(خطبة) بر الوالدين
خالد الشايع
خطبة عن بر الوالدين 12/6/1446
أما بعد فيا أيها الناس : لقد عظم الله سبحانه حق الوالدين في كتابه حتى قرنه بحقه سبحانه فقال ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا )
بل أوصى جل جلاله بالإحسان إليهما وصحبتهما بالمعروف ولو كانا كافرين، ولكن لا يطيعهما في معصية الله والإشراك به، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 14، 15].
وكان من صفات أنبياء عليهم السلام الله التي مدحهم الله بها بر الوالدين؛ كما قال عن يحيى عليه السلام: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ [مريم: 14]، وقال سبحانه وتعالى عن عيسى عليه السلام: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 32].
عباد الله، المقصود ببرِّ الوالدين: الإحسان إليهما بجميع وجوه الإحسان، قولًا وفعلًا، الإحسان بالكلام الطيب وخفض الصوت، والصلة المستمرة، والإحسان بالخدمة وبذل المال وقضاء الحوائج، والرّفق بهما بمراعاة المشاعر وجبر الخواطر، والبحث عن رضاهما وتحصيل محبوباتهما.
و لقد وردتْ النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة مرغبةً في بر الوالدين محذرةً من عقوقهما، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24] ففي هذا الآية يأمر سبحانه وتعالى بعد الأمر بعبادته والنهي عن الإشراك به، ببرِّ الوالدين والإحسان إليهما، وطيب الكلام معهما، خصوصًا حالَ الكِبَر، حيث يَضعف الوالدان ويحتاجان إلى مزيد عناية وخدمة، وقد يصدر منهما ما لا يتوافق مع رغبة الابن، وينهى سبحانه عن نهرهما والإغلاظ عليهما، حتى إنه سبحانه وتعالى نهى عن مجرد التَأفُّف لهما الذي هو علامة على عدم الرضا، ثم يرسم جلَّ وعلا صورةً بليغة للرِّفق بهما واللين معهما، وهي خفض الجناح لهما، تشبيهًا بالطائر الذي يخفض جناحه لفراخه حُنُوًّا عليهما، ثم يأمر سبحانه وتعالى بالدعاء لهما جزاءَ ما قدَّما للولد حال صغره من عناية وتربية.
كما وردت الأحاديث الكثيرة في فضل بر الوالدين وتحريم عقوقهما، ومخالفة أمرهما، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بِرَّ الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله؛ كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحب إلى الله؟! قال: "الصلاة على وقتها"، قلت: ثم أي؟! قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟! قال: "الجهاد في سبيل الله".
وفي الصحيحين أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: "أَحيٌّ والدك؟"، قال: نعم قال: "ففيهما فجاهد"
ففي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم بِرَّ الوالدين من الجهاد، وأمر هذا الرجل بالرجوع إليهما، وترك جهاد التطوُّع،
وأخرج النسائي في سننه أَنَّ جَاهِمَةَ السُّلمي جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أردت الغزو، وجئتك أستشيرك، فقال: "هل لك من أم؟!"، قال: نعم، فقال: "الزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «رَغِمَ أَنْفُ، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف»، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر، أحدَهما أو كليهما فلم يدخل الجنة».
ولما ماتت أُمُّ إياس بنِ معاوية بكى فقيل له: ما يبكيك؟! قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، وأغلق أحدهما.
والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة، والسعيد من وُفِّق لبر والديه والإحسان إليهما، فإن في برِّهما خيري الدنيا والآخرة، والشقي من عقَّهما وخالَف أمرهما وأغضبهما، وسيندم لا محالة في الدنيا أو الآخرة.
عباد الله، إن برَّ الوالدين دَينٌ يجد البارُّ وفاءَه، وكما تدين تُدان، وإن من ثمراته العاجلة أن يجد الإنسانُ ذلك في أولاده، فَيَبَرُّه أولادُه، ويُحسنوا إليه كما برَّ والديه وأحسن إليهما، وهذا أمرٌ مشاهد، وإن لم يثبت بذلك حديث صحيح.
أيها الشاب المسلم، اعلَم أن بِرَّكَ بوالديك وطاعتك لهما، عنوانُ رجولتك ودليل مرؤتك، وأَمَارة نُبلك، وسبب سعادتك في الدارين.
