خطبة بعنوان (محبة الله) للشيخ د. إبراهيم العجلان
الفريق العلمي
29/5/1441هـ
عباد الله:
خَلَقَ اللهُ النَّفْسَ البشريةَ نزَّاعةً إلى الحبِّ، فَما مِنْ قَلْبٍ إلَّا وهُوَ يُحبُّ وَيَهْوَى، ويَعْشَقُ ويَجْوَى.
وللنَّاس معَ هذا الحبِّ مَذَاهِبُ وأَشْكالٌ، ولهم فيها قَصَصٌ وأَمْثَال.
لنْ نُحَدِّثَكُم عن هوى السَّماع والنَّظَراتِ، وَلا عَنْ الحبِّ الكاذبِ في الأَفْلامِ والمسلسلات، ولا عَنْ حُبِّ الميولِ والهوايات.
وإنما سيكونُ الحديثُ عن حُبٍّ في القلبِ غائر، وَتَوَلُّهٍ في الوجدانِ لا يُغَادِر.
حتى يكونَ ذلك الحبُّ في الضمير، عَمَلٌ صالحٌ يُتَقَرَّبُ به إلى اللطيفِ الخبير.
عن عبودية الحبِّ نتحدَّث اليوم، حبُّ من ؟
حبُّ ربِّ البريات، فاطرِ الأرضِ والسموات.
فيا سَعْدَ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ هذا الحبِّ، وَيَا حظَّ مَنْ أَخَذَ بِنَصِيبٍ وَافِرٍ مِنْ ذلكمْ الوِد.
مَنْ لَاَمَسَ بشاشةَ قلبِه هذا الحبُّ صدقاً تَلذَّذَ بالطاعة، وَأَنِسَ بالعِبَادة، وذاق طعم الإيمان، وما أجملَ طَعْمَ الإيمان، الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيِه وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوةَ الإيمان، _ وذَكَرَ مِنْها _: مَنْ كان اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سواهما).
محبةُ اللهِ تعالى هي عمودُ التَّوحيدِ، وأَسَاسُ الانقياد، وعِمَادُ الثَّبات.
الحياةُ في ظِلَالِها نُورٌ وَحَياةٌ، وقَلْبٌ لَا يَرْتَوي مِنْ لَذَّتِهِا فهو مِنْ جُمْلَةِ الأَمْوات.
مَنْ حَازها هَانَ عليه مَفْقودٍ، وَمَنْ حُرِمَها فَاتَه أغلى نعيمٍ موجود.
طَلَبَ محبةِ اللهِ ابْتَهَلَ بها خيرُ السائلين، وأَصْدقُ العابدين صلى الله عليه وسلم فكان يقول: (أَسأَلك حَبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَحْبُكُ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حبك )، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ونقل عن البخاري تصحيحه.
يا من تاقتْ قلوبُهُم لمحبةِ الله، القلوبُ مجبولةٌ على محبةِ مَنْ أَحْسَنَ إليها، وَلَا أَحَدٌ أَعْظَمَ إحساناً من الله، فَصُوَرُ إحسانِهِ تَتَجَدَّدُ مع كلِّ لحظة ونفَس، (وما بكم من نعمة من الله).
نِعَمٌ في إثْر نِعَم، تغمر عباده ليلا ونهاراً، سراً وجِهارا.
كيف لا يُحَبُّ الله تبارك وتعالى وقد خلقنا من العدم، وحفَّنا بالنِّعم، وأسبغ علينا من العطايا والكرم ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾.
نِعَمٌ تدَّفق علينا، من فوقنا ومن تحتنا، (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)؛
أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، ، وهدانا للدينِ القَيِّم، غذاء وكساء، وهواء وماء، سمع وعينان، لسان وشفتان، ويدان ورجلان، فبأيِّ آلاء ربكما تكذبان.
كيف لا يُحَبُّ تبارك وتعالى وهو يسدي إليك ولا يمنع، ولا ينتظر منك جزاء ولا يطمع، يعطيك عطاء كثيراً بلا مقابل، ويتفضل عليك وأنت المحتاج إليه والمجادل.
كيف لا يُحَبُّ الملك سبحانه، وهو الذي يكلؤنا بعنايته، وهدانا لدينه وشريعته، ويسَّرَ لنا فيها اليسرى، وأبعد عنها الآصال والعسرى.
كيف لا يُحَبُّ العظيمُ علامُ الغيوب، وقد وعدَ عبادَهُ مغفرةَ الذنوب، وسَتْرَ العيوب، لمن تاب وآمن وسلك خير الدروب.
كيف لا يحب الغفور الشكور، الذي يشكر عبده، فيعطي على الحسنة حسناتٍ بالمئات، ويكافئُ بالأجورِ الكثيرة على يسير الطاعات، ويعفو عن الخطايا والسيئات، بمجرد لحظة ندم وانكسار، وتوبة واستغفار، ويمحو عن عبده كثيراً من السيئات بطاعات بالليل أو النهار.
كيف لا يُحَبُّ تبارك وتعالى وهو أرحم بنا من أمهاتنا؛ فلا يَهْلِكُ عليه إلا هالك، كفر به المشركون ونسبوا إليه البهتان والولد، وجعلوا معه شريك وأحد، فناداهم الواحد الأحد: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾.
يَصْبِرُ على عبادِهِ رغمَ كفرِهم وشرِكِهِم، ثمَّ هو بكرمه يعافيهم ويرزقهم.
