خطبة بعنوان: الله بنفسه يُخبرنا عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم
الأستاذ الدكتور عدنان خطاطبة
خطبة بعنوان: الله بنفسه يُخبرنا عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(آل عمران،102). أما بعد:
نعيش في هذه الخطبة في ظلال سورة كريمة، في ظلال آيات كريمات، من كلام الله رب البريات، في ظلال سورة تكلم لنا الله سبحانه فيها عن سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالذي يقصّ علينا خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة نشأته، هو ربنا سبحانه، وأين يقصها علينا؟ في القرآن الكريم، في سورة جليلة، تُحدثك عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه السلام.
سورة من (11) آية كلها في خبر حياة أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، سورة ابتدأ الله بها حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم، بالقسم، والله تعالى لا يقسم إلا على شيء عظيم، وشأنٍ عظيم، فابتدأها بالقسم ليقول لك أن ما سيقصه عليك من خبر محمد صلى الله عليه وسلم هو شأن عظيم، فقال جل شأنه في سورة الضحي: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى).
(وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)): الواو، واو القسم، فربنا يقسم قسمين، قسم بالضحى وقسم بالليل إذا سجى، ولربنا أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، وليس لنا إلا أن نقسم بالله ربنا وبأسمائه وبصفاته سبحانه، ومن قسم ومن حلف بغير الله فقد ارتكب كبيرة من الكبائر.
فالله يقسم، ولكن بماذا يقسم، يقسم بالضحى أولا، وهو صدر النهار، وهي الساعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام، وهي الساعة التي ألقى فيها السحرة سجدا، (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)(طه،59)، ويقسم ربنا بالليل إذا سجى ثانيا، والليل إذا سجى، أي إذا سكن وأظلم وأدلهم.
ولماذا أقسم بالضحى وبالليل؟ لأنهما طرفا الزمان، والمكان الحركة والسكون، فالله أقسم بها، أقسم بالضحى وأقسم بالليل، ليقول الله بذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي ما ودّعك ربك يا محمد وما قلاك لا في ليل ولا في نهار، لا في زمان ولا في مكان، فاأنت في حفظ الله في كل زمان، وفي كل مكان في حياتك وبعد موتك.
(مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)، هذا جواب القسم المتقدم، أي: يقول الله: أقسم يا محمد بالضحى وأقسم بالليل إذا سجى، ما ودعك ربك وخالقك وحافظك وما قلاك، أي وما قطعك ربك، وما تركك، وما تخلى عنك، وما بغضك، وتأمل معي، قال: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ)، ولم يقل ما ودعك الله، لإفادة معنى الرب الربوبية والدبير والرعاية.
وقال المفسرون في مناسبة هذه الآية: أن جبريل عليه السلام– أبطأ– أي تأخر بالوحي– على رسول الله صلى الله عليه وسلم حوالي خمسة عشر يوما، فقال المشركون: ودّع محمدا ربه، وأتته امرأة أبي لهب، فقالت له: ما أرى شيطانك إلا قد تركك.
(مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى). وهكذا فإن الله لا يترك عبده المؤمن، ولا يضيع أمته المؤمنة، ولا يضيع أجر من أحسن عملا، ولكن الله يتخلى عن العبد الذي يتخلى عن دينه، ويتخلى عن الأمة التي تتخلى عن شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم،, فيرس لها العدو ليسومها سوء العذاب، كمال حال أمتنا اليوم؛ لأنها تخلت عن شريعة رب الأرباب، ومن نسي الله، أنساه الله نفسه وأهلكه.
أيها المؤمنون:
يقول ربنا سبحانه وهو يحدثنا عن حياة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)).
يقول الله لنبي، لقدوتنا صلى الله عليه وسلم، الدار الأخرة خير لك من هذا الدار الفانية، لأن ما في الدنيا إلى زوال، وما في الآخرة إلى بقاء، (مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(الشورى،36)، (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(الأعلى،17). ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأشدهم طرحا لها، ولقد سخرها كلها لخدمة الدين ورضاء الله، ما نافس عليها أحدا، وما تشرفت لها نفسه الكريمة صلوات ربي وسلامه عليه، من مبدأ حياته إلى وسطها إلى أخرها، فقد جاءه جبريل عليه السلام في أول حياته، كما في دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَائِشَةُ لَوْ شِئْتُ لَسَارَتْ مَعِي جِبَالُ الذَّهَبِ جَاءَنِي مَلَكٌ إِنْ حُجْزَتَهُ لَتُسَاوِي الْكَعْبَةَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ إِنْ شِئْتَ عَبْدًا نَبِيًّا وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا فَنَظَرْتُ إِلَى جَبْرَئِيلَ فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ فَقُلْتُ: نَبِيًّا عَبْدًا". وفي وسط حياته ، كذلك كانت حاله مع الدنيا، ففي صحيح البخاري من حديث طويل، قال عمر رضي الله عنه: "فَجِئْتُ الغُلاَمَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا، فَإِذَا الغُلاَمُ يَدْعُونِي قَالَ: أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ"، ويقول عمر رضي الله عنه: "ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ البَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: (أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا).
