خطبة ثوب الشهرة

الخطبة الأولى : ثوب الشهرة

الحمدُ للـهِ خَلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَه تَقديراً، وأَجرى الأمورَ على ما يشاءُ سُبحانَه حِكمةً مِنهُ وتَدبيراً، أَحمدُه تَعالى وأَشكرُه لم يَزلْ بعبادِه لَطيفاً خَبيراً، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللـهُ وحدَه لا شَريكَ له ربَّاً عظيماً قديراً، وأَشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُ اللـهِ ورسولُه؛ بعثَه بين يدي الساعةِ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسِراجاً مُنيراً، صلى اللـهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه أَعلامِ الـهُدى، ومصابيحِ الدُّجى، ومن سَارَ على نهجِه واقتفى، وسَلَّمَ تَسليماً كثيراً ...  أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي ...

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ : «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إِلاَّ مَنْ عَصَمَهُ اللَّـهُ ». الترمذي .

عباد الله: إن مما حُذِّر عنه في الشرعِ المطهرِ، وجاءَ التحذيرُ من مغبَّته: هو حبُّ الشهرةِ والظهور، فحبُّ الشهرةِ مرضٌ عِضالٌ يورثُ الأنانيةَ وحبَ الذاتِ، والإعجابَ القاضي على معرفةِ عيوبِ النفس ، حبُّ الشهرةِ مظِنَّةُ الانحرافِ، ورُقيةُ الشذوذِ عن الجماعةِ، والاعتدادُ بالرأي، إضافةً إلى اقتفاءِ غرائبِ الأمورِ، وعدمِ الأخذِ بالنصحِ، والرجوعِ إلى الحق.

حبُ الشهرةِ والظهورِ: يكادُ سنا بريقِها يَذهبُ بالأعيانِ، ويريدُ طالبُها أن يكونَ وحيدَ الزَّمانِ، حتى يكونَ النَّجمَ الذي يُشارُ إليهِ بالبَنانِ، ويدفعُ في سبيلِ الوصولِ إليها غاليَ الأثمانِ، لأجلِ أن يكونَ المَشهورَ الذي يُطاردُ من المُعجبينَ في كلِّ مكانٍ .

الشهرةُ سربالُ الهوى، وغربالُ حبِ المخالفة، من اشتهرَ تعرضَ للفتنةِ، ومن تعرض للفتنةِ فسينالُ عجرَها وبُجرَها، قال صلى الله عليه وسلم (مَن لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرةٍ، أَلْبَسَهُ اللـهُ ثوبَ مَذَلَّةٍ يومَ القيامةِ) أحمد وغيره ، فإذا كانَ هذا فيمن لبسَ ثياباً غريبةً ليلفتَ أنظارَ النَّاسِ في الطريقِ، فكيفَ بمن جاءَ بأفكارٍ ضالةٍ مفسدة ، أو مناظرَ إباحيَّةٍ، أو نَعَراتٍ جاهليَّةٍ، ليتكثَّرَ من المُتابعينَ ويُصبحَ حديثَ الملايينِ ليتكسبَ الملايين، قال صلى الله عليه سلم ( إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللـهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللـهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ» ابن ماجة وغيره .

عباد الله: إننا في زمن قُد فُتحَ فيه فضاءُ الإعلامِ على مِصراعيهِ، وأصبحَ الكلُّ يحملُ استديو التَّصويرِ في يديه، ويستطيعُ أن يَطرحَ عُصارةَ أفكارِه وأخلاقِه للجماهيرِ، في كلِّ وقتٍ دونَ رَقابةٍ إعلاميةٍ أو مقصِ رئيسِ التَّحريرِ، ولكنَّ العجيبَ أن يَشتهرَ الكثيرُ بالتَّفاهاتِ والسَّخافةِ، بلا علمٍ ولا فائدةٍ ولا مضمونٍ ولا ثَقافةٍ، والمُتابعونَ بالملايينِ من صِغارٍ وكِبارٍ وبناتٍ وأبناء ، فمن المسئولُ عن هذه الفوضى التي شِابَ مِنها العُقلاءِ؟

