خطبة جمعتها من أجمل ما قاله مشائخنا الخطباء في استقبال رمضان
عبدالرحمن اللهيبي
1435/08/29 - 2014/06/27 02:37AM
الحمد لله يمنُّ على عباده بمواسم الخير أفراحًا، ويدفع عنهم بلطفه أسباب الردى شرورًا وأتراحًا، أحمده تعالى وأشكره شكرًا يتجدد غدوًا ورواحًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مبدع الكائنات أجسادا وأرواحًا ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله رافع لواء الدين دعوة وإصلاحًا، والهادي إلى طريق الرشاد سعادة وفلاحًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خيارِ هذه الأمة تقىً وصلاحًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيامُ مساءً وصباحًا، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-، فهي العدة لمن رام خيرًا وصلاحًا، وأراد عزًا وفلاحًا، وقصد برًّا وتوفيقًا ونجاحًا.
أيها المسلمون: تمر الأيام وما أسرعها! وتمضي الشهور وما أعجلها! وعما قريب يطل علينا موسمٌ كريم، وشهر عظيم، ويفد علينا وافدٌ حبيب وضيف عزيز، الليلة أو غدا يهل علينا شهر رمضان المبارك بأجوائه العبقة، وأيامه المباركة ، ولياليه المتلألئة.
هو من فضل الله -سبحانه وتعالى- علينا؛ لما له من الخصائص والمزايا، ولما أعطيت فيه أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- من الهبات وخصت فيه من الكرامات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين".
فيا لها من فرصة عظيمة، ومناسبة ثمينة، تصفو فيها النفوس، وتهفو إليها الأرواح، وتكثر فيها دواعي الخير، تفتح الجنات، وتتنزل الرحمات، وترفع الدرجات، وتغفر الزلات، وتحط الأوزار والخطيئات، يجزل الله فيها العطايا والمواهب، ويفتح أبواب الخير لكل راغب، ويعظم أسباب التوفيق لكل طالب، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
أيها المشتاقون: أتاكم رمضان لتجديد معالم الإيمان، وإصلاح ما فسد من أحوال، وعلاج ما جد من أمراض وأدواء, فشهر رمضان مدرسة لتجديد الإيمان، وتهذيب الأخلاق، وسمو الأرواح، وإصلاح النفوس، وضبط الغرائز، وكبح جماح الشهوات، إنه مضمار يتنافس فيه المتسابقون لنيل العتق والغفران والرضا والرضوان والرحمة والإكرام.
فما أجدر المسلم وهو يستقبل هذا الشهر المبارك! إلى محاسبة نفسه! ومراجعة حساباته! وإعادة النظر في آرائه وتصوراته هل هي موافقة لمراد الله أم لا.
أيها المسلمون: بماذا عسانا أن نستقبل شهرنا الكريم، وموسمنا العظيم؟! إن الناظر في واقع الناس اليوم إزاء استقبال هذا الشهر الكريم يجدهم أصنافًا:
فمنهم من يرى أنه حرمان لا داعي له، وتقليد لا مبرر له، وقيودٌ ثقيلة وطقوسٌ كليلة، تجاوزها عصر الحضارة وتطور الثقافة وركب المدنية والحداثة وما هذا والله بمسلم وإن ادعى الإسلام فهو منافق كاذب.
ومنهم من يرى فيه موسمًا للموائد الزاخرة باللذيذ من الطعام والشراب، وفرصة سانحة للسمر والسهر واللهو إلى هجيعٍ من الليل، بل إلى بزوغ الفجر، أمام الفضائيات، وما تقذف به بعض القنوات من عفن وفتن وقاذورات، وما تعج به شبكات المعلومات، يتبع ذلك استغراق في نومٍ عميق نهارًا، فإذا كان من ذوي الأعمال تبرم بعمله، وإذا كان من أصحاب المعاملات ساءت معاملاته وضاق عطنه، وإذا كان موظفًا ثقل عليه الالتزام بأداء مسئولياته، وقلَّ إنتاجه وعطاؤه، وغالب هذا الصنف هم من يملؤون الأسواق هذه الأيام تبضعًا وتخزينًا للمواد الغذائية المتنوعة، ظانين أن هذا هو السبيل لاستقبال رمضان.
وفي الأمة –أخيار كثر جعلنا الله وإياكم منهم- ممن يرى في رمضان غير هذا كله، يرون فيه دورة إيمانية لتجديد معانٍ عظيمة في النفوس، من الإيمان العميق، والخلق القويم، والصبر الكريم، والعمل الجليل.
