خطبة جمعة وافقت يوم عيد الفطر بم يختم العمل والتهنئة بالعيد
عبد الله بن علي الطريف
خطبة جمعة وافقت يوم عيد الفطر بم يختم العمل والتهنئة بالعيد 1444/10/1هـ
الحمد لله مصرف الشهور والأيام، وفق من شاء لطاعته فاستثمرها وقام بحقها خير قيام، والشكر له أن وفقنا لإتمام شهر الصيام. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والإنعام. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً. أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر 18]
أيها الإخوة: تقبل الله منا ومنكم وعيدكم سعيد أعاده الله علينا جميعاً وعلى الأمة بالصحة والعافية والتمكين.
واعلموا أن التهنئة بالعيد من الأعمال الحسنة التي تجلب المحبة وتزيد الإلفة بين المؤمنين، وهي سنة حسنة كَانَ يَفعَلُهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فعن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذَا اِلْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك. قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. وعن محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي ﷺ في العيد، فكانوا إذا رجعوا يقول بعضهم لبعض: " تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكم" وقال أحمد: إسناده جيد. وسُئِلَ الإمَامُ أَحْمَدُ عَنْ قَوْلِ النَّاسِ في الْعِيدَيْنِ: "تقَبَّلَ اللهُ منَّا وَمِنْكُمْ": قَالَ: لابَأَسَ به، يَرْوِيه أهْلُ الشَّامِ عَنْ أبي أُمَامَةَ، قِيل: وواثِلَةَ بن الأَسْقَع؟ قال: نعم، قِيل: فلا تَكْرَهُ أَن يُقالَ هذا يَوْمَ العِيدِ، قال: لا". انظر: المغني (2/ 294).
وقال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: "التهنئة بالعيد جائزة، وليس لها تهنئة مخصوصة، بل ما اعتاده الناس فهو جائز ما لم يكن إثماً" وسئـل رحمه الله تعالى: ما حكـم المصافحة، والمعانقة والتهنئة بعد صلاة العيد.؟ فأجاب: "هذه الأشياء لا بأس بها؛ لأن الناس لا يتخذونها على سبيل التعبد والتقرب إلى الله عز وجل، وإنما يتخذونها على سبيل العادة، والإكرام والاحترام، ومادامت عادة لم يرد الشرع بالنهي عنها فإن الأصل فيها الإباحة" اهـ.
أيها الإخوة: وما زالت الناس بحمد الله يتبادلون التهاني، وفي عصر التقنية الحديثة قامت وسائل الاتصال بدور كبير في تيسير التواصل بين الأهل والأقارب؛ وهذه نعمة تستحق الشكر.. لكن لنحذر من جعلها الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الأهل والأرحام في أيام العيد، إذا كانوا في بلد واحد ويمكنهم التواصل بالأبدان، خصوصاً الأقارب، من الدرجة الأولى والثانية.