فَدَعْ عنْكَ الكِتَابةَ لسْتَ مِنْها *** ولو سوَّدتَّ وجْهَكَ بالمِدَادِ

لقد ظهرَ في زمانِنا من يُطلقُ على نَفسِه بأنَّه: صانعُ مُحتوى، وهو خَالٍ من المُحتوى، فكيفَ لمَنْ لا يَملكُ شيئاً أن يُطفئَ ظَمأَ المَشاهدينَ، فَهلْ لكوبٍ فَارغٍ من المَاءِ، أن يسقيَ عَطشاناً؟

وهَكذا هُم صُنَّاعِ المُحتوى الفارغينَ، الذينَ لا هَمَّ لهم إلا تكثيرُ المُتابعينَ، فبالأمسِ كلمةٌ مُفيدةٌ، واليومَ قِصَّةٌ جَديدةٌ، وفي الغَدِ وقد انتهى المَحتوى الضَّحلُ المُتواضعُ، والمتابعونَ ينتظرونَ طَلَّةَ النَّجمِ السَّاطعِ، فماذا عسى أن يُبدعَ المَشهورُ في جديدِ المَقاطعِ؟ هُنا يبدأُ كَشفُ العوراتِ الحِسيَّةِ والفِكريَّةِ  للمُحافظةِ على الشَّعبيَّةِ الجماهيرِيةِ .

مارأيُّكم-ياكرام- بجاهلٍ في الدِّينِ والتَّاريخِ والآدَابِ، يَفتحُ كلَّ المواضيعِ باباً خلفَ بابٍ؟، لا هَمَّ لأكثِرهم إلا جَمعُ المالِ والشُّهرةُ العَريضةَ، ولو كانَ على حِسابِ الأخلاقِ والفَضيلةِ، يُصوِّرُ كلَّ شيءٍ، وفي كلِّ وقتٍ، لا يمنعُه وازعُ الدِّينِ والحَياءِ "وَلا إِيمَانَ لِمَنْ لا حَيَاءَ لَهُ"، قد أَعمَى عينَه بريقُ الأضواءُ، ولا مانعَ من رؤيةِ المتابعينَ لبعضِ الأسرارِ، وحبذا بعضُ الكَذبِ لجَذبِ الأنظارِ، وأن يُظهرَ للنَّاسِ بأنَّه أَسعدُ النَّاسِ وما سعادتُه إلا كسرابٍ بقيعةٍ يحسبُه الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءَه لم يجدْه شيئا، والمُصيبةُ إذا كانَ المُستهدفُ هم شبابَنا وفَتياتِنا، فَتصلُ المَعلومةُ دُونَ تَحليلٍ إلى العُقولِ، صحيحةً كانتْ أو خُرافةً من مجهولٍ، فأيُّ قِيمٍ تُبنى بِها أرواحُ الأجيالِ، وأيُّ حَضارةٍ نَبحثُ عنها بينَ الأطلالِ؟

إنَّها واللـهِ شَرُّ البليَّةِ وقاصمةُ الظَّهورِ، أن تكونَ الشهرةُ والظهورُ على حسابِ الدِّينِ والأخلاقِ ، وأن يبيعَ المرءُ آخرتَه بدنيا غيرِه ـ وأشدُ من ذلكَ تلك المرأةُ المسلمةُ التي نزعتْ حجابَها وحياءَها فأظهرتْ عورتَها ومفاتنَها فعصتْ أَمرَ ربِّها وخالفتْ شرعَ رسولِها ، قال صلى الله عليه وسلم  ( بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا  ).م ، وفي رواية عند غيرِه (يبيعُ فيها أقوامٌ خَلاقَهم بعَرَضٍ مِن الدُّنيا قليلٍ ) .

عباد الله: من أرادَ الشهرةَ والثَّناءَ وجمعَ المالِ، بالسَّخافةِ والحماقةِ وبعرضِ المفاتنِ والأجسادِ، فليتأملْ في حالِ إبليسَ وفِرعونَ وقارونَ وأبي لهبٍ، فقد أطبقتْ شهرتُهم الآفاقَ وبلغتْ السحاب؟ كيفَ لا، وهم قد ذُكروا في أفضلِ كِتابٍ، وتُتلى الآياتُ بذكرِهم على المنابرِ وفي المِحرابِ، ولكنَّها شُهرةُ الكُفرِ والظُّلمِ والشُّرورِ، فتلعنُهم الأجيالُ على مرِّ العُصورِ، وهكذا سيبقى أُناسٌ قد دخلوا التَّأريخَ من أوسخِ أبوابِه، وستبقى مقاطعُهم وكتاباتُهم تستحي منها الأحفادُ، وستُرجمُ أفكارُهم كما رُجِمَ قَبرُ أبي رِغالٍ، مع مايلحقُ بهم من الإثم والأوزارِ إلى يومِ القرارِ (ليحملوا أوزارَهم كاملةً يومَ القيامةِ ومن أوزارِ الذين يُضلُّونَهم بغيرِ علمٍ ألا ساءَ ما يزرون ) .  و"إنَّ ممَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِن كَلامِ النُّبُوَّةِ، إذا لَمْ تَسْتَحْيِ فافْعَلْ ما شِئْتَ" .خ

ألا فاتقوا اللهَ عبادَ اللـهِ واحذروا من الاغترارِ بالدنيا، فإنها حلوةٌ خضرةٌ غرَّارة، قلَّ من تعلَّق بها فسَلِمَ ( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْـحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى )

بارك الله لي ...

الخطبة الثانية :

الحمد لله...أما بعد :

فيا عباد الله: إن خطورةَ طالبِ الشهرةِ وعاشقِها ليستْ من الأخطارِ القاصرةِ على نفسِ المشتهرِ فحسب؛ بل إَّنها من المخاطرِ المتعديةِ إلى غيرهِ، والخطرُ المتعدِّي أولَى بالرفعِ والدفعِ من الخطرِ القاصرِ، لئلا يتضرَّرَ به الآخرونَ؛ لأن عاشقَ الشهرةِ لو تُرِك له المجالُ فسيُفسِدُ في الآخرينَ من حيثُ يشعرُ أو لا يشعرُ؛ لأن شهرتَه حجَبَت عن الناسِ التأملَ فيما ينشرُه ويلقيِه، بل إنَّ شهرتَه ستوجدُ له أتباعًا وأشياعًا من لدن الأغرارِ من الناسِ ودهماءِ المجتمعاتِ. يقولُ ابنُ قتيبةَ "والناسُ أسرابُ طيرٍ يتبعُ بعضُهم بعضًا، ولو ظهرَ لهم من يدَّعِي النبوةَ مع معرفتِهم بأنَّ رسولَ اللـهِ صلى الله عليه وسلم خاتمُ الأنبياءِ، أو يدَّعِي الربوبيةَ لوَجَد على ذلكَ أتباعًا وأشياعًا" انتهى كلامه.

أيُّها الأحبةُ: الأمَّةُ مُستَهدفةٌ في أغلى ما تملكُ، في دِينِها، وفي تأريخِها، وفي لُغتِها، وفي بلادِها، وفي ولاتِها، وفي علمائِها، وفي نسائِها، وفي أبنائِها وبناتِها، فنحتاجُ إلى تَوعيةٍ بمصادرِ الأخطارِ، ونُريدُ تَوضيحاً لمكائدِ الأشرار، ونتمنى تَذكيراً بعداوةِ المنافقينَ والفجارِ ، نَطمحُ أن يأتي مَن يجددُ في قلوبِنا الإيمانَ والدِّين، ويُحيي في قُلوبِنا تُراثَنا الأصيلَ، ويُحدِّثُنا عن تأريخِنا الجَليلِ، ويبعثُ في نفوسِنا الأملَ الجميلَ، ويُذكِّرُنا بوَعدِ اللـهِ لنَّا بالتَّبديلِ: (وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَـهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَـهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا).

ثم صلوا ...

المرفقات

1643355802_خطبة ثوب الشهرة-.pdf

1643355802_خطبة ثوب الشهرة-.doc

المشاهدات 1009 | التعليقات 0