وهكذا استمرت حاله مع الدنيا حتى آخر عمره صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: (إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ) فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ، وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ البَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى). فَقُلْتُ: إِذًا لاَ يَخْتَارُنَا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى).
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4))، خير لك وخير لأتباعك، ولأنصارك، للمهتمين بهديك، للمتمسكين بسنتك، للذابّين عن عرضك، للمجاهدين لأعدائك، للداعين إلى سبيلك.
أيها المؤمنون:
يقول ربنا سبحانه وهو يحدثنا عن حياة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)).
قال ابن عاشور: " هُوَ كَذَلِكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْقَسَمِ كُلِّهَا وَحَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ الْمَوْعُودَ بِهِ مُسْتَمِرٌّ لَا يَنْقَطِعُ. وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ يُعْطِيكَ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يَرْجُوهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْرٍ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ فَكَانَ مُفَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعْمِيمَ الْعَطَاءِ كَمَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا تَعْمِيمَ الْأَزْمِنَةِ. وَجِيءَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي فَتَرْضى لِإِفَادَةِ كَوْنِ الْعَطَاءِ عَاجِلَ النَّفْعِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهِ رِضَى الْمُعْطَى عِنْدَ الْعَطَاءِ فَلَا يَتَرَقَّبُ أَنْ يَحْصُلَ نَفْعُهُ بَعْدَ تَرَبُّصٍ. وَتَعْرِيفُ رَبُّكَ بِالْإِضَافَةِ دُونَ اسْمِ اللَّهِ الْعَلَمِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ لَفْظُ (رَبُّ) مِنَ الرَّأْفَةِ وَاللُّطْفِ، وَلِلتَّوَسُّلِ إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِشْعَارِ بِعِنَايَتِهِ بِرَسُولِهِ وَتَشْرِيفِهِ بِإِضَافَةِ رَبُّ إِلَى ضَمِيرِهِ. وَهُوَ وَعْدٌ وَاسِعُ الشُّمُولِ لِمَا أُعْطِيَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِأَعْدَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا وَمَا فُتِحَ عَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا".
وفي صحيح البخاري، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)(إبراهيم،36) الْآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(المائدة،118)، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي)، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟) فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: (يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ).
أيها المؤمنون:
يقول ربنا سبحانه وهو يحدثنا عن حياة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)).
قال السعدي: "أي: وجدك لا أم لك، ولا أب، بل قد مات أبوه وأمه وهو لا يدبر نفسه، فآواه الله، وكفله جده عبد المطلب، ثم لما مات جده كفله الله عمه أبا طالب، حتى أيده بنصره وبالمؤمنين". وقال ابن كثير: "ثُمَّ قَالَ تعالى يعدد نعَمه عل عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ تُوفّي وَهُوَ حَملٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَقِيلَ: بَعْدَ أَنْ وُلِدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سِتُّ سِنِينَ. ثُمَّ كَانَ فِي كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانِ سِنِينَ، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ ويَرفع مِنْ قَدره وَيُوقّره، وَيَكُفُّ عَنْهُ أَذَى قَوْمِهِ بَعْدَ أَنِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ، هَذَا وَأَبُو طَالِبٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ وحُسن تَدْبِيرِهِ، إِلَى أَنْ تُوفي أَبُو طَالِبٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَلِيلٍ، فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وجُهالهم، فَاخْتَارَ اللَّهُ لَهُ الْهِجْرَةَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِلَى بَلَدِ الْأَنْصَارِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، كَمَا أَجْرَى اللَّهُ سُنَّته عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ وَالْأَكْمَلِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ آوَوه ونَصَرُوه وَحَاطُوهُ وَقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ حِفْظِ اللَّهِ لَهُ وَكِلَاءَتِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِ".
