خطبة: حال السلف في الحر قصص وعبر
وليد بن محمد العباد
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم
خطبة: حال السلف في الحر قصص وعبر
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ الذي خلقَ فسوّى وقدّرَ فهَدى وأصلي وأسلمُ على نبيِّه المصطفى وعلى آلِه وصحبِه ومن اقتدى أمّا بعدُ عبادَ الله
بينَ حالِنا وحالِ السّلفِ في موجةِ الحرِّ بَوْنٌ كبير، لا تَعرضنَّ لذكرِنا في ذكرِهم * ليس الصّحيحُ إذا مشى كالمقعدِ، وسوف نُبحرُ في جولةٍ إيمانيّةٍ في عصرِ سلفِنا الصّالح، وهم يَمرّونَ في مثلِ هذا الحرِّ الشديد، لنتعرفَ على بعضِ قَصصِهم، لعلّها تُحرّكُ القلوبَ وتَشحذُ الهِممَ وتَزيدُ الإيمانَ، فقد كانوا يَتفكّرونَ بما فيه من آيات، ويَتسابقونَ إلى النّوافلِ فضلًا عن الواجباتِ، ويَستلذّونَ بما يَلقوْنَه من الصّعابِ، ويَتطلّعونَ لمضاعفةِ الأجرِ والثّواب. فلم يكنْ هذا الحرُّ عائقًا لهم عن العبادة، بل دافعًا للمجاهدةِ والزّيادة، لمَا يَجدونَ في ذلك من اللّذةِ والسّعادة، يقولُ أنسٌ رضيَ اللهُ عنه: كنّا نصلي مع رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ في شدّةِ الحرّ، فإذا لم يستطعْ أحدُنا أنْ يمكِّنَ جبهتَه من الأرضِ بسطَ ثوبَه فسجدَ عليه. وعن أبي الدّرداءِ رضيَ اللهُ عنه قال: لقد رأيتُنا معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بعضِ أسفارِه في يومٍ شديدِ الحرِّ. حتى إنَّ الرجلَ لَيضعُ يدَه على رأسِه من شِدَّةِ الحَرِّ، وما منّا أحدٌ صائمٌ، إلا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ. وكانت بعضُ الصّالحاتِ تتوخَّى أشدَّ الأيّامِ حرًّا فتصومُه فيقالُ لها في ذلك فتقول: إنّ السّعرَ إذا رَخُصَ اشتراه كلُّ أحد. وتَأسّفَ معاذُ بنُ جبلٍ رضيَ اللهُ عنه عندَ موتِه على فواتِ ظمأِ الهواجر، وهو الصّيامُ في الحرّ، خرجَ ابنُ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما في سفرٍ ومعه أصحابُه فوضعوا سُفرةً لهم فمرّ بهم راعٍ فدعَوْه ليأكلَ معهم، فقالَ إنّي صائم، فقالَ ابنُ عمرَ في هذا اليومِ الشّديدِ حرُّه وأنتَ في هذه الشِّعابِ في آثارِ هذه الغنمِ وأنتَ صائم؟ فقالَ أبادرُ أيّاميَ الخالية. فعجِبَ منه ابنُ عمرَ فقالَ له: هل لك أنْ تبيعنا شاةً من غنمِك، ونطعمُك من لحمِها ما تُفطرُ عليه ونُعطيك ثمنَها؟ قالَ إنّها ليست لي إنّها لمولاي، قالَ له ابنُ عمرَ مُختبرًا له: فما عَسيتَ أنْ يقولَ لك مولاك إنْ قلتَ أكلَها الذئب؟ فمضى الرّاعي وهو رافعٌ أصبُعَه إلى السّماءِ وهو يقول: فأينَ الله؟ فلم يَزلِ ابنُ عمرَ يُردّدُ كلمتَه هذه: فأينَ اللهُ، فأينَ الله؟ فلمّا قَدِمَ ابنُ عمرَ المدينةَ بعثَ إلى سيّدِ الرّاعي فاشترى منه الرّاعيَ والغنمَ، فأعتقَ الرّاعيَ ووهبَ له الغنم. وخرجَ الحَجّاجُ في يومٍ شديدِ الحرِّ، فلمّا وضعوا له الغداءَ رأى أعرابيًّا، فدعاه إلى الغداءِ فقالَ الأعرابيُّ: دعاني مَنْ هو أكرمُ منك فأجبتُه، فقالَ: مَن هو؟ قالَ: اللهُ تبارك وتعالى، دعاني إلى الصّيامِ فصمتُ، فقالَ له تَصومُ في هذا الحرِّ الشّديد؟! فقالَ نعم، صمتُه ليومٍ أشدَّ منه حرًّا. قالَ: فأفطرْ وصُمْ غدًا، قالَ: إنْ ضمنتَ ليَ البقاءَ إلى غدٍ، قالَ: ليسَ ذلك إليَّ، قالَ: فكيفَ تسألُني عاجلًا بآجلٍ لا تَقْدِرُ عليه؟ وصَبَّ بعضُ الصّالحينَ على رأسِه ماءً فوجدَه شديدَ الحرارةِ فبكى وقالَ ذكرتُ قولَه تعالى: (يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) ولمّا أرادَ بعضُهم أنْ يشربَ الماءَ الباردَ بكى وقالَ تَذكّرتُ أُمنيةَ أهلِ النّار، وأنّهم يَشتهونَ الماءَ الباردَ، وقد حِيلَ بينهم وبينَ ما يشتهون، فإذا عَطِشَ أهلُ النّارِ استغاثوا ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ فإذا قَرّبُوا الماءَ منهم شَوَى وَجوهَهُم وَسقطتْ فَرْوَةُ رؤوسِهِم، فَإِذَا شَرِبوه قَطَّعَ أَمْعَاءَهُم، ومِن شدّةِ عطشِهم (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) قالَ قتادةُ رحمه الله: هل لكم بهذا يَدانِ أمْ لكم على هذا صبر؟ طاعةُ اللهِ تعالى أهونُ عليكم يا قومُ، فأطيعوا اللهَ ورسولَه. كانَ بَعضُ السَّلفِ إذا رجَعَ من الجُمُعةِ في حرِّ الظهيرةِ يَذكُرُ انصرافَ النّاسِ مِن موقفِ الحسابِ إلى الجنّةِ أو النّار، فإنَّ السَّاعةَ تقومُ يومَ الجمُعة، ولا يَنتَصِفُ ذلك النّهارُ حتى يَقيلَ أهلُ الجنّةِ في الجنّةِ وأهلُ النّارِ في النّار، ثمّ تلا: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) نسألُ اللهَ من فضلِه، فاتّقوا اللهَ رحمَكم اللهُ واقتدوا بسلفِكم الصالحِ وتَشبَّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهم، إنَّ التّشبّهَ بالكرامِ فلاحُ فاستغفروا ربَّكم ثمّ توبوا إليه إنّه كانَ غفّارًا.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأصلي وأسلمُ على خاتمِ النّبيّين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمّا بعدُ عبادَ الله
خُذُوا من شدّةِ هذا الحرِّ العظةَ والعِبرةَ، التي بها يَزدادُ إيمانُكم، وتَزكو نفوسُكم، وتَسمو أخلاقُكم، وتَلينُ قلوبُكم، واجعلوا منها واعظًا يُذكّرُكم ما أعدَّه اللهُ لمن عصاه من حرِّ النّارِ، وما فيها من السّمومِ والحميم، وتذكّروا رحمَكم اللهُ حينَ يَتصبّبُ منكم العَرقُ والشّمسُ فوقَ رؤوسِكم، تذكّروا يومًا تدنو فيه الشّمسُ من رؤوسِ العباد، ويُزادُ في حرِّها وهم حفاةٌ عُراةٌ، فيَفيضُ منهم العرقُ بحسبِ أعمالِهم، فمنهم من يَبلغُ العرقُ إلى كعبيه، ومنهم إلى حِقْوَيْه، ومنهم من يُلجِمُه العرقُ إلجامًا. وعندما تكونُ الأرضُ جمرةً لا تستطيعونَ الوقوفَ عليها، تذكّروا أهونَ أهلِ النّارِ عذابًا، مَنْ يقفُ على جمرتينِ مِن النّارِ يَغلي منهما دماغُه كما يَغلي المِرْجَلُ، ما يَرى أنّ أحدًا أشدَّ منه عذابًا وإنّه لأهونُهم عذابًا. فكيف بمن هم في دَرَكاتِ جهنّمَ يَتقلّبونَ، وفي حرِّها يَصطلونَ، وفي جحيمِها يُسجرون؟ نسألُ اللهَ العافية، فاتّقوا اللهَ رحمَكم اللهُ وبادروا إلى التّوبةِ والعملِ الصّالحِ، وتَذكّروا في مقابلِ ذلك حالَ أهلِ الجنّةِ (أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) فهم في ظلِّ عرشِ الرّحمنِ آمنونَ، وفي الجِنانِ منعّمونَ، لهم فيها ما يشاؤون، في ظِلٍّ مَّمْدُودٍ، وَمَاء مَّسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، وحبورٍ وقصورٍ وأشجارٍ وأنهارٍ وعيون (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) يقولُ عليه الصّلاةُ والسّلامُ: في الجنّةِ شجرةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا ماِئَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُهَا (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) في نعيمٍ مُقيمٍ وسُرورٍ دائم (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) اللهمّ اجعلْنا مِن أهلِها ووالدِينا وأهلِينا والمسلمين، برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين، سبحانَ ربِّك ربِّ العزّةِ عمّا يصفونَ وسلامٌ على المرسلينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
إعداد/ وليد بن محمد العباد غفر الله له ولوالديه وأهله وذريته والمسلمين
جامع السعيد بحي المصيف شمال الرياض 25/ 11/ 1443هـ