يرون فيه فرصة لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات وعتق الرقاب والترقي في الدرجات وتحصيل الحسنات ونيل رضوان الله وكرمه والتعرض لنفحاته وجوده
إن استقبالنا لرمضان -يا عباد الله- يجب أن يكون بالحمد والشكر لله -جل وعلا-، والفرح والاغتباط بهذا الموسم العظيم: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
إن استقبالنا لرمضان يجب أن يكون بالتوبة والإنابة من جميع الذنوب والمعاصي، والتحلل من المظالم، وأداء الحقوق.
إن رمضان فرصة للطائعين للاستزادة من العمل الصالح، وفرصة للمذنبين للتوبة والإنابة
فيا أيها المسلمون: أَرُوا اللهَ مِن أَنفُسِكُم خَيرًا وتهيأوا لشهر رمضان بالمسارعة إِلى التَّوبَةِ، وَعَجِّلُوا الأَوبَةَ، وَخُذُوا لِلضَّيفِ الأُهبَةَ، أَخلِصُوا النِّيَّةَ وَأَصلِحُوا الطَّوِيَّةَ،
فكم من مفرط على نفسه في الأعوام السابقة قد وعد ربه إن أدرك رمضان القابل أن يجتهد اجتهادًا لا مزيد عليه، ولكنه ينسى موعدته تلك، ولا يتذكرها إلا في آخر الشهر حين يرى الناس قد سبقوه بالأعمال الصالحة وهو لم يبارح مكانه، فليتذكر من الآن وعوده في الأعوام السابقة، ولا يجعل رمضان هذه السنة كما مضى من رمضانات أضاعها في اللهو والعبث، والنوم والغفلة.
إن أعمارنا يا مسلمون تمضي بنا سراعًا إلى قبورنا ونحن لا نشعر، ومواسم الخير تمر بنا كل عام ونحن كما نحن لم نزدد إيمانًا ولا عملاً صالحًا، وهذا من إطباق الغفلة، وتسويف النفس، وتزيين الشيطان؛ فلنحذر ذلك يا عباد الله، ولننتبه من غفلتنا، ولنستيقظ من رقدتنا، فعسى أن نحظى في شهر الخيرات والرحمات والبركات بنفحة من نفحاته المباركة نسعد بها فلا نشقى أبدًا.
أتى رمضان مزرعة العباد *** لتطهير القلوب من الفسادِ
فمن زرع الحبوب وما سقاها *** تأوه نـادمًا يوم الحصادِ
اللهم بلغنا بمنك وكرمك شهر رمضان، اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام، واغفر اللهم لنا ما سلف وكان، من الذنوب والخطايا والعصيان، اللهم اجعله شهر عزٍّ ونصرٍ للإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، إنك خير مسؤول وأكرم مرتجى مأمول.
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ تَسْتَقْبِلُونَ شَهْرَ التَّقْوَى، وَلَا تَقْوَى إِلَّا بِتَوْبَةٍ، فَلْنَتُبْ إِلَى اللهِ تَعَالَى قُبَالَةَ هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا )
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي فِيهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرِيدُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّ أَهْلَ الشَّهَوَاتِ لَا يُرِيدُونَ التَّوْبَةَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمَيْلَ الْعَظِيمَ آيَةٌ يَجِبُ أَنْ يَتَدَبَّرَهَا الْمُؤْمِنُ كُلَّ حِينٍ، وَيُذَكِّرَ بِهَا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِخْوَانَهُ المُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهَا تَصِفُ الْوَاقِعَ الَّذِي نَعِيشُهُ بِدِقَّةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَتَكْشِفُ بِجَلَاءٍ مُرَادَ مروجي الشهوات والفساد.