كيف لا يُحَبُّ الجليل الجميل، وكلُّ شيءٍ جميل فهو منه وفيه، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، والأفعال المثلى، فلا جمالَ يوازيه، ولا حُسْنَ يشاكله، وإذا تأمل العبد أسماء الله، واستحضر جميل صفاته أورثه ذلك أنساً لربه الكريم، وحباً لخالقه العظيم، وقرباً من الحليم العليم.
كيف لا يُحبُّ الرحيم الغفور، وقد أغاظ إبليس من أجلنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس قال: أي رب، لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال: فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني). أخرجه الإمام أحمد وغيره وصححه الألباني.
كيف لا يُحبُّ تبارك وتعالى وقد سبقت رحمته غضبه؛ ولما فرغ من خلق الله الخلق كتب عنده فوق العرش: (إن رحمتي تغلب غضبي).
فرحمته وسعت كل شيء، ولو بلغت ذنوب عبده عنان السماء، ثم أقبل نادما بعد ما أساء، لغفر الله ولم يبالِ، فسبحان القائل جل جلاله: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾.
كيف لا يُحبُّ سبحانه، ومستقبلُ العبدُ ونعيمُهُ وخلودُهُ فيه هو بيده سبحانه، فجنة الرحمن، فيها وفيها من النَّعيمِ والرَّيْحان، ما لا يخطر بقلبٍ ولا يحوم فيه جنان، أُعِدَّتْ لك أنتَ أنتَ أيها الإنسان، إذا حققت التوحيد والعمل الصالح والإيمان، فبشراك هذا النعيمُ الوارف، والوعدُ الصادقُ غير الزائف، وأعظم نعيم فيها، هو النظر إلى من أحببته في دنياك، ولم تره في حياتك بعيناك.
فوالله لو ذابت القلوب في أجوافها، وتفتت الأكباد في أحشائها، حباً وشوقاً إلى خالقها وبارئها، لما كانت وربي ملومة في غرامها وهيامها.
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاةُ مَرِيرَةٌ وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ وَبَيْنِي وَبَيْنَ العَالَمِينَ خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ
أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم ......
الخطبة الثانية
أما بعد فيا إخوة الإيمان، وإذا كانت محبة الله من أجل العبادات القلبية، وأهم محرِّك نحو الطاعات الإيمانية، يبقى السؤال الأهم:
كيف نعرف مقدار محبة الله في صدورنا وقلوبنا ؟.
فمحبة الله ليست دعوى يُتكثر بها، ولا انتساباً يفتخر به، بل لها دلائل وعلامات، وسِماتٌ وأمارات، إذا وجدها العبد في نفسه، فهذا مؤشِّر على نبضات المحبة في قلبه.
فمن أحب الله تعالى صدقاً أحبَّ رسلَه وأنبياءَهُ، وملائكتَه وكتبه وأولياءَهُ، وأحب دينَه وتشريعاتِه، ووالى فيها، وعادى من أجلها.
من أحب الله حقاً، أحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وأحب هديه وسُنَّتَهُ، وسارَ على نهجه واتَّبعَ ملَّتَهُ {قُلْ أن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}.
ومن أحب الله لم يفْتُرْ لسانه ووجدانه من مراقبة الله، فذكر وتذكر عظمة ربِّه، قياماً وقعوداً وعلى جنبه.
إذا نُقِشَتْ محبةُ الله في قلب العبد تحرَّكت همَّته لفعل الخيرات، فيفرح بالصلاة، ويأنس بالذكر، ويشتاق للصيام، ويتخذ من القرآن جليسه وأنيسه.
من أحب الله من قلبه، جاهد نفسه في مجافاة الذنوب، واستحى من المجاهرة بالخطايا والعيوب، وإذا أزَّتْهُ نفسه للهوى تذكر حبيبه علام الغيوب.
تَعْصِي الإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّـهُ هَذَا مُحَالٌ فِي القِيَاسِ بَدِيـعُ
لَـوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًـا لأَطَعْتـَهُ إِنَّ الـمُحِبَّ لِـمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
ومن أحب الله تلمَّس صالح الأعمال، التي يحبها صاحب الجلال والكمال، فربه الكبير المتعال يحب التوابين والمتطهرين، والمتقين والمحسنين، والصابرين والمتوكلين، والشاكرين والمتصدقين.
ومن أحب الله ذا الجلال والإكرام، هجر الفراش والمنام، وتوضأ وصفَّ مع من قام.
ومن أحب الله شكر النعم، وأطاب الكلم، وأكثر من الصيام، وصلى بالليل والناس نيام، وأحسن تعامله مع الأنام.
ومن أحب الله تقاصر في قلبه كل محبوب، فكان قولُه وفِعْلُه وإرادتُه، ومعيشتُه وكسبُه وحياتُه، تحركها هذه المحبة الغائرة في سويداء قلبه، فيبلغ العبدُ ذلك الوصفَ الذي قال الله فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
تلك عباد الله بعض الإشارات الدالة على صدق المحبة، وبضدها تتبيَّنُ الأَشْياءُ...
أروح وقـد ختمْتُ على فُـؤادي *** بحبك أن يَحُلَّ به سواكا
فلو أني استَطَعْتُ خفَضْتُ طرفي *** فلم أُبْصِرْ به حتى أَرَاكا
إذا اشْـتبكت دمـوع في خـدود *** تبيَّن مَنْ بَكى ممن تباكى .
اللهم إنا نسألك حبك، وحبَّ من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل من المحبوبين إليك، المقربين لديك...