خطبة: تأملات في سورة الليل

عبد الرحيم المثيلي
1444/03/03 - 2022/09/29 17:10PM

الخطبة الأولى

الحمدُ لله بفضله ورحمته اهتدى المُهتدونَ، وبعدلِهِ وحكمَتِهِ ضلَّ الضَالونَ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسألونَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، ترَكنا على مَحجَّةٍ بَيضَاءَ لا يزيغُ عنها إلاَّ أهُلُ الأهواء ِوالظُّنونِ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يومٍ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنونَ إلاَّ مَنْ أتى اللهَ بِقلبٍ سَلِيمٍ.

أما بعد: فاتقوا الله – عباد الله - ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[ [آل عمران: 102].

أيها المسلمون: نردد كثيراً بعض قصار السور القرآنية، ولكنَّ لا نتدبر معانيها, وإن من أعظم مقاصد إنزال القرآن الكريم تدبرَ آيته ]كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ[. وسنقف اليومَ وقفاتٍ يسيرة مع سورة قصيرة.. سورة الليل.

يقول الله تبارك وتعالى في مطلع هذه السُورة: ]وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ^ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ^ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ^ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى[

يُقسم اللهُ جلَّ وعلا بالزمان الذي تقع فيه أفعالُ العباد على تفاوت أحوالهم؛ فيقسم بالليل إذا عمَّ الوجودَ بظلامه؛ فيسكن كلٌ إلى مأواه ومسكنِه، ويستريحُ العبادُ من الكد والتعب, ثمُ يقسم بالنهار إِذَا تَجَلَّى للخلق؛ فاستضاءوا بنوره، وانتشروا في مصالحهم, ثم يُقسمُ بخلقه للذكر والأنثى، وكمال حكمته في ذلك الخلق أن خلق من كل ِصنفٍ من الحيوانات التي يريد بقاءها ذكرًا وأنثى، ليبقى النوع ولا يضمحل، فجعل كلا منهما مناسبًا للآخر، فتباركَ اللهُ أحسنُ الخالقين.

ثم بعد هذا القسم يأتي جوابُ القسم: ]إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى[ إن سعيكم أيها الناسُ, أيها العبادُ, لمتفاوتٌ تفاوتاً كبيرا، وذلك بحسب تفاوت الأعمال, ومقدارها, والنشاط فيها، وبحسب الغاية المقصودة من تلك الأعمال، هل عُملت لوجه الله؟ فيبقى السعي له ببقائه، وينتفع به صاحبه، أم عُملتُ تلك الأعمال لغاية دنيوية فانية؛ فيبطل السعي ببطلانها، ويضمحل باضمحلالها؟ عياذاً بالله ..

ثم قال تعالى مفصلاً أحوال العباد: ]فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ^ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ^ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ^ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ^ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ^ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[. فهذان صنفان من الناسِ, وشتّان بين الصنفين..

صنفٌ آمن باللهِ ربا, وأيقن باليومِ الآخرِ والحساب؛ فاتقى الله حق التقوى فأطاع فيما أمر به, وانتهى عن ما نهي عنه, وأعطى من ماله ما أمر الله به من العبادات المالية كالزكوات، والكفارات, والنفقات، والصدقات، والإنفاق في وجوه الخير. عَلِمَ أنَّ المال مالُ الله يؤتيه من يشاء اختبار, وابتلاء كما قال الله: ]وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[ [الأنبياء: 35].

]وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى[ صدق بالمثوبةِ والجزاء, والخلف من الله فيما أنفق في سبيل الله, صدق بالجنة, ونعيمها, صدق بموعود الله؛ فالله يقول: ]لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ [يونس: 26]. فما جزاءُ هذا الصنفِ من الناس؟! قال الله: ]فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[ نُسهّل عليه أمره، ونجعله ميسراً له كل خير، ميسرًا له ترك كل شر، لأنه أتى بأسباب التيسير؛ فيسر الله له ذلك. آمن واتقى وصدق بالحسنى فيسر الله أمره, ويسر الخير له. اللهم اجعلنا من هؤلاء يا ربَّ الأرض والسماء.

أما الصنفُ الآخر من الناس: فصنفٌ شقي, سلك أسباب الشقاء فنال بذلك الجزاء

]وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى[ بخل بماله وجاهه, بخل بما أمر به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله، وهل اكتفى بذلك؟ كلا

بل (بخل وَاسْتَغْنَى) استغنى عن الله؛ فترك عبوديته وطاعته، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها، الذي لا نجاة لها ولا فوز ولا فلاح إلا بأن يكون هو محبوبها ومعبودها، الذي تقصده, وتتوجه إليه.