وَبِمَا أَنَّ رَمَضَانَ شَهْرٌ لِلتَّوْبَةِ عَظِيمٌ، يَكْثُرُ فِيهِ التَّائِبُونَ وَالمُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَتَتَنَوَّعُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ، وَيَنْتَشِرُ فِيهِ الْخَيْرُ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّوءِ وَالشَّهَوَاتِ لَا يُعْجِبُهُمْ ذَلِكَ أَبَدًا، وَيُرِيدُونَ بِالنَّاسِ مَيْلًا عَظِيمًا؛ وَلِذَا يَنْشَطُونَ فِي فَضَائِيَّاتِهِمْ بِالْبَرَامِجِ الْمُحَرَّمَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، وَيَعِدُونَ النَّاسَ فِيهِ بِأَنْوَاعِ التَّرْفِيهِ الْمُحَرَّمِ، مِنْ مُسَلْسَلَاتٍ مَاجِنَةٍ وَصَلَتْ إِلَى حَدِّ عَرْضِ قِصَصِ الزِّنَا بِالْمَحَارِمِ عياذا بِاللهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، وَأُخْرَى تَارِيخِيَّةٍ كُتِبَتْ وَعُرِضَتْ بِاجْتِزَاءٍ وَانْتِقَائِيَّةٍ لِإِيصَالِ رَسَائِلَ مَغْلُوطَةٍ، وَتَرْسِيخِ مَفَاهِيمَ مُنْحَرِفَةٍ، عَلَى مَا فِيهَا مِنْ تَشْوِيهِ لرِجَالَاتِ الْإِسْلَامِ الْعِظَامِ، وَتَرْفِيهٍ سَاخِرٍ يُسْتَهْزَأُ فِيهِ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا، وَبِشَعَائِرِ دِينِهِ الَّتِي شَرَعَهَا، وَيسوق في هذه الفضائياتِ أيضا مُسَابَقَاتٌ عِمَادُهَا الْقِمَارُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى مَقْرُونًا بِالْخَمْرِ، وَهُمَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَحِوَارَاتٍ يُسْتَرْخَصُ فِيهَا دِينُ اللهِ تَعَالَى، وَتُعْرَضُ شَرَائِعُهُ الْمُحْكَمَةُ لِلنِّقَاشِ وَالتَّدَاوُلِ وَالنَّقْدِ وَالتَّصْوِيتِ، وَكَأَنَّهَا مُجَرَّدُ آرَاءٍ تَقْبَلُ الصَّوَابَ وَالْخَطَأَ وَلَيْسَتْ أَحْكَامًا مُحْكَمَةً أَنْزَلَهَا العليم الْخَبِيرُ!!
كُلُّ هَذَا الْخَبَالِ وَالضَّيَاعِ وَالِانْحِرَافِ يُعْرَضُ عَلَى الصَّائِمِينَ فِي رَمَضَانَ، وَتَتَشَرَّبُهُ قُلُوبُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ؛ لِيَمِيلَ بِهِمْ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ عَنْ جَادَّةِ التَّوْبَةِ، وَلِيُهْدِرُوا مَا اكْتَسَبُوا مِنْ حَسَنَاتٍ عِظَامٍ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقُرْآنِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ.. يُهْدِرُوهَا خَلْفَ هذه الفضائيات الفاجرة .
إِنَّ مَنْ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} ثُمَّ يُشَاهِدُ وَاقِعَ النَّاسِ فِي رَمَضَانَ يَجِدُ أَنَّ أَهْلَ التَّوْبَةِ وَالتَّقْوَى فِي الْمَسَاجِدِ لَا يَكَادُونَ يُبَارِحُونَهَا، وَيَجِدُ أَنَّ المُنْصَرِفِينَ عَنِ التَّوْبَةِ وَالتَّقْوَى أَمَامَ الشَّاشَاتِ لَا يُفَارِقُونَهَا، قَدْ مَالَ بِهِمْ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ عَنْ رَمَضَانَ مَيْلًا عَظِيمًا.
إِنَّنَا -يَا عِبَادَ اللهِ- قَدْ نَصُومُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَهَلْ نَعِي مَا يُرِيدُهُ مِنَّا رَبُّنَا جَلَّ فِي عُلَاهُ؛ لِيَغْفِرَ لَنَا، وَيَتُوبَ عَلَيْنَا، وَيَرْضَى عَنَّا، وَمَا يُرِيدُهُ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ بِنَا وَبِبِيُوتِنَا وَأُسَرِنَا مِنَ الْمَيْلِ الْعَظِيمِ؟!
فَهَلْ نُطِيعُ خَالِقَنَا وَرَازِقَنَا وَالْمُنْعِمَ عَلَيْنَا؟ أَمْ نُطِيعُ أَقْوَامًا تَنَكَّبُوا طَرِيقَ الْهِدَايَةِ، وَرَكِبُوا الْغِوَايَةَ، وَيُرِيدُونَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ أَنْ أَنْ يَرْكَبُوا مَرْكَبَهُمُ الَّذِي يُورِدُهُمْ دَارَ السَّعِيرِ، وَقَدْ قِيلَ: وَدَّتِ الزَّانِيَةُ لَوْ زَنَى النَّاسُ كُلُّهُمْ.