ولم ينس النبي صلى الله عليه وسلم، مرارة اليتم، ولذلك أوصى باليتامى، ففي صحيح البخاري، نْ سَهْلٍ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا) وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
أيها المؤمنون:
يقول ربنا سبحانه وهو يحدثنا عن حياة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)).
قال ابن كثير: "قَوْلُهُ: (وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى) كَقَوْلِهِ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الشورى،52). وقال السعدي: "أي: وجدك لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان، فعلمك ما لم تكن تعلم، ووفقك لأحسن الأعمال والأخلاق".
أيها الأخوة: فليس معنى الآية أنه صلى الله عليه وسلم كان على الشرك أو الكفر أبدا، فكل الأنبياء كانوا على التوحيد قبل البعثة، ولكن المعنى كنت لا تعلم أصول الدين وتفاصيل الشريعة وآيات القرآن، فهداك الله إلى ذلك كله، ومن أعظم منّه الله على عبده هدايته. ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم بتقدير هذه النعمة، فشكر الله عليها بعبادته لله، ثم قام بهداية الناس إلى ما هداه الله إليه، وعمل على إنقاذهم من الضلال.
(وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى(8)). قال ابن كثير: "وَقَوْلُهُ: (وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى) أَيْ: كُنْتَ فَقِيرًا ذَا عِيَالٍ، فَأَغْنَاكَ اللَّهُ عَمَّنْ سِوَاهُ، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ مَقَامَيِ، الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ". وقال السعدي: "أي: فقيرًا (فَأَغْنَى) بما فتح الله عليك من البلدان، التي جبيت لك أموالها وخراجها".
جاء في تفسير ابن كثير: "قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى)، قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ مَنَازِلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ".
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
أيها المؤمنون:
وختام حديث ربنا العظيم عن حياة نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، تلكم الآيات الثلاث، التي قال الله فيها:(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)).
قال الشوكاني: "ثُمَّ أَوْصَاهُ سُبْحَانَهُ بِالْيَتَامَى وَالْفُقَرَاءِ فَقَالَ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أَيْ: لَا تَقْهَرْهُ بِوَجْهٍ مِنْ وجوه القهر كائنا ما كَانَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُحَقِّرِ الْيَتِيمَ فَقَدْ كُنْتَ يَتِيمًا. قَالَ الْأَخْفَشُ: لَا تَسَلَّطْ عَلَيْهِ بِالظُّلْمِ، ادْفَعْ إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَاذْكُرْ يُتْمَكَ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ، فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ زَجْرِ السَّائِلِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ، وَلَكِنْ يبذل الْيَسِيرَ أَوْ يَرُدُّهُ بِالْجَمِيلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
يُرِيدُ السَّائِلَ عَلَى الْبَابِ، يَقُولُ: لَا تَنْهَرْهُ إِذَا سَأَلَكَ فَقَدْ كُنْتَ فَقِيرًا، فَإِمَّا أن تُطْعِمُهُ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّهُ رَدًّا لَيِّنًا. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاه رُدَّ السَّائِلَ بِرَحْمَةٍ وَلِينٍ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّحَدُّثِ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِظْهَارِهَا لِلنَّاسِ وَإِشْهَارِهَا بَيْنَهُمْ، وَالظَّاهِرُ النِّعْمَةُ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا أَوْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَ".
وقال السعدي: "(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي: لا تسيء معاملة اليتيم، ولا يضق صدرك عليه، ولا تنهره، بل أكرمه، وأعطه ما تيسر، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك. (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي: لا يصدر منك إلى السائل كلام يقتضي رده عن مطلوبه، بنهر وشراسة خلق، بل أعطه ما تيسر عندك أو رده بمعروف وإحسان. وهذا يدخل فيه السائل للمال، والسائل للعلم، ولهذا كان المعلم مأمورًا بحسن الخلق مع المتعلم، ومباشرته بالإكرام والتحنن عليه، فإن في ذلك معونة له على مقصده، وإكرامًا لمن كان يسعى في نفع العباد والبلاد. (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية (فَحَدِّثْ) أي: أثن على الله بها، وخصصها بالذكر إن كان هناك مصلحة.
وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق، فإن التحدث بنعمة الله، داع لشكرها، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن".
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة.
المرفقات
1610096919_الله بنفسه يُخبرنا عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم.docx