نسي الذي خلقه من ماءٍ مهين, ثم سواه, ونفخ فيه من روحه, وجعل له السمع والبصر, وأعطاه المال فما شكر, ]كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)[ إلى أين ستفر أيها المسكين ]إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) [ [العلق: 6 - 9]

وهل اكتفى بتلك الموبقات التي اقترفها؟ كلا . قال الله: ]وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى[ كذَّب بِالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ, كذَّب بمثوبة الله, وموعوده, وجنته.

غرَّه المالُ الذي في يدِه, غرَّته صحتُه وقوته, فما جزاء هذا الصنفِ من الناس؟!

قال الله: ]فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[ فيعسرُ عليه أمرُه, ويُهدى للحالة العسرة، والخصال الذميمة، فيكون ميسرًا للشر أينما كان، ومقيضًا له أفعال المعاصي، نسوا الله فنسيهم, وأنساهم أنفسهم, ووكلهم إلى حولهم, وقوتهم. نسأل الله العافية والسلامة.

فهل سيغني عنه ماله شيئاً إذا قدم على الله؟ لا والله ]وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى[ فإنه إذا هلك ومات لا يصحبه إلا عمله, وأما ماله؛ فإنه يكون وبالاً عليه، إذ لم يقدم منه لآخرته شيئًا.

أيها المؤمنون: ولما ذكر الله سبحانه هذين الصنفين من الناس أخبر أنه قد بيّن لهم طريق الخير فأعرض أولئك عن الاهتداء باختيارهم, وسلك هؤلاء طريق الخير باختيارهم.

]إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى[ بيّنت لهم طريق الهدى الذي يوصل إلى الله، ويدني من رضاه، وأما الضلال، فطرق مسدودة عن الله، لا توصل صاحبها إلا للعذاب الشديد.

]وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى[ فالحياة الدنيا, والحياة الآخرة ملكٌ لله لا حكم فيها إلا له سبحانه, ليس له فيهما مشارك، فليرغب الراغبون إليه في الطلب، ولينقطع رجاؤهم عن المخلوقين.

ثم حذّر الله عباده رأفةً ورحمةً بهم؛ فقال: ]فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى[ أي: تستعر وتتوقد. ]لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى ^ الَّذِي كَذَّبَ – بالخبرِ – وَتَوَلَّى – عن الأمر[

]وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى[ وسَيُبعدُ عن النار الأتقى الذي بلغ الكمال في التقوى, الذي من صفته يعطي من ماله يبتغي بذلك تزكيةَ نفسه، وتطهيرها من الذنوب والعيوب، قاصدًا به وجه الله تعالى.

]وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى[ ليس لأحدٍ من الخلق على هذا الأتقى نعمةٌ سابقة يكافئه عليها، ولكنه يعطي ابتغاءَ مرضاة الله قاصداً بذلك ما عند الله. ولذلك قال الله: ]وَلَسَوْفَ يَرْضَى[ ما أعظمه من وعدٍ !!

والله أكرم من وعد, وأصدق من وفى!! سبحانه وبحمده.

أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

عباد الله: في هذه السورة العظيمة دروسٌ وعبر؛ فلنلتمس بعض هذه الدروس, ونستلهم ما فيها من العبر:

أولاً: لا قيمة للعمل بلا نية؛ فكم من باذل ماله وجهده وجاهه، وكم من مسابق إلى صنائع المعروف، ومصاول في ساحات الجهاد ليس له من ذلك إلا النصب والتعب، والحسرة والندامة !! لأنَّ الإخلاص مفقود، والسُّنة غائبة.

ثانياً: ما عند الله لا يطلب إلا برضاه؛ فلا ينبغي لعبد أن يطلب الإعانة والتيسير وهو منهمك في معاصيه سادر في غيه, فذلك من العجز والخذلان، ومن سفاهة عقله, وقلة علمه. بل لابد من الأخذ بالأسباب, وسلوك طرائق الخير, ومناهج الفلاح مع دعاء الله ورجائه, وتفويض الأمر إليه سبحانه.

ثالثاً: أن أحقَّ الناس بدخول الجنة هو الأتقى, وأحقَّ الناس بدخول النار هو الأشقى, وما بين الأتقى والأشقى درجاتٌ ومفاوز؛ فجاهد النفس على بلوغ الدرجات العلى, واصرفها عن دركات الشقاء.

رابعاً: إذا ضعفت نفسك عن العمل؛ فتذكر قول الله (ولسوف يرضى) قف عند هذه الآية كثيراً تأمل في معانيها, واعمل من أجلها فوالله إنه لوعدٌ حق من ربٍّ كريم.

المرفقات

1664460644_تأملات في سورة الليل.doc

1664460644_تأملات في سورة الليل.pdf

المشاهدات 2469 | التعليقات 0