وَقَدْ سُلْسِلَتْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ فِي رَمَضَانَ، فَلَا تَخْلُصُ إِلَى مَا كَانَتْ تَخْلُصُ إِلَيْهِ فِي غَيرِ رَمَضَانَ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ تَنْشَطُ فِي رَمَضَانَ أَكْثَر مِنْ غَيْرِهِ؛ لِإِفْسَادِ الشَّهْرِ عَلَى المُؤْمِنِينَ، فَحَذَارِ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ، وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا يُرِيدُونَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلَّا خَبَالًا وَضَيَاعًا وَإِغْضَابًا للهِ تَعَالَى، وَلَا يُورِدُونَهُمْ إِلَّا مَوَارِدَ الْهَلَكَةِ وَالْخُسْرَانِ، وَقد قال «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
يَا صَاحِبَ الذَّنبِ لا تَأمَنْ عَوَاقِبَهُ *** عَوَاقِبُ الذَّنبِ تُخشَى وَهِيَ تُنتَظَرُ
فَكُلُّ نَفسٍ سَتُجزَى بِالَّذِي كَسَبَت *** وَلَيسَ لِلخَلقِ مِن ديَّانِهِم وَزَرُ
فَيَا مَن طَالَت عَن رَبِّهِ غَيبَتُهُ وَامتَدَّ صُدُودُهُ، هَا قَد حضرت أَيَّامُ المُصَالَحَةِ، وَيَا مَن تَكَرَّرَت خَسَارَتُهُ، هَا قَد أَقبَلَت أَيَّامُ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ.
وعليكم عباد الله بإقامة الصلاة فإِنَّهَا عَمُودُ الإِسلامِ وَثَاني أَركَانِهِ العِظَامِ ، الَّتي لا يَترُكُهَا بِالكُلَّيَّةِ إِلاَّ خَارِجٌ مِنَ المِلَّةِ مُرتَدٌّ عَنِ الدِّينِ ، وَلا يَتَهَاوَنُ بها وَيَتَثَاقَلُ عَنهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعلَومُ النِّفَاقِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " بَينَ الرَّجُلِ وَبَينَ الكُفرِ تَركُ الصَّلاةِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " العَهدُ الَّذِي بَينَنَا وَبَينَهُمُ الصَّلاةُ ، فَمَن تَرَكَهَا فَقَد كَفَرَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ شَقِيقٍ قَالَ : كَانَ أَصحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لا يَرَونَ شَيئًا مِنَ الأَعمَالِ تَركُهُ كُفرٌ غَيرَ الصَّلاةِ . رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَعَنِ ابنِ مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : مَن سَرَّهُ أَن يَلقَى اللهَ غَدًا مُسلِمًا ، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيثُ يُنَادَى بِهِنَّ ، فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ شَرَعَ لِنَبِيِّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ سُنَنَ الهُدَى ، وَإِنَّهُنَّ مِن سُنَنِ الهُدَى ، وَلَو أَنَّكُم صَلَّيتُم في بُيُوتِكُم كَمَا يُصَلِّي هَذَا المُتَخَلِّفُ في بَيتِهِ لَتَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم ، وَلَو تَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم لَضَلَلتُم ، وَمَا مِن رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحسِنُ الطُّهُورُ ثم يَعمَدُ إِلى مَسجِدٍ مِن هَذِهِ المَسَاجِدِ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطوَةٍ يَخطُوهَا حَسَنَةً ، وَيَرفَعُهُ بها دَرَجَةً ، وَيَحُطُّ عَنهُ بها سَيِّئَةً ، وَلَقَد رَأَيتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعلُومُ النِّفَاقِ ، وَلَقَد كَانَ الرَّجُلُ يُؤتَى بِهِ يُهَادَي بَينَ الرَّجُلَينِ حَتى يُقَامَ في الصَّفِّ . رَوَاهُ مُسلِمٌ .
أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ قَومٌ إِذَا صَامُوا نَامُوا ، وَهَجَرُوا المَسَاجِدَ وَتَرَكُوا الجَمَاعَاتِ ، أَيَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم قَد صَامُوا إِيمَانًا وَاحتِسَابًا وَطَلَبًا لِلأَجرِ وَابتِغَاءً لِلثَّوَابِ ، لا وَاللهِ مَا صَامَ أُولَئِكَ الصيام الذي يريده الله منهم
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أيُّهَا المُسلِمُونَ ـ " وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُم وَأَسلِمُوا لَهُ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ . وَاتَّبِعُوا أَحسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذَابُ بَغتَةً وَأَنتُم لَا تَشعُرُونَ . أَن تَقُولَ نَفسٌ يَا حَسرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ في جَنبِ اللهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَو تَقُولَ لَو أَنَّ اللهَ هَدَاني لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ . أَو تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَو أَنَّ لي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحسِنِينَ . بَلَى قَد جَاءَتكَ آيَاتي فَكَذَّبتَ بها وَاستَكبَرتَ وَكُنتَ مِنَ الكَافِرِينَ . وَيَومَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُسوَدَّةٌ أَلَيسَ في جَهَنَّمَ مَثوًى لِلمُتَكَبِّرِينَ . وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِم لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُم يَحزَنُونَ "
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-، فهي العدة لمن رام خيرًا وصلاحًا، وأراد عزًا وفلاحًا، وقصد برًّا وتوفيقًا ونجاحًا.
أيها المسلمون: تمر الأيام وما أسرعها! وتمضي الشهور وما أعجلها! وعما قريب يطل علينا موسمٌ كريم، وشهر عظيم، ويفد علينا وافدٌ حبيب وضيف عزيز، الليلة أو غدا يهل علينا شهر رمضان المبارك بأجوائه العبقة، وأيامه المباركة ، ولياليه المتلألئة.
هو من فضل الله -سبحانه وتعالى- علينا؛ لما له من الخصائص والمزايا، ولما أعطيت فيه أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- من الهبات وخصت فيه من الكرامات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين".
فيا لها من فرصة عظيمة، ومناسبة ثمينة، تصفو فيها النفوس، وتهفو إليها الأرواح، وتكثر فيها دواعي الخير، تفتح الجنات، وتتنزل الرحمات، وترفع الدرجات، وتغفر الزلات، وتحط الأوزار والخطيئات، يجزل الله فيها العطايا والمواهب، ويفتح أبواب الخير لكل راغب، ويعظم أسباب التوفيق لكل طالب، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
أيها المشتاقون: أتاكم رمضان لتجديد معالم الإيمان، وإصلاح ما فسد من أحوال، وعلاج ما جد من أمراض وأدواء, فشهر رمضان مدرسة لتجديد الإيمان، وتهذيب الأخلاق، وسمو الأرواح، وإصلاح النفوس، وضبط الغرائز، وكبح جماح الشهوات، إنه مضمار يتنافس فيه المتسابقون لنيل العتق والغفران والرضا والرضوان والرحمة والإكرام.
فما أجدر المسلم وهو يستقبل هذا الشهر المبارك! إلى محاسبة نفسه! ومراجعة حساباته! وإعادة النظر في آرائه وتصوراته هل هي موافقة لمراد الله أم لا.
أيها المسلمون: بماذا عسانا أن نستقبل شهرنا الكريم، وموسمنا العظيم؟! إن الناظر في واقع الناس اليوم إزاء استقبال هذا الشهر الكريم يجدهم أصنافًا:
فمنهم من يرى أنه حرمان لا داعي له، وتقليد لا مبرر له، وقيودٌ ثقيلة وطقوسٌ كليلة، تجاوزها عصر الحضارة وتطور الثقافة وركب المدنية والحداثة وما هذا والله بمسلم وإن ادعى الإسلام فهو منافق كاذب.
ومنهم من يرى فيه موسمًا للموائد الزاخرة باللذيذ من الطعام والشراب، وفرصة سانحة للسمر والسهر واللهو إلى هجيعٍ من الليل، بل إلى بزوغ الفجر، أمام الفضائيات، وما تقذف به بعض القنوات من عفن وفتن وقاذورات، وما تعج به شبكات المعلومات، يتبع ذلك استغراق في نومٍ عميق نهارًا، فإذا كان من ذوي الأعمال تبرم بعمله، وإذا كان من أصحاب المعاملات ساءت معاملاته وضاق عطنه، وإذا كان موظفًا ثقل عليه الالتزام بأداء مسئولياته، وقلَّ إنتاجه وعطاؤه، وغالب هذا الصنف هم من يملؤون الأسواق هذه الأيام تبضعًا وتخزينًا للمواد الغذائية المتنوعة، ظانين أن هذا هو السبيل لاستقبال رمضان.
وفي الأمة –أخيار كثر جعلنا الله وإياكم منهم- ممن يرى في رمضان غير هذا كله، يرون فيه دورة إيمانية لتجديد معانٍ عظيمة في النفوس، من الإيمان العميق، والخلق القويم، والصبر الكريم، والعمل الجليل.
يرون فيه فرصة لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات وعتق الرقاب والترقي في الدرجات وتحصيل الحسنات ونيل رضوان الله وكرمه والتعرض لنفحاته وجوده
إن استقبالنا لرمضان -يا عباد الله- يجب أن يكون بالحمد والشكر لله -جل وعلا-، والفرح والاغتباط بهذا الموسم العظيم: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
إن استقبالنا لرمضان يجب أن يكون بالتوبة والإنابة من جميع الذنوب والمعاصي، والتحلل من المظالم، وأداء الحقوق.
