَمَت بما جَاءَ بِهِ الشَّرعُ الحَنِيفُ مِن أُسُسِ التَّعَامُلِ مَعَ المَالِ وَمَبَادِئِ بِنَاءِ الاقتِصَادِ ، فَحَرِصَت عَلَى أَكلِ الطَّيِّبَاتِ وَاكتِسَابِ الحَلالِ ، وَتَرَبَّت عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ وَخَشيِتَهِ فِيمَا تَحتَ أَيدِيهَا ، وَعَلِمَ كُلُّ فَردٍ أَنَّهُ مَسؤُولٌ عَمَّا اكتَسَبَ وَمَا أَنفَقَ ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّ المَالَ مَالُ اللهِ ، وَأَنَّ فِيهِ حُقُوقًا يَجِبُ أَن تُؤَدَّى ، وَأُخرَى يَحسُنُ أَن تُعطَى ، وَابتَعَدُوا عَن كُلِّ مُعَامَلَةٍ فِيهَا غَرَرٌ أَو جَهَالَةٌ ، أَو تَدلِيسٌ أَو مُقَامَرَةٌ ، وَحَذِرُوا الجَشَعَ وَالطَّمَعَ وَالشُّحَّ وَالبُخلَ ، وَسَلِمُوا مِنَ الاحتِكَارِ وَالاستِغلالِ وَأَكلِ أَموَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ، فَسَيَجنُونَ مِن وَرَاءِ ذَلِكَ ازدِهَارًا في الاقتِصَادِ ، وَشُعُورًا بِالبَرَكَةِ في الأَموَالِ ، وَسَلامَةً مِنَ الكَرَاهِيَةِ وَالحِقدِ وَالحَسَدِ وَمَا يَتبَعُهَا مِن جَرَائِمَ بِسَبَبِ التَّظَالُمِ ، وَسَيَتَوَفَّرُ لِلجَمِيعِ حِينَئِذٍ مَا تَصبُو إِلَيهِ النُّفُوسُ مِن غِذَاءٍ وَمَسكَنٍ وَكِسَاءٍ ، وَمَا تَحتَاجُ إِلَيهِ مِن ضَرُورَاتِ العَيشِ وَالبَقَاءِ ؛ ذَلِكُم أَنَّ مَقصِدَ النِّظَامِ الاقتِصَادِيِّ الإِسلامِيِّ هُوَ حِفظُ الضَّرُورَاتِ وَإِشبَاعُ الحَاجَاتِ ، وَتَوفِيرُ الكِفَايَةِ وَالكَفَافِ ، وَتَحقِيقُ التَّعَاوُنِ وَالتَّكَافُلِ ، لِيَحيَا النَّاسُ حَيَاةً طَيِّبَةً ، تُعِينُهُم عَلَى مَا خُلِقُوا لَهُ مِن عِبَادَةِ رَبِّهِم ، بَعِيدًا عَمَّا تَرمِي إِلَيهِ النُّظُمُ الاقتِصَادِيَّةُ الوَضعِيَّةُ ، مِن مُجَرَّدِ تَحقِيقِ أَقصَى إِشبَاعٍ مَادِيٍّ مُمكِنٍ ، وَالوُصُولِ إِلى أَعلَى تَكوِينٍ لِلثَّرَوَاتِ ، في رَفَاهِيَةٍ وَتَرَفٍ ، تَغُوصُ فِيهَا الأَجسَادُ في الشَّهَوَاتِ وَالمَلَذَّاتِ ، وَتُهمَلُ الرُّوحُ وَلا تُشبَعُ لها حَاجَةٌ وَلا تَشعُرُ بِاستِقرَارٍ ، لأَنَّهَا جَعَلَت غَايَتَهَا التَّحَكُّمَ في المَوَارِدِ وَالمَصَادِرِ ، وَسَمَحَت لِنَزَوَاتِهَا بِاستِغلالِ ضَعفِ الآخَرِينَ وَانتِهَازِ غَفلَتِهِم وَالتَّسَلُّقِ عَلَى أَكتَافِهِم بِلا اعتِبَارٍ لِحَاجَاتِهِم ..
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَلْنَحمَدْهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَينَا مِن نِظَامِ اقتِصَادٍ ثَابِتِ الأَصلِ مُمتَدِّ الفُرُوعِ ، يَحكُمُهُ النَّصُّ المُحكَمُ الأَصِيلُ ، وَلا تَحكُمُهُ العُقُولُ الضَّعِيفَةُ وَلا الأَفهَامُ القَاصِرَةُ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَاضرِبْ لَهُم مَثَلاً رَجُلَينِ جَعَلنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَينِ مِن أَعنَابٍ وَحَفَفنَاهُمَا بِنَخلٍ وَجَعَلنَا بَينَهُمَا زَرعًا . كِلتَا الجَنَّتَينِ آتَت أُكُلَهَا وَلم تَظلِمْ مِنهُ شَيئًا وَفَجَّرنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا . وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا . وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا . وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُدِدتُ إِلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيرًا مِنهَا مُنقَلَبًا . قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً . لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا . وَلَولا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا . فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤتِيَنِ خَيرًا مِن جَنَّتِكَ وَيُرسِلَ عَلَيهَا حُسبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا . أَو يُصبِحَ مَاؤُهَا غَورًا فَلَن تَستَطِيعَ لَهُ طَلَبًا . وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيتَني لم أُشرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا . وَلم تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا . هُنَالِكَ الوَلايَةُ للهِ الحَقِّ هُوَ خَيرٌ ثَوَابًا وَخَيرٌ عُقبًا "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدرًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَسمَعُ النَّاسُ بِخِطَّةٍ اقتِصَادِيَّةٍ لِتَنمِيَةِ مَوَارِدِ البَلَدِ أَو زِيَادَةِ أُصُولِ استِثمَارَاتِهِ ، فَتَشرَئِبُّ الأَعنَاقُ وَتَمتَدُّ الآمَالُ ، مُنتَظِرَةً زِيَادَةً في الرَّوَاتِبِ أَو مُضَاعَفَةً لِلدُّخُولِ ، حَالِمَةً بِرَفَاهِيَةٍ وَرَغَدٍ مِنَ العَيشِ ، حتى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ لِبَعضِ النَّاسِ أَنَّهُ بَاتَ ضَرَورِيًّا أَن تَبذُلَ الحُكُومَاتُ مَا يُمكِنُهَا لِتَحصِيلِ المَالِ وَرَفعِ الاقتِصَادِ دُونَ تَقَيُّدٍ بِحُدُودٍ شَرعِيَّةٍ أَو أَحكَامٍ مَرعِيَّةٍ ، وَقَد يَظُنُّ آخَرُونَ أَنَّ مُنتَهَى السَّعَادَةِ هُوَ الوُصُولُ لِدَرَجَاتٍ مِنَ الرَّفَاهِيَةِ وَالرَّخَاءِ تُشبِهُ مَا عَلَيهِ مُجتَمَعَاتٌ أُخرَى بِعَينِهَا ، غَافِلِينَ عَن أَنَّ المُسلِمَ يَجِبُ أَن يَعِيشَ مُطمَئِنَّ القَلبِ بِإِسلامِهِ مُرتَاحَ البَالِ بِإِيمَانِهِ ، هَادِئَ النَّفسِ وَاثِقًا بِرَبِّهِ ، مُوقِنًا أَنَّ قَضِيَّةَ الرِّزقِ مَحسُومَةٌ مَحتُومَةٌ ، وَأَنَّ كُلَّ عَبدٍ قَد قُدِّرَ لَهُ عَطَاؤُهُ وَهُوَ في بَطنِ أُمِّهِ ، وَلَن يَمُوتَ حَتَّى يَستَكمِلَ أَجلَهُ وَرِزقَهُ ، وَمِن ثَمَّ كَانَ عَلَيهِ أَلاَّ يَأسَى كَثِيرًا عَلَى مَفقُودٍ ، وَلا يَفرَحَ طَوِيلاً بِمَوجُودٍ ، وَأَلاَّ يَقعُدَ بِهِ عَن طَلَبِ مَا قُدِّرَ لَهُ كَسَلٌ ، وَلا يُغفِلَ قَلبَهُ عَمَّا هُوَ قَادِمٌ عَلَيهِ طُولُ أَمَلٍ ، أَجَل – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِنَّ الرِّزقَ مَضمُونٌ ، وَاللهُ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ ، وَلَيسَ الخَوفُ عَلَى النَّاسِ مِنَ الفَقرِ وَقِلَّةِ ذَاتِ اليَدِ ، فَقَد نَالَت مُجتَمَعَاتٌ كَافِرَةٌ غَايَةَ الغِنى وَالرَّفَاهِيَةِ ، وَعَبَّ أَفرَادُهَا مِنَ الشَّهَوَاتِ حَتى ثَمِلُوا ، وَلَكِنَّهُم لم يُدرِكُوا سَعَادَةً وَلا عَاشُوا في هَنَاءَةٍ ، بَل عَصَفَت بِهِمُ الجَرَائِمُ وَكَثُرَ فِيهِمُ الانتِحَارُ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ الخَوفَ كُلَّ الخَوفِ إِنَّمَا هُوَ مِنِ انفِتَاحِ الدُّنيَا عَلَى النَّاسِ ، وَانصِرَافِ الأَعيُنِ وَالقُلُوبِ إِلى زَخَارِفِهَا وَاستِدَامَةِ النَّظرِ إِلَيهَا ، فَبِذَلِكَ يَخسُرُونَ مِنَ الآخِرَةِ بِقَدرِ مَا رَبِحُوا مِنَ الدُّنيَا ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " مَن أَحَبَّ دُنيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ ، وَمَن أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنيَاهُ ، فَآثِرُوا مَا يَبقَى عَلَى مَا يَفنى " رَوَاهُ أَحمَدُ وَقَالَ الأَلبَانيُّ صَحِيحٌ لِغَيرِهِ ، وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " أَبشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُم ، فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم ، وَلَكِنْ أَخشَى أَن تُبسَطَ الدُّنيَا عَلَيكُم كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُم " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَلْنَحرِصْ عَلَى مَا يَنفَعُنَا في أُخرَانا ، وَلْنَقنَعْ مِن دُنيَانَا بِمَا يُبَلِّغُنا ، فَـ" لَيسَ الغِنى عَن كَثَرَةِ العَرَضِ ، وَلَكِنْ الغِنى غِنى النَّفسِ " قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّ نَفسًا لَن تَمُوتَ حَتَّى تَستَكمِلَ أَجَلَهَا وَتَستَوعِبَ رِزقَهَا ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا في الطَّلَبِ ، وَلا يَحمِلَنَّ أَحَدَكُمُ استِبطَاءُ الرِّزقِ أَن يَطلُبَهُ بِمَعصِيَةِ اللهِ ؛ فَإِنَّ اللهَ – تَعَالى - لا يُنَالُ مِا عِندَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ " رَوَاهُ أَبُو نُعَيمٍ في الحِليَةِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
المرفقات

حب المال بين إشباع الحاجة وحفظ الهوية.doc

حب المال بين إشباع الحاجة وحفظ الهوية.doc

حب المال بين إشباع الحاجة وحفظ الهوية.pdf

حب المال بين إشباع الحاجة وحفظ الهوية.pdf

المشاهدات 1621 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا