خطبة : (تنفير الغافي من تيسير الجافي)

عبدالله البصري
1433/12/02 - 2012/10/18 20:54PM
تنفير الغافي من تيسير الجافي 3 / 12 / 1433





الخطبة الأولى :



أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِنَ القَضَايَا الَّتي تَبرُزُ في كُلِّ عَامٍ وَخَاصَّةً في مَوسِمِ الحَجِّ ، قَضِيَّةُ التَّيسِيرِ وَالتَّخفِيفِ في الفَتوَى ، وَتَلَمُّسُ الآرَاءِ وَتَتَبُّعُ الرُّخَصِ .
ولا يَشُكُّ مُسلِمٌ أَنَّ هَذَا الدِّينَ العَظِيمَ ، مَبنيٌّ عَلَى اليُسرِ وَالتَّخفِيفِ ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ قَد جَاءَت بِالرَّحمَةِ وَنفيِ الحَرَجِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُم "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " هُوَ اجتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسًا إِلاَّ وُسعَهَا "
وَقَد وَصَفَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ رَسُولَهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بِقَولِهِ : " لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ "
وَقَد كَانَت حَيَاتُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَولاً وَفِعلاً وَخُلُقًا وَتَعَامُلاً وَتَوجِيهًا ، تَطبِيقًا لِهَذَا المَنهَجِ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ الدِّينَ يُسرٌ ، وَلَن يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ اللهَ لم يَبعَثْني مُعَنِّتًا وَلا مُتَعَنِّتًا ، وَلَكِنْ بَعَثَني مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَقَالَ : " هَلَكَ المُتَنَطِّعُونُ ، هَلَكَ المُتَنَطِّعُونُ ، هَلَكَ المُتَنَطِّعُونُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَينَ أَمرَينِ إِلاَّ اختَارَ أَيسَرَهُمَا مَا لم يَكُنْ إِثمًا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
إَذَا تَقَرَّرَ هَذَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَإِنَّ لا مَعنى لاستِثقَالِ المُسلِمِ لأَيِّ أَمرٍ أَو نَهيٍ دَلَّ عَلَى أَحَدِهِمَا دَلِيلٌ شَرعِيٌّ ، ثُمَّ البَحثُ عِندَ البَشَرِ عَن مَخرَجٍ لِلتَّفَلُّتِ مِنهُ وَإِتبَاعِ النَّفسِ هَوَاهَا ، وَلَكِنَّنَا في زَمَنٍ دَرَجَ عَدَدٌ مِنَ المُفتِينَ وَالمَفتُونِينَ ، عَلَى التَّسَاهُلِ في كَثِيرٍ مِن أَحكَامِ الدِّينِ ، مُدَّعِينَ أَنَّهُم في ذَلِكَ يَسلُكُونَ سَبِيلَ التَّيسِيرِ ، غَافِلِينَ أَو مُتَغَافِلِينَ ، عَن أَنَّ لِلتَّيسِيرِ ضَوَابِطَ تُنَظِّمُهُ وَأُسَسًا تَضبِطُهُ ، حَتى لا يَكُونَ مَدعَاةً لِلتَّفَلُّتِ مِن الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ وَالتَّقصِيرِ في الوَاجِبَاتِ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ التَّيسِيرَ لَيسَ كَلأً مُبَاحًا لِكُلِّ مَن شَاءَ ، لِيَتَوَسَّعَ في الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ كَيفَمَا يَشَاءُ وَمَتى شَاءَ ، وَلَكِنَّهُ يَجِبُ أَن يَكُونَ ثَابِتًا بِالكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ ، لا بِحَسَبِ الهَوَى وَالتَّشَهِّي وَاستِحسَانِ العِبَادِ أَوِ استِقبَاحِهِم ، كَمَا لا يَجُوزُ أن تُتَجَاوَزَ النُّصُوصُ في الأَخذِ بِهِ وَيُبَالَغَ في الاستِزَادَةِ في التَّخفِيفِ وَالتَّيسِيرِ فَوقَ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ كَمًّا أَو كَيفًا ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ كُلَّ تَيسِيرٍ لا يَستَنِدُ إِلى الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ استِجَابَةٌ لِضَغطِ الوَاقِعِ القَائِمِ في مُجتَمَعَاتٍ صَنَعَتهُ غَفلَتُهُم وَضَعفُهُم وَعَدَمُ قِيَامِهِم بِالوَاجِبِ عَلَيهِم ، فَإِنَّمَا هُو تَميِيعٌ لِلدِّينِ وَمُعَارَضَةٌ لِلنُّصُوصِ ، وَالمُتَقَرِّرُ عِندَ عَامَّةِ المُسلِمِينَ فَضلاً عَن عُلَمَائِهِم ، أَنَّهُ لا اجتِهَادَ مَعَ النَّصِّ ، وَأَنَّ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ هما مَصدَرُ هَذَا الدِّينِ وَأَسَاسُهُ ، وَالحَاكِمَةُ عَلَى بَقِيَّةِ الأَدِلَّةِ وَالأُصُولِ الشَّرعِيَّةِ ، مِن قِيَاسٍ وَاجتِهَادٍ وَغَيرِهِمَا ، وَالَّتي إِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لِهَذَينِ الأَصلَينِ ، فَمَتى حَصَلَ تَعَارُضٌ بَينَ النُّصُوصِ وَالأُصُولِ الأُخرَى ، وَجَبَ المَصِيرُ إِلى النَّصِّ ، وَعَدَمِ التَّقَدُّمِ بَينَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، بِحُجَّةِ أَنَّ العَقلَ يَرَى أَنَّ مِنَ التَّيسِيرِ فِعلَ هَذَا الأَمرِ أَو الأَخذَ بِذَاكَ القَولِ ، وَالعُقُولُ تَختَلِفُ ، وَمَا يَرَاهُ بَعضُ النَّاسِ عَسِيرًا قَد لا يَرَاهُ غَيرُهُ كَذَلِكَ ، وَمَا قَد يَحكُمُ عَالمٌ أَو طَالِبُ عِلمٍ بِمَشَقَّتِهِ وَصُعُوبَةِ الإِتيَانِ بِهِ ، قَد لا يَكُونُ كَذَلِكَ عِندَ آخَرَ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِذَا كَانَ العُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ قَد حَذَّرُوا مِنَ الغُلُوِّ في الدِّينِ وَمَنَعُوا مِنَ التَّشَدُّدِ وَالتَّنَطُّعِ ، فَقَد حَذَّرُوا كَذَلِكَ مِنَ التَّسَاهُلِ وَالتَّفرِيطِ ، إِلاَّ أَنَّ بَعضَ المُتَعَالِمِينَ ممَّن قد يَرَاهُمُ النَّاسُ عُلَمَاءَ ، جَعَلُوا لأَنفُسِهِم في التَّيسِيرِ مَنهَجًا لم يَعرِفْهُ العُلَمَاءُ الأَتقِيَاءُ ، فَشَابَهُوا بِذَلِكَ بَعضَ المُنَافِقِينَ وَالمُندَسِّينَ في صُفُوفِ المُسلِمِينِ ، ممَّنِ اتخَذُوا التَّيسِيرَ بَابًا يَتَسَلَّلُونَ مِنهُ لِيَنَالُوا مِنَ الشَّرِيعَةِ ، وَيُعَطِّلُوا نُصُوصَهَا القَطعِيَّةَ الثَّابِتَةَ ، حَتى انزَلَقَ بِهِم حُبُّ التَّيسِيرِ وَالمُبَالَغَةُ فِيهِ إِلى مُخَالَفَةِ الثَّوَابِتِ ، فَانطَلَقُوا يُحلِّلُون وَيُحرِّمُونَ بِإِملاءِ نُفُوسِهِمُ الضَّعِيفَةِ وَحُكمِ عُقُولِهِمُ القَاصِرَةِ ، بِحُجَّةِ مَوَاكَبَةِ العَصرِ وَمُسَايَرَةِ الوَاقِعِ حِينًا ، وَتَقدِيمِ المَصلَحَةِ العَامَّةِ وَسُلُوكِ الحِكمَةِ حِينًا آخَرَ ، وَكَأَنَّهُم بِذَلِكَ يَجهَلُونَ أَنَّ الشَّارِعَ الحَكِيمَ جَاءَ بِمَصَالحِ العِبَادِ في دُنيَاهُم وَأُخرَاهُم ، وَأَنَّ نُصُوصَهُ جَاءَت مُحَقِّقَةً لِتِلكَ المَصَالحِ ابتِدَاءً ؛ وَأَنَّ الحُكمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا ، وَلَيسَ مَعَ حِكمَتِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ العِلَّةَ ظَاهِرَةٌ وَوَاضِحَةٌ ، وَهِيَ وَصفٌ مُنضَبِطٌ ، في حِينِ أَنَّ الحِكمَةَ قَد تَكُونُ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً ، وَقَد لا تَتَّضِحُ وَلا تَظهَرُ ، وَهِيَ غَالِبًا مَا تَرجِعُ إِلى تَقدِيرِ النَّاسِ ، وَالنَّاسُ يَختَلِفُونَ في تَقدِيرِ المَصَالحِ ، بَل قَد يَصِلُ الفَسَادُ بِعُقُولِهِم إِلى عَدَمِ التَّفرِيقِ بَينَ اليُسرِ الحَقِيقِيِّ ، وَبَينَ النُّزُولِ عِندَ اللَّذَّاتِ وَالشَّهوَاتِ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد خَرَجَ ادِّعَاءُ التَّيسِيرِ بِأُنَاسٍ عَن طَلَبِ اليُسرِ وَرَفعِ الحَرَجِ ، إِلى أَن جَعَلُوا كُلَّ مَا يُخَالِفُ أَهوَاءَهُم أَو يُعَارِضُ مَصَالِحَهُم مَشَقَّةً يَطلَبُونُ لها التَّيسِيرَ ، غَافِلِينَ عَن أَنَّ الشَّارِعَ الحَكِيمَ لم يُقَابِلِ المَشَقَّةَ النَّاتِجَةَ عَنِ مُخَالَفَةِ الهَوَى بِاليُسرِ وَالتَّسَامُحِ ، بَل عَدَّ اتِّبَاعَ الهَوَى خَطَأً في السُّلُوكِ وَضَلالاً عَن سَبِيلِ اللهِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ بما نَسُوا يَومَ الحِسَاب "