إن رمضان فرصة للطائعين للاستزادة من العمل الصالح، وفرصة للمذنبين للتوبة والإنابة
فيا أيها المسلمون: أَرُوا اللهَ مِن أَنفُسِكُم خَيرًا وتهيأوا لشهر رمضان بالمسارعة إِلى التَّوبَةِ، وَعَجِّلُوا الأَوبَةَ، وَخُذُوا لِلضَّيفِ الأُهبَةَ، أَخلِصُوا النِّيَّةَ وَأَصلِحُوا الطَّوِيَّةَ،
فكم من مفرط على نفسه في الأعوام السابقة قد وعد ربه إن أدرك رمضان القابل أن يجتهد اجتهادًا لا مزيد عليه، ولكنه ينسى موعدته تلك، ولا يتذكرها إلا في آخر الشهر حين يرى الناس قد سبقوه بالأعمال الصالحة وهو لم يبارح مكانه، فليتذكر من الآن وعوده في الأعوام السابقة، ولا يجعل رمضان هذه السنة كما مضى من رمضانات أضاعها في اللهو والعبث، والنوم والغفلة.
إن أعمارنا يا مسلمون تمضي بنا سراعًا إلى قبورنا ونحن لا نشعر، ومواسم الخير تمر بنا كل عام ونحن كما نحن لم نزدد إيمانًا ولا عملاً صالحًا، وهذا من إطباق الغفلة، وتسويف النفس، وتزيين الشيطان؛ فلنحذر ذلك يا عباد الله، ولننتبه من غفلتنا، ولنستيقظ من رقدتنا، فعسى أن نحظى في شهر الخيرات والرحمات والبركات بنفحة من نفحاته المباركة نسعد بها فلا نشقى أبدًا.
أتى رمضان مزرعة العباد *** لتطهير القلوب من الفسادِ
فمن زرع الحبوب وما سقاها *** تأوه نـادمًا يوم الحصادِ
اللهم بلغنا بمنك وكرمك شهر رمضان، اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام، واغفر اللهم لنا ما سلف وكان، من الذنوب والخطايا والعصيان، اللهم اجعله شهر عزٍّ ونصرٍ للإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، إنك خير مسؤول وأكرم مرتجى مأمول.
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ تَسْتَقْبِلُونَ شَهْرَ التَّقْوَى، وَلَا تَقْوَى إِلَّا بِتَوْبَةٍ، فَلْنَتُبْ إِلَى اللهِ تَعَالَى قُبَالَةَ هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا )
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي فِيهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرِيدُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّ أَهْلَ الشَّهَوَاتِ لَا يُرِيدُونَ التَّوْبَةَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمَيْلَ الْعَظِيمَ آيَةٌ يَجِبُ أَنْ يَتَدَبَّرَهَا الْمُؤْمِنُ كُلَّ حِينٍ، وَيُذَكِّرَ بِهَا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِخْوَانَهُ المُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهَا تَصِفُ الْوَاقِعَ الَّذِي نَعِيشُهُ بِدِقَّةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَتَكْشِفُ بِجَلَاءٍ مُرَادَ مروجي الشهوات والفساد.
وَبِمَا أَنَّ رَمَضَانَ شَهْرٌ لِلتَّوْبَةِ عَظِيمٌ، يَكْثُرُ فِيهِ التَّائِبُونَ وَالمُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَتَتَنَوَّعُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ، وَيَنْتَشِرُ فِيهِ الْخَيْرُ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّوءِ وَالشَّهَوَاتِ لَا يُعْجِبُهُمْ ذَلِكَ أَبَدًا، وَيُرِيدُونَ بِالنَّاسِ مَيْلًا عَظِيمًا؛ وَلِذَا يَنْشَطُونَ فِي فَضَائِيَّاتِهِمْ بِالْبَرَامِجِ الْمُحَرَّمَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، وَيَعِدُونَ النَّاسَ فِيهِ بِأَنْوَاعِ التَّرْفِيهِ الْمُحَرَّمِ، مِنْ مُسَلْسَلَاتٍ مَاجِنَةٍ وَصَلَتْ إِلَى حَدِّ عَرْضِ قِصَصِ الزِّنَا بِالْمَحَارِمِ عياذا بِاللهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، وَأُخْرَى تَارِيخِيَّةٍ كُتِبَتْ وَعُرِضَتْ بِاجْتِزَاءٍ وَانْتِقَائِيَّةٍ لِإِيصَالِ رَسَائِلَ مَغْلُوطَةٍ، وَتَرْسِيخِ مَفَاهِيمَ مُنْحَرِفَةٍ، عَلَى مَا فِيهَا مِنْ تَشْوِيهِ لرِجَالَاتِ الْإِسْلَامِ الْعِظَامِ، وَتَرْفِيهٍ سَاخِرٍ يُسْتَهْزَأُ فِيهِ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا، وَبِشَعَائِرِ دِينِهِ الَّتِي شَرَعَهَا، وَيسوق في هذه الفضائياتِ أيضا مُسَابَقَاتٌ عِمَادُهَا الْقِمَارُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى مَقْرُونًا بِالْخَمْرِ، وَهُمَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَحِوَارَاتٍ يُسْتَرْخَصُ فِيهَا دِينُ اللهِ تَعَالَى، وَتُعْرَضُ شَرَائِعُهُ الْمُحْكَمَةُ لِلنِّقَاشِ وَالتَّدَاوُلِ وَالنَّقْدِ وَالتَّصْوِيتِ، وَكَأَنَّهَا مُجَرَّدُ آرَاءٍ تَقْبَلُ الصَّوَابَ وَالْخَطَأَ وَلَيْسَتْ أَحْكَامًا مُحْكَمَةً أَنْزَلَهَا العليم الْخَبِيرُ!!