إن والديك هما سبب وجودك، وأرحم الناس بك، وأقرب الناس إليك، يشقيان في هذه الحياة لتسعد، ويتعبان لتستريح، ويجوعان لتشبع، يُعطيانك من غير مَنٍّ ولا أذًى.
إياكَ إياك أن تُقدِّمَ مصلحتك الشخصية أو رغباتِ أصدقائك، أو هوى زوجتك على رضا والديك، فإنهما أحقُّ الناس بحُسن صحبتك، ففي الصحيحين أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من أَحَقُّ الناس بحسن صحابتي؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أبوك" .
وإن من الخطأ الذي يقع فيه بعض الشباب الغفلةَ عن والديه والانشغال عنهما، بدعوى طلب العلم أو حفظ القرآن، أو الدعوة إلى الله، وهذا من تقديم المستحب على الواجب، وارتكاب المحظور من أجل تحصيل المندوب.
قال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: "تعشَّ العشاء مع أمِّك تَقَرُّ به عينُها، فهو أحب إليَّ من حَجَّةٍ تحجُّها تطوعًا".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فبرُّ الدين لا ينقطع بموتهما - ولله الحمد - بل هو متصلٌ بعد الموت، وذلك بالدعاء لهما، والصدقة عنهما، وصلة رحمهما، والإحسانِ إلى صديقهما، فقد أخرج الإمام أحمد من حديث مالك بن ربيعة الأسلمي، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هل بَقِيَ عليَّ من برِّ أبوي شيءٌ بعد موتهما أبرُّهما به؟! قال: "نعم، خصالٌ أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رَحِمَ لك إلا مِن قِبَلِهما، فهذا الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما".
وأخرج مسلم في صحيحه أن ابن عمر رضي الله عنهما لَقِيَه رجلٌ بطريق مكة، فسلَّم عليه عبدالله، وحمله على حمار كان يركبُه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلَحك الله، إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير، فقال عبدالله: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبرَّ البر صلةُ الرجلِ أهلَ وُدِّ أبيه".
ولعلَّ اجتهادك في برهما بعد موتهما، يَمحو تقصيرك في حقهما حال حياتهما، أخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَمُوتُ وَالِدَاهُ أو أَحَدُهُمَا، وَإنه لهما لَعَاقٌّ، فلا يزالُ يدعو لهما، ويستغفرُ لهما، حتى يَكْتُبَهُ اللهُ بَارًّا"؛
عبد الله : هذان هما والداك..كم آثراك بالشهوات على النفس، ولو غبت عنهما صارا في حبس، حياتهما عندك بقايا شمس،لقد راعياك طويلا فارعهما قصيرا: ( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).
كم ليلة سهرا معك إلى الفجرِ، يداريانك مداراة العاشق في الهجرِ، فإن مرضت أجريا دمعا لم يجر، لم يرضيا لك غير الكف والحجر سريرا فـ : (قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).
يعالجان أنجاسك ويحبان بقاءك، ولو لقيت منهما أذى شكوتَ شقاءك ،كم جرعاك حلوا وجرعتهما مريرا ، فهيا برهما ولا تعصهما وقل: (رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).
قال رجل لعمر بن الخطاب: "إن لي أمًّا بلغ منها الكبر، أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية (أي أنه يحملها إلى مكان قضاء الحاجة) فهل أديت حقها؟ قال عمر: لا؛ لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تفعله وتتمنى فراقها".
وشهد عبد الله بن عمر رجلاً يمانيًّا يطوف بالبيت قد حمل أمه على ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل.. ... ..إن أذعرت ركابها لم أذعر
الله ربي ذو الجلال الأكبر
حملتها أكثر مما حملت .. .. .. فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟
فقال ابن عمر: لا ، ولا بزفرة واحدة.
أخرج أبو داود في سننه من حديث عائشة قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم يوما: "دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت : من هذا؟ فقيل:حارثة بن النعمان،فقلت كذلكم البر، كذلكم البر". وكان حارثة أبر الناس بأمه.
اللهم ارزقنا البر بوالدينا أحياء وأمواتا
المرفقات
1734011386_بر الوالدين.docx