أحبتي: إذا لم نتواصل في أيام العيد ونلتقي وننسى ما بيننا من الخلافات فمتى نلتقي.؟ إذا لم يُحَيي بعضنا بعضا ويدعو بعضنا لبعض في العيد فمتى يكون ذلك.. فهو من الصلة، وأمر الصلة عظيم عظمه رسول الله ﷺ وجعله من الإيمان فقال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ». رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وجعله سبباً للخير فَقَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ» رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. والصلة أعجل الأعمال ثواباً وأعجلها عقاباً قَالَ: رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعُ اللهَ فِيهِ أَعْجَلُ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عِقَابًا مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» رواه البيهقي وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. وتوعد ﷺ قاطعها فقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الرَّحِمَ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ قَطَعَهَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" رواه أحمد والبزار عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. والمعنى: أن الرحم أثر من آثار رحمته تعالى مشتبكة بها؛ فمن قطعها كان منقطعا من رحمة الله عز وجل، ومن وصلها وصلته رحمة الله تعالى.. وأوصى ﷺ بوصل المدبر من الأرحام فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإِنْ أَدْبَرَتْ». رواه أحمد والطبراني وابن حبان واللفظ له صححه الألباني.. بل جعل ﷺ الصدقة على ذي الرحم القاطع والمضمر للعداوة أفضل مِنْهَا على الواصل منهم لما فِيهِ من قهر النَّفس للإذعان لمعاديها فقال: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» وهو القاطع، الـمُضْمِر للعداوة في باطنه. رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وصححه الألباني عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
وبعد أيها الإخوة: فضل الصلة بين الأرحام ومكانتها عند الله كبيرة، فهل تختصر برسالة جوال ربما أن من أرسلها كتب منها العشرات لمعارفه!! والله إنها لمصيبة عظمى وفاجعة كبرى، أن يصل تقييمنا للروابط الاجتماعية التي أكد عليها الدين إلى هذا المستوى.. قال الله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22،23] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، عَظَّمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى والخيراتِ صدورَهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه للطاعات وأعانهم، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله خير من علَّمَ أحكامَ الدِّين وأبانها لهم، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه والتابعين لهم بإيمان وإحسان، وسلّم تسليمًا كثيرا.
أيها الإخوة: أتبعوا شهركم بالتقوى. وعليكم بكثرة الاستغفار فهو من أفضل الأعمال وأيسرها وقد حث عليه ربنا فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
فأفقٌ المغفرة أفقُ وضيء، وغايةٌ سامية تستحقُ المسارعة والسباق، وأسباب المغفرة كثيرة لا يمكن حصرها في مثل هذا المقام.
فالاستغفارُ يشرع بعد الطاعات حتى لا يتسرب للنفس العُجب بالعمل فيحبط يقول ابنُ القيم رحمه الله مبينا حاجةَ الطائعينَ إلى الاستغفار: "الرضا بالطاعة من رُعوناتِ النَّفسِ وحماقتِها، وأربابُ العزائمِ والبصائر أشدُّ ما يكونون استغفاراً عقبَ الطاعات، لشُهُودِهم تقصيرَهم فيها، وتركِهمُ القيامَ به لله كما يليق بجلاله وكبريائِه".. وبشر ﷺ المكثرين من الاستغفار بالسرور والجنة؛ فقَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ» رواه البيهقي في الشعب والطبراني وحسنه الألباني عَنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ومن أهم ثمار كثرة الاستغفار في الأمة جماعات وفرادى: أنه سبب لدفع البلاء والنقم عن العباد والبلاد، ورفع الفتن والمحن عن الأمم والأفراد، لاسيما إذا صدر الاستغفار عن قلوب موقنة، مخلصة لله مؤمنة؛ قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33]. وقال: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً) [النساء: 110]. ما أحوجنا لهذا في كل وقت، وخصوصاً هذا الوقت لما تمر به الأمة من فتن ومحن، نسأل الله أن يجليها.. كما أسأله أن يجعلنا من المستغفرين، وأن يلهمنا الاستغفار كما نلهم النفس، وأن يرزقنا التوبة النصوح، إنه جواد كريم.
وصلوا وسلموا على نبيكم استجابة لأمر ربكم فقد قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] وَقَالَ ﷺ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرا وباطنا.. اللهم تقبل منا إنك أنت السميعُ العليم واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.. اللهم إنا نسألك الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد والغنيمة من كلِّ بِرٍ والسلامةَ من كلِّ إثم والفوزَ بالجنة والنجاةَ من النار. اللهم ارزقنا الاستقامة على دينك. اللهم أدم علينا نعمة الأمن والأمان والسلامةِ والإسلام واحفظ رجال أمننا الداخلي والخارجي واجزهم عنا خير الجزاء.. اللهم وفق ولاةَ أمورِنا لما تُحبُّ وترضى وأعنهم على البر والتقوى. اللهم زدهم هدىً وصلاحاً وتوفيقا. (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8] (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201] (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:45].