كُلُّ هَذَا الْخَبَالِ وَالضَّيَاعِ وَالِانْحِرَافِ يُعْرَضُ عَلَى الصَّائِمِينَ فِي رَمَضَانَ، وَتَتَشَرَّبُهُ قُلُوبُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ؛ لِيَمِيلَ بِهِمْ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ عَنْ جَادَّةِ التَّوْبَةِ، وَلِيُهْدِرُوا مَا اكْتَسَبُوا مِنْ حَسَنَاتٍ عِظَامٍ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقُرْآنِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ.. يُهْدِرُوهَا خَلْفَ هذه الفضائيات الفاجرة .
إِنَّ مَنْ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} ثُمَّ يُشَاهِدُ وَاقِعَ النَّاسِ فِي رَمَضَانَ يَجِدُ أَنَّ أَهْلَ التَّوْبَةِ وَالتَّقْوَى فِي الْمَسَاجِدِ لَا يَكَادُونَ يُبَارِحُونَهَا، وَيَجِدُ أَنَّ المُنْصَرِفِينَ عَنِ التَّوْبَةِ وَالتَّقْوَى أَمَامَ الشَّاشَاتِ لَا يُفَارِقُونَهَا، قَدْ مَالَ بِهِمْ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ عَنْ رَمَضَانَ مَيْلًا عَظِيمًا.
إِنَّنَا -يَا عِبَادَ اللهِ- قَدْ نَصُومُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَهَلْ نَعِي مَا يُرِيدُهُ مِنَّا رَبُّنَا جَلَّ فِي عُلَاهُ؛ لِيَغْفِرَ لَنَا، وَيَتُوبَ عَلَيْنَا، وَيَرْضَى عَنَّا، وَمَا يُرِيدُهُ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ بِنَا وَبِبِيُوتِنَا وَأُسَرِنَا مِنَ الْمَيْلِ الْعَظِيمِ؟!
فَهَلْ نُطِيعُ خَالِقَنَا وَرَازِقَنَا وَالْمُنْعِمَ عَلَيْنَا؟ أَمْ نُطِيعُ أَقْوَامًا تَنَكَّبُوا طَرِيقَ الْهِدَايَةِ، وَرَكِبُوا الْغِوَايَةَ، وَيُرِيدُونَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ أَنْ أَنْ يَرْكَبُوا مَرْكَبَهُمُ الَّذِي يُورِدُهُمْ دَارَ السَّعِيرِ، وَقَدْ قِيلَ: وَدَّتِ الزَّانِيَةُ لَوْ زَنَى النَّاسُ كُلُّهُمْ.
وَقَدْ سُلْسِلَتْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ فِي رَمَضَانَ، فَلَا تَخْلُصُ إِلَى مَا كَانَتْ تَخْلُصُ إِلَيْهِ فِي غَيرِ رَمَضَانَ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ تَنْشَطُ فِي رَمَضَانَ أَكْثَر مِنْ غَيْرِهِ؛ لِإِفْسَادِ الشَّهْرِ عَلَى المُؤْمِنِينَ، فَحَذَارِ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ، وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا يُرِيدُونَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلَّا خَبَالًا وَضَيَاعًا وَإِغْضَابًا للهِ تَعَالَى، وَلَا يُورِدُونَهُمْ إِلَّا مَوَارِدَ الْهَلَكَةِ وَالْخُسْرَانِ، وَقد قال «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
يَا صَاحِبَ الذَّنبِ لا تَأمَنْ عَوَاقِبَهُ *** عَوَاقِبُ الذَّنبِ تُخشَى وَهِيَ تُنتَظَرُ
فَكُلُّ نَفسٍ سَتُجزَى بِالَّذِي كَسَبَت *** وَلَيسَ لِلخَلقِ مِن ديَّانِهِم وَزَرُ
فَيَا مَن طَالَت عَن رَبِّهِ غَيبَتُهُ وَامتَدَّ صُدُودُهُ، هَا قَد حضرت أَيَّامُ المُصَالَحَةِ، وَيَا مَن تَكَرَّرَت خَسَارَتُهُ، هَا قَد أَقبَلَت أَيَّامُ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ.