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلا يَغُرَّنَّكُم مَن غَلَّبُوا جَانِبَ التَّيسِيرِ المَزعُومِ في كُلِّ حَالٍ بِلا قَيدٍ وَلا شَرطٍ ، وَأَهمَلُوا جَانِبَ التَّرهِيبِ وَالعَزَائِمِ الثَّابِتَةِ في الشَّرِيعَةِ ، أَو أُولَئِكَ الَّذِينَ لا هَمَّ لهم إِلاَّ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ في كُلِّ مَذهَبٍ ، وَاتِّخَاذُ الخِلافِ في المَسَائِلِ مُسَوِّغًا لاختِيَارِ المَرءِ أَيسَرَهَا أَو أَخذِهِ مَا يَشَاءُ ، فَإِنَّ الخِلافَ في أَيَّةِ مَسأَلَةٍ لا يُسَوِّغُ لِلنَّاسِ أَن يَأخُذُوا فِيهَا بِقَولِ مَن شَاؤُوا ، وَاليُسرَ في الإِسلامِ لَيسَ غَايَةً في ذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ تُعِينُ عَلَى تَحقِيقِ الغَايَةِ العُظمَى وَالهَدَفِ الأَسمَى ، بِعِبَادَةِ اللهِ وَحدَهُ وَطَاعَتِهِ ، وامتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجتِنَابِ نَوَاهِيهِ ، وَالخُضُوعِ لَهُ وَالاستِسلامِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، أَمَّا تَلَمُّسُ التَّخفِيفِ وَتَتَبُّعُ الرُّخَصِ ، وَالبَحثُ عَن مَوَاطِنِهَا وَانتِقَاؤُهَا ، بِدعوَى أَنَّهُ لا حَرَجَ في الدِّينِ ، فَذَلِكَ خَطَأٌ وَضَلالٌ عَنِ السَّبِيلِ ، وَشَرعُ اللهِ ـ تَعَالى ـ تَامٌّ كَامِلٌ ، وَأَحكَامُهُ يُسرٌ كُلُّهَا ، وَأَمَّا المَشَقَّةُ المُعتَادَةُ المَألُوفَةُ ، الَّتي لا تُشَوِّشُ عَلَى النُّفُوسِ في تَصَرُّفِهَا وَلا تُذهِلُهَا عَن صَوَابِهَا ، فَهِيَ مُلازِمَةٌ لِسَالِكِ طَرِيقِ الجَنَّةِ وَلا بُدَّ ، قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُم وَيَعلَمَ الصَّابِرِينَ "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلبَابِ . رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذْ هَدَيتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ . رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَومٍ لَا رَيبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخلِفُ المِيعَادَ "







الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ . وَاعلَمُوا أَنَّ الغُلُوَّ وَالتَّشَدُّدَ الحَاصِلَ حَقِيقَةً أَوِ المَزعُومَ حُدُوثُهُ في بَعضِ الأَحيَانِ ، لَيسَ مَدعَاةً لِلاتِّجَاهِ بِالنَّاسِ إِلى مُنزَلَقِ التَّيسِيرِ غَيرِ المُنضَبِطِ ، بَل لا بُدَّ مِنَ التَّوَازُنِ وَالتَّوَسُّطِ ، وَأَخذِ أَحكَامِ الشَّرِيعَةِ بِالجِدِّ وَالقُوَّةِ وَالعَزِيمَةِ ، وَأَطرِ النُّفُوسِ على تَقوَى اللهِ وَتَعظِيمِ شَعَائِرِهِ وَحُرُمَاتِهِ " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ " " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ "
إِنَّ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يُطَوِّعُوا وَاقِعَهُم عَلَى مَا يُرضِي رَبَّهُم ، لا أَن يَستَسلِمُوا لِوَاقِعٍ لم يَصنَعُوهُ بَإِرَادَتِهِم ، وَلم يَكُنْ سَبَبُهُ إِلاَّ ضَعفَ تَمَسُّكِهِم بِعَقِيدَتِهِم وَشَرِيعَتِهِم ، إِنَّ الوَاقِعَ يَجِبُ أَن يُطَوَّعَ لِلنُّصُوصِ لا أَن تُمَيَّعَ النُّصُوصُ تَحتَ ضَغطِ الوَاقِعِ ، فَهِيَ المِيزَانُ المَعصُومُ الَّذِي يُحتَكَمُ إِلَيهِ وَيُعَوَّلُ عَلَيهِ ، وَأَمَّا الوَاقِعُ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ وَيَتَبَدَّلُ ، وَلا ثَبَاتَ لَهُ وَلا عِصمَةَ " وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلَا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد كَانَ سَلَفُكُم يَحرِصُونَ في عِبَادَاتِهِم عَلَى تَتَبُّعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ خَطوَةً بِخَطوَةٍ ، وَيَتَحَرَّونَهَا بِاهتِمَامٍ شَدِيدٍ وَدِقَّةٍ ، وَأَمَّا اليَومَ فَقَد ضُيِّعَت كَثِيرٌ مِنَ الوَاجِبَاتِ فَضلاً عَنِ السُّنَنِ ، بِحُجَّةِ جَلبِ التَّيسِيرِ وَرَفعِ الحَرَجِ وَدَفعِ المَشَقَّةِ ، وَتِلكَ ـ وَاللهِ ـ عَلامَةُ الفِتنَةِ ، قَالَ حُذَيفَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ : إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُم أَن يَعلَمَ أَصَابَتهُ الفِتنَةُ أَم لا ، فَلْيَنظُرْ ، فَإِنْ كَانَ رَأَى حَلالاً كَانَ يَرَاهُ حَرَامًا ، فَقَد أَصَابَتهُ الفِتنَةُ ، وَإِنْ كَانَ يَرَى حَرَامًا كَانَ يَرَاهُ حَلالاً فَقَد أَصَابَتهُ . رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهبيُّ . فَاللَّهُمَّ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعدَئِذْ هَدَيتَنَا ، وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ ، وَيَا مُصَرِّفَ القُلُوبِ وَالأَبصَارِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ ، اللَّهُمَّ اهدِنَا صِرَاطَكَ المُستَقِيمَ وَثَبِّتْنَا عَلَيهِ حَتى المَمَاتِ ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ .
المشاهدات 3219 | التعليقات 3

الخطبة على ملف ( وورد )

المرفقات

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/تنفير%20الغافي%20عن%20تيسير%20الجافي.doc

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/تنفير%20الغافي%20عن%20تيسير%20الجافي.doc


جزاك الله خيرا يا شيخ عبد الله،

خطبة موفقة، ومؤصلة، وفي وقتها المناسب، فهذا الموضوع يطرح بقوة في وسائل الإعلام في أيام الحج من كل عام.


جزاك الله خيرا
شيخنا عبدالله لو سمحت لي فإنني واحد ممن يستفيد من خطبكم الرائعة التي تتحفوننا بها ولكن في الأسابيع الأخيرة لم تعد تنزل خطبك إلا في وقت متأخر ومراعاة لإخوانك خصوصا مع فوارق التوقيت أن تنزلها يوم الخميس فضلا لا أمرا
أسأل الله أن يجعلها في موازين حسناتك