خطبة جمعة: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين .

د. عبدالعزيز الشهراني
1441/12/03 - 2020/07/24 17:17PM

عباد الله: يقول الله – جل وعلى - : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيأمُرُ اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقبَلَ ما تيسَّرَ مِن أخلاقِ النَّاسِ، وأن يأمُرَ بالمَعروفِ الذي يُقِرُّه الشَّرعُ، وأن يُعرِضَ عمَّن جَهِلَ عليه. فعن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (أمَرَ اللهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يأخُذَ العَفْوَ مِن أخلاقِ النَّاسِ(رواه البخاري, وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (قَدِمَ عُيينةُ بنُ حِصنِ بنِ حُذيفةَ، فنزل على ابنِ أخيه الحُرِّ بنِ قيسٍ، وكان مِن النَّفَرِ الذين يُدنِيهم عُمَرُ، وكان القُرَّاءُ أصحابَ مجالسِ عمرَ ومُشاورتِه، كهولًا كانوا أو شبَّانًا، فقال عُيينةُ لابنِ أخيه: يا ابنَ أخي، هل لك وجهٌ عندَ هذا الأميرِ؟ فاستأذِنْ لي عليه، قال: سأستأذِنُ لك عليه، فاستأذَنَ الحرُّ لِعُيَينةَ، فأذِنْ له عُمرُ، فلما دخَل عليه قال: هِيْ  (16) يا ابنَ الخطَّابِ، فواللهِ ما تُعطينا الجَزلَ  ولا تَحكمُ بيننا بالعَدلِ! فغضِبَ عُمرُ حتى همَّ أن يوقِعَ به، فقال له الحرُّ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ اللهَ تعالى قال لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمخُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وإنَّ هذا مِن الجاهِلينَ. واللهِ ما جاوَزها عمرُ حينَ تلاها عليه، وكان وقَّافًا عندَ كتابِ اللهِ) رواه البخاري.     شعر: [صفوحٌ عن الإجرامِ كأنه ... من العفوِ لم يَعرف من الناسِ مجرماً ]

وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظٌ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ فجبذهُ بردائه جبذةٌ شديدة، فنظرتُ إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشيةُ البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمدُ مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء متفقٌ عليه. قال ابن عثيمين – رحمه الله – معلقاً على هذا الحديث: (فانظر إلى هذا الخلق الرفيع؛ لم يوبِّخه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يضربه، ولم يكفهر في وجهه، ولم يعبس؛ بل ضحك صلى الله عليه وسل ومع هذا أمر له بعطاء، ونحن لو أن أحداً فعل بنا هذا الفعل ما أقررناه عليه؛ بل لقاتلناه) أ.هـ .

أيها المؤمنون:  هذه الآيةُ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} مِن ثلاثِ كلماتٍ، تضمَّنَت قواعِدَ الشَّريعةِ في المأموراتِ والمنهِيَّاتِ؛ فَقولُه: خُذِ الْعَفْوَ دخل فيه صلةُ القاطعينَ، والعَفوُ عن المُذنِبينَ، والرِّفقُ بالمؤمنينَ، وغيرُ ذلك من أخلاقِ المُطيعينَ، ودخَلَ في قولِه: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ صِلةُ الأرحامِ، وتَقْوى اللهِ في الحَلالِ والحرامِ، وغضُّ الأبصارِ، والاستعدادُ لدارِ القَرارِ، وفي قولِه: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ الحَضُّ على التعلُّقِ بالعِلمِ، والإعراضُ عن أهلِ الظُّلمِ، والتنَزُّهُ عن مُنازعةِ السُّفَهاءِ، ومُساواةِ الجَهَلةِ الأغبياءِ، وغيرُ ذلك من الأخلاقِ الحميدةِ، والأفعالِ الرَّشيدةِ.

عباد الله: وفي قَولُ الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ  جِماعُ الأخلاقِ الكريمةِ، وقد تضمَّن الحثَّ على حُسنِ المعاشرةِ مع الخلقِ، وأداءَ حقِّ الله فيهم، والسلامةَ مِن شرِّهم، فلو أخَذ النَّاس كلُّهم بهذه الآيةِ لكفَتْهم وشَفَتْهم؛ فإنَّ الإنسانَ مع النَّاسِ مأمورٌ أن يأخُذَ منهم ما يحِبُّ، ما سَمَحوا به، ولا يُطالِبَهم بزيادةٍ؛ فإنَّ العفوَ ما عفا مِن أخلاقِهم، وسمحَتْ به طبائعُهم، ووسِعهم بذلُه مِن أموالِهم وأخلاقِهم، فهذا ما منهم إليه. وأمَّا ما يكونُ منه إليهم فأمرُهم بالمعروفِ، وهو ما تشهدُ به العقولُ، وتعرفُ حسنَه، وهو ما أمَر الله به. وإذا فعَل معه جاهلُهم ما يَكرَهُ فإنَّه يُعرضُ عنه، ويتركُ الانتقامَ لنفسِه والانتصارَ لها، فأيُّ كمالٍ للعبدِ وراءَ هذا؟ وأيُّ معاشرةٍ وسياسةٍ لهذا العالمِ أحسنُ مِن هذه المعاشرةِ والسياسةِ؟ فلو فكَّر الرجلُ في كلِّ شرٍّ يلحقُه مِن العالمِ- أي الشرِّ الحقيقيِّ الذي لا يوجبُ له الرفعةَ والزلفَى مِن الله- وجَد سببَه الإخلالَ بهذه الثلاثِ أو بعضِها، وإلا فمع القيامِ بها فكلُّ ما يحصلُ له مِن النَّاس فهو خيرٌ له، وإن كان شرًّا في الظاهرِ. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين ﴾....أقول ما سمعتم وأستغفر الله.

الخطبة الثانية:

عباد الله: اتقوا الله: واعلموا أن هذه الآية { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وينبغي لكل مسلمٍ أن يجعلها منهجاً يسيرُ عليه في حياته؛ حتى تصفو حياته, ويسعد فيها, قال العلامةُ ابن عثيمن – رحمه الله : (والله لو أننا تعاملنا مع الناس بمقتضى هذه الآية, لوجدتَ صدورنا منشرحة, وقلوبنا مطمئنة, ولكن لجهلنا نريد من الناس أن يعاملونا بما نريد, وهذا غير حاصل, ولهذا من طلب من الناس كل ما يريد فاته كل ما يريد, فخذ هذه الآية يا أخي, وعامل الناس بها حتى يصفو لك الدهر بقدر ما كنت تعامل الناس وتطمئن) أ.هـ.          

قال الشافعيُ – رحمه الله -:

لمّا عفوتُ ولمْ أحقِد على أحدٍ ... أرحتُ نفسيَ من همِّ العداواتِ

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14].     هذا وصلوا رحمكم الله ...

المرفقات

خطبة-خذ-العفو-وأمر-بالمعروف-1441هـ

خطبة-خذ-العفو-وأمر-بالمعروف-1441هـ

المشاهدات 4332 | التعليقات 0