وعليكم عباد الله بإقامة الصلاة فإِنَّهَا عَمُودُ الإِسلامِ وَثَاني أَركَانِهِ العِظَامِ ، الَّتي لا يَترُكُهَا بِالكُلَّيَّةِ إِلاَّ خَارِجٌ مِنَ المِلَّةِ مُرتَدٌّ عَنِ الدِّينِ ، وَلا يَتَهَاوَنُ بها وَيَتَثَاقَلُ عَنهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعلَومُ النِّفَاقِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " بَينَ الرَّجُلِ وَبَينَ الكُفرِ تَركُ الصَّلاةِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " العَهدُ الَّذِي بَينَنَا وَبَينَهُمُ الصَّلاةُ ، فَمَن تَرَكَهَا فَقَد كَفَرَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ شَقِيقٍ قَالَ : كَانَ أَصحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لا يَرَونَ شَيئًا مِنَ الأَعمَالِ تَركُهُ كُفرٌ غَيرَ الصَّلاةِ . رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَعَنِ ابنِ مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : مَن سَرَّهُ أَن يَلقَى اللهَ غَدًا مُسلِمًا ، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيثُ يُنَادَى بِهِنَّ ، فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ شَرَعَ لِنَبِيِّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ سُنَنَ الهُدَى ، وَإِنَّهُنَّ مِن سُنَنِ الهُدَى ، وَلَو أَنَّكُم صَلَّيتُم في بُيُوتِكُم كَمَا يُصَلِّي هَذَا المُتَخَلِّفُ في بَيتِهِ لَتَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم ، وَلَو تَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم لَضَلَلتُم ، وَمَا مِن رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحسِنُ الطُّهُورُ ثم يَعمَدُ إِلى مَسجِدٍ مِن هَذِهِ المَسَاجِدِ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطوَةٍ يَخطُوهَا حَسَنَةً ، وَيَرفَعُهُ بها دَرَجَةً ، وَيَحُطُّ عَنهُ بها سَيِّئَةً ، وَلَقَد رَأَيتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعلُومُ النِّفَاقِ ، وَلَقَد كَانَ الرَّجُلُ يُؤتَى بِهِ يُهَادَي بَينَ الرَّجُلَينِ حَتى يُقَامَ في الصَّفِّ . رَوَاهُ مُسلِمٌ .
أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ قَومٌ إِذَا صَامُوا نَامُوا ، وَهَجَرُوا المَسَاجِدَ وَتَرَكُوا الجَمَاعَاتِ ، أَيَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم قَد صَامُوا إِيمَانًا وَاحتِسَابًا وَطَلَبًا لِلأَجرِ وَابتِغَاءً لِلثَّوَابِ ، لا وَاللهِ مَا صَامَ أُولَئِكَ الصيام الذي يريده الله منهم
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أيُّهَا المُسلِمُونَ ـ " وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُم وَأَسلِمُوا لَهُ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ . وَاتَّبِعُوا أَحسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذَابُ بَغتَةً وَأَنتُم لَا تَشعُرُونَ . أَن تَقُولَ نَفسٌ يَا حَسرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ في جَنبِ اللهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَو تَقُولَ لَو أَنَّ اللهَ هَدَاني لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ . أَو تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَو أَنَّ لي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحسِنِينَ . بَلَى قَد جَاءَتكَ آيَاتي فَكَذَّبتَ بها وَاستَكبَرتَ وَكُنتَ مِنَ الكَافِرِينَ . وَيَومَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُسوَدَّةٌ أَلَيسَ في جَهَنَّمَ مَثوًى لِلمُتَكَبِّرِينَ . وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِم لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُم يَحزَنُونَ "
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المشاهدات 2767 | التعليقات 3
جزاك الله خيرا
خطبة مميزة ورائعة في تسلسل أفكرها وروعة نظمها وشمولها
بورك فيك شيخ عبدالرحمن اللهيبي على جمعك وحسن اختيارك كتب الله أجر